من معرض القاهرة الدولي للكتاب - أرشيفية

في الثقافة.. مصر أم الدنيا أحيانا

منشور الثلاثاء 16 مايو 2017

التواجد داخل معرض أبو ظبي الدولي للكتاب يدفع الزائر  لعقد المقارنات مع معرض القاهرة الدولي، الأقدم في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وأحد أكبر معارض الكتب فى العالم.

ففى الوقت الذي يظل فيه معرض القاهرة مجرد سوق لبيع الكتاب بين الناشرين والقراء؛ تأسس معرض أبو ظبي بشكل مختلف، فهو معرض مهني لتبادل الخبرات والتجارب بين الناشرين، يستمر لمدة 7 أيام فقط، تشهد العديد من حلقات النقاش حول صناعة النشر وتطورها، وتظل عمليات بيع الكتب للقراء في خلفية المشهد. وهي نفس آلية عمل معرض فرانفكورت الذي يشهد أكبر تجمع للناشرين في العالم في أكتوبر من كل عام.

                               

طوابير أمام معرض القاهرة الدولي للكتاب

عقد المقارنات بين مصر وأى دولة خليجية أو عربية مسألة مربكة نوعا، فأغلب المصريين يرفضون عقد المقارنات بمنطق أن "مصر أم الدنيا". لكن المقارنة بين معرضي القاهرة و"أبو ظبي" ليست الغاية منها الوصول لقطع بأفضلية أحدهما على الآخر، بل البحث عما قد يكون أفضل بالنسبة للمعرض المقام في العاصمة المصرية.

هوّة التنظيم 

 علينا أن نتذكر مثلاً أن "أم الدنيا" لم يعد لديها أرض مجهزة لاستقبال معرض الكتاب منذ سبع سنوات، فأرض المعارض التي يقام فيها المعرض لا تزال ساحاتها تشهد أعمال الصيانة والإصلاحات منذ 2009 حتى الآن، كما أنها مجرد أرض شاسعة تنصب فيها الخيام قبل المعرض بأيام، حين تسير داخلها تشعر أنك تسير في الصحراء وليس في مركز المعارض التابع لوزارة التجارة والصناعة المصرية.

على الجانب الآخر، حين وصلت إلى الفندق الذي سأقيم به في أبي ظبي خلال فعاليات الدورة 27 للمعرض، التي أقيمت بين 26 أبريل/ نيسان حتى 2 مايو/ أيار،  سألت عن معرض الكتاب، فأخبرني الموظف أن الفندق تأسس في قلب أرض المعارض.

ليس عليك إلا أن تسير فى ممر داخل الفندق لتصل إلى مركز المعارض بقاعاته المصممة على أحدث الأنظمة العالمية. الشيء الذي يلفت انتباهك من اللحظة الأولى هو النظام وسهولة الوصول لأي شيء، فكل جناح للبيع داخل المعرض يحمل رقما يسهل الوصول إليه، بينما يعتبر الوصول إلى مكتبة أو دار نشر بعينها في معرض الكتاب مستحيلاً لو لم تكن زائرًا محترفًا للمعرض كل عام. حاولت الهيئات المتدخلة في تنظيم معرض القاهرة تطبيق نظام مماثل للموجود بمعرض أبو ظبي في 2015، لكن المحاولة باءت بالفشل وعاد المعرض سريعا إلى ما كان عليه.

نجاح دعائي

هناك فارق كبير أيضًا في القدرة على الترويج للأنشطة المميزة ثقافيًا بين مصر والإمارات، تظهر في حال معرضي الكتاب والأنشطة المصاحبة لهما.

فعلى سبيل المثال، شهد معرض أبو ظبي فى دورته الأخيرة توقيع 500 اتفاقية تعاون بين مختلف دور النشر أبرزها توقيع اتفاقية لتأسيس أول دار نشر صينية- إمارتية. وتعد هذه الاتفاقية هي الثانية عربيا بعد تأسيس دار نشر «جيلي» الصينية لطبع كتب الأطفال فى القاهرة، وهي أول دار نشر أجنبية تحصل على ترخيص عمل فى مصر.

 في أبو ظبي حظت اتفاقية تأسيس دار النشر  باهتمام وسائل الإعلام باعتبارها الأولى فى الإمارات والخليج، أما في القاهرة فمر الحدث في صمت، رغم أن الدار الصينية هي أول دار نشر أجنبية (غير عربية) تحصل على ترخيص للنشر في مصر والعالم العربي.

في مصر، يمر كل شيء بهدوء دون أن يشعر أحد، كما حدث مع احتفالات الأقصر عاصمة الثقافة العربية التي رفضت وزارة الثقافة دعوة الإعلاميين لمتابعة فعالياتها، وكأن الاحتفال بها شيء معيب تسعى الوزارة لإخفائه.

الثقافة لمن؟ 

 

من الأساطير التي تحطمت على عتبات معرض أبو ظبي مقولة أن العرب لا يقرأون  - و"العرب" هنا تضم مصر أيضا -  ورغم أن عمر دولة الإمارات العربية المتحدة يعود لسبعينات من القرن الماضي فقط، إلا أنها استطاعت خلال تلك العقود القليلة أن تصبح ظاهرة في الثقافة. 

 

من معرض أبو ظبي للكتاب في دورته الأخيرة 

فحسب دراسة غير منشورة للدكتور خالد الغمري أستاذ مساعد المعلوماتية واللغويات الحاسوبية بجامعة عين شمس، تحتل الإمارات المرتبة رقم 26 عالميا فى عدد مستخدمي شبكة جودريدز برقم  263 ألف مستخدم.

تتقدم مصر على الإمارات في إحصائيات الموقع وتحتل الموقع 11 على العالم من حيث عدد المستخدمين بعدد 509 ألف مستخدم. ولكن بمقارنة التعداد السكاني للإمارات (9.2 مليون نسمة) ومصر (91.5 مليون نسمة)سنجد أن تعداد المداومين على القراءة في الإمارات أكبر. 

ولا يظهر الثقل الثقافي في ثقل المعارض دوليًا وعدد القراء في الدولتين فقط؛ بل في الجوائز التي جعلت الإمارات تعد قبلة أعين الكتاب العرب والناشرين الدوليين الراغبين في فتح مساحات للتبادل الثقافي، فالإمارات هي الدولة التي تُمنح فيها جائزة الشيخ زايد للكتاب والجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر» المقدمة بالتعاون مع جائزة مان بوكر البريطانية. وجائزة الشارقة للابداع العربي.

الاهتمام الكبير من دولة الإمارات بالتنمية الثقافية دفع بلدان عربية أخرى إلى تدشين جوائز أدبية أو فعاليات ثقافية، تسعى لمجاراة الزخم الثقافي الذي أحدثته الإمارات فى المحيط العربي، فأسست قطر جائزة «كتارا»، وأسست الكويت جائزة «الملتقى» للقصة القصيرة بالتعاون مع الجامعة الأمريكية بالكويت. وبقت مصر خارج هذا الحقل إلا من جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعةالأمريكية في القاهرة وجوائز ملتقيات الشعر والرواية والقصة القصيرة التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة، وإن شارك المبدعون المصريون في المنافسة على تلك الجوائز العربية المتعددة. 

موقف المبدعين المصريين مفهوم في ظل ما يجري في مصر، ففي حين تهتم الدول العربية بدعم المشاريع الثقافية وتأسيس الجوائز الأدبية؛ تعمل مصر على إلغاء جوائز مهمة كما حدث مع جائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة المقدمة من المجلس الأعلى للثقافة والتي توقف العمل بها منذ عام 2012 دون إبداء أسباب حتى الآن، رغم أنها جائزة مهمة وذات مصداقية في المشهد الثقافي المصري.

 كما لا تحظى الجائزة العربية المهمة التي لا زالت تُمنح من القاهرة "نجيب محفوظ" بذات الاهتمام الإعلامي والمتابعة التي تحظى بها الجوائز العربية الأخرى، رغم اهتمام الأدباء العرب بالتواصل معها واعتزازهم حين يعلن فوز أيهم بها.

المُحصلة الثقافية والاقتصادية

ما تقدمه الإمارات بهذا الشكل من تنمية ثقافية وما تسعى لتقديمه دول عربية أخرى، يعكس الثقل الاقتصادي والسياسي للدولة الشابة التي يبلغ عمرها عدة عقود، لكنها صارت من أكثر الدول العربية ثقلا وتأثيرًا على مستويي السياسية والاقتصاد.

الإمارات تنظر للثقافة باعتبارها اقتصادا قد يعود بالدخل المادي وليس المعنوى فقط. والأثر الاقتصادي لتفاوت اهتمام دولتي مصر والإمارات بصناعة الكتاب؛ نستطيع النظر إليه من خلال تقرير اتحاد الناشرين الدوليين لعام 2012، الذي قدَّر حجم ما ينفقه القراء على الكتب حول العالم  بـ 114 مليار يورو.

هذا السوق الضخم يهيمن عليه 6 أسواق، مقتطعة نحو ثلثي القيمة العالمية مما ينتجه الناشرون. تتصدر الولايات المتحدة الأسواق الستة، بواقع 26% من القيمة الإجمالية لصناعة النشر، تليها الصين بواقع 12%، ثم ألمانيا بنسبة تصل إلى 8%. في المرتبة الرابعة تأتي اليابان بنسبة 7%، ثم فرنسا خامسة بنسبة 4%، من حصة سوق النشر العالمية، ومن بعدها بريطانيا بنسبة 3%، وتنتزع بقية الأسواق العالمية مجتمعة 39% من إجمالي صناعة النشر. بينما الدول العربية مجتمعة لا تظهر ضمن قائمة أكبر 20 سوق للكتاب، رغم أن سوق النشر العربي له قاعدة قراء لا تقل عن 480 مليون نسمة بحسب التقديرات الأخيرة لعدد المتحدثين بالعربية. 

الأثر الباقي 

                             

من الدورة الأخيرة لمعرض أبو ظبي للكتاب 

غير أن السؤال الذي يشغل أى مهتم: هل حققت هذه الفعاليات تنمية ثقافية حقيقية لشعب الإمارات؟ أم أن الفائدة تعود فقط على الدول العربية المحيطة؟ والتي باتت مشاركتها فى هذه الفعاليات أساسية بعد أن ساهمت الأنشطة الثقافية الإماراتية في تغيير خريطة مبيعات الكتاب فى معظم البلدان العربية، متأثرة بنتائج الجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر»، التي دفعت أدباء عرب للشهرة السريعة فى بلدانهم.

ربما يجيب على هذا السؤال  ما حدث أثناء تجوالي داخل معرض أبو ظبي الدولي للكتاب حين سمعت إيقاعات موسيقى الراب تخرج من إحدى قاعاته، يغني كلماتها شاب إماراتي فى حضور الشيخات وكبار رجال الدولة. ورغم أن فقرة موسيقى الراب لم تكن مدرجة ضمن البرنامج الثقافي لفعاليات المعرض؛ إلا أن منظمي الملتقى قرروا تقديم  الشاب للجمهور بعد أن قوبلت رغبته فى غناء الراب برفض الأسرة. فى سعي رسمي لدعم الثقافة بأشكالها المختلفة.

 

ومع استقبال معرض أبو ظبي لـ 50 ألف طالب من مراحل التعليم المختلفة أثناء دورته المنتهية، يظهر كيف تهتم الدولة بالأجيال الجديدة، المسألة التي تظهر بقوة مع تدشين قانون القراءة فى الإمارات، والسعي لتأسيس أضخم مكتبة في العالم العربي داخل دبي باستثمار يبلغ 367 مليون دولار، وتستهدف إمارة دبي الوصول بمقتنيات تلك المكتبة إلى 2.4 مليون كتاب مطبوع وإليكتروني ومسموع.

وبالعودة إلى القاهرة، سنرى تراجعًا في صناعة النشر مع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي انعكست في الزيادة الهائلة في أسعار الكتب وتراجع مبيعاتها، إلى جانب انتشار الكتب المزورة، ما ينعكس في الأرقام المعبرة عن صناعة النشر والقراءة في مصر.

 وتزداد المسألة سوءا حين ندرك أن القوانين الخاصة بصناعة النشر فى مصر لم تتغير منذ 60 عاما، والأغرب أيضا أن اتحاد الناشرين فى مصر -المسؤول عن حماية الكتاب- يقبل عضوية مزوري الكتب بحسب هذا التحقيق الذي نشرته صحيفة القاهرة.

مؤكد أرى مصر أم الدنيا وأحبها،  لكن لو أغفلنا هذا التراجع الذي يحدث، دون عقد المقارنات مع تطور حقيقي يحدث فى الدول العربية المجاورة، ستأتي أجيال لا تجد ما تتباهى به كما نتباهى نحن بما تركه الراحلون.