صفحة مجلس الوزراء على فيسبوك
وزير المالية محمد معيط، أبريل 2024

متى لا يكون السلف "تلفًا"؟

منشور الأحد 5 مايو 2024

يقول المثل الشعبي السلف تلف والرد خسارة، ورغم تعدد تفسيراته وتضاربها، فإنَّ المتفق عليه هو الموقف السلبي تجاه فكرة الاستدانة.

ويعكس التاريخ الحديث لمصر صورة شبيهة لذلك "التلف"، حيث كان لدينا ارتباط واضح بين تضخم الدين الخارجي من جهة، وفقدان السيادة والاستقلال والتعرض للاستغلال والتقليل من الكرامة الوطنية من جهة أخرى. وهو ما ساعد على انتشار سردية شعبية مستمرة ومتجددة، تُسقِط هذا التصور السلبي عن الاستدانة على مستوى الدولة، ولا تقصرها على الفرد أو الأسرة.

لكن هل كل الدول التي توسعت في الاستدانة وصلت لنفس النتيجة؟ الواقع أنَّ في تجارب العديد من البلدان ساهمت الديون في دفع النمو والتنمية الرأسمالية، خاصة الدين الحكومي، إذا ما استخدم لأغراض إنتاجية؛ أي للاستثمار.

بل إن صعود قوى كبرى مثل بريطانيا في القرن التاسع عشر لتصبح أهم إمبراطورية بحرية في التاريخ الحديث، ارتبط، طبقًا لكثير من المؤرخين، بوجود مؤسسات مالية قوية مكنت الحكومة من التوسع في الاستدانة لتمويل عملياتها العسكرية، ومن ثم توسيع طرق التجارة وزيادة المستعمرات.

ويذهب المؤرخون مذهبًا شبيهًا عند الحديث عن صعود الولايات المتحدة الاقتصادي حتى النصف الأول من القرن العشرين، الذي اعتمد بقوة على دور مؤسسات مالية وفرَّت الأموال ليس فحسب للحكومة، ولكن أيضًا للمستثمرين في قطاعات حيوية وقتذاك، كالحديد والصلب والمناجم والسكك الحديدية والنقل النهري والبحري وبناء السفن. وهو ما مكَّن من توليد معدلات نمو غير مسبوقة، ساعدت الولايات المتحدة في فترة لاحقة أن تحل محل بريطانيا كمركز للنظام الرأسمالي العالمي، بعد الحرب العالمية الثانية.

استدن لتصبح مثل كوريا!

عودة لمصر، فإنَّ البلاد من حيث المبدأ في حاجة قوية لاجتذاب رؤوس أموال حتى تتمكن من النمو وخلق فرص العمل، وذلك لأن قدرة الاقتصاد على توليد مثل هذه الفوائض محدودة، مثل حال عشرات الدول المسماة بالنامية أو دول الجنوب العالمي.

تزداد هذه الحاجة في مصر مع اعتمادنا القوي على استيراد الكثير من أدوات الإنتاج، وعلى رأسها السلع الرأسمالية كالماكينات والأجهزة وأشكال التكنولوجيا الحديثة، بجانب المواد الخام والسلع الوسيطة. وهو ما يتطلب الإتيان برؤوس أموال من خارج الاقتصاد بالنقد الأجنبي، ويكون هذا إما في صورة استثمار مباشر إذا تيسر وجوده، أو من خلال الاقتراض الخارجي.

توحي الصورة العامة أن تضخم الدين العام في مصر لم يكن مرتبطًا بنسب مرتفعة للاستثمار

يأخذنا ذلك لمسار بديل نسبيًا عن الديون، فالصين قدمت نموذجًا مهمًا للقدرة على جذب النقد الأجنبي والسيولة الخارجية خلال العقود الماضية عن طريق الاعتماد على الاستثمار الأجنبي المباشر، أي استثمار الأجانب في إنشاء مجالات إنتاجية في البلاد، أو استحواذهم على أنشطة إنتاجية قائمة بالفعل، ما مكَّنها من تحقيق انطلاقها الصناعي التصديري.

لكن في مقابل التجربة الصينية لدينا نموذج كوريا الجنوبية، التي اعتمدت على الاستدانة الخارجية بشكل مكثف منذ سبعينيات القرن الماضي حتى مطلع القرن الحالي، واستطاعت أيضًا أن تحقق نجاحًا اقتصاديًا كبيرًا لا تزال أدبيات التنمية تتحاكى به.

يشعرنا ذلك لوهلة أنَّ الديون مصدر قوة للاقتصاد، خاصة إذا لم تتمكن البلاد من جذب استثمارات كثيفة كما في الحالة الصينية، لكن مقابل هذه التجارب الناجحة، تصدمنا تجارب العديد من الدول التي اعتمدت على التوسع في الاقتراض، لا سيما الخارجي، لتمويل خططها التنموية، وانتهى بها الأمر إلى أزمات مالية وصلت أحيانًا إلى الإفلاس.

تكوين رأسمالي متواضع 

أين الحقيقة إذن في ظل صورة معقدة بهذا الشكل، تزخر بنماذج ونماذج عكسية؟ قد يقدم ارتباط الاقتراض بالاستثمار تفسيرًا منطقيًا إلى حد كبير، بمعنى أنَّ التوسع الحكومي في الاقتراض لتمويل الاستثمار من شأنه أن يعود إيجابًا على قدرة هذه الحكومة على توليد عوائد تُمكِّنها من سداد الديون.

ويعني هذا بالطبع ضرورة أن تكون الاستثمارات في قطاعات تنموية، وفي حالة الاستدانة الخارجية يكون الاستثمار في القطاعات التصديرية هو الخيار الأمثل، لأنَّ هذه الأنشطة تأتي للاقتصاد بما يحتاجه من مداخيل تساعده على الوفاء بالتزاماته الخارجية.

في الحالة المصرية، تضاعف رصيد الدين العام الخارجي خلال السنوات العشر الأخيرة أربع مرات تقريبًا، ومعه ارتفاع شبيه في نسبة الدين من الناتج المحلي الإجمالي. وعلينا ألا نغفل أيضًا دور الديون المحلية في الدين العام، بل إنها تمثل المكون الأكبر فيه، ليكون إجمالي الدين العام مساويًا تقريبًا للناتج المحلي الإجمالي (95.6% للدقة)، بحسب تصريحات وزير المالية نهاية العام الماضي، وهي واحدة من أعلى النسب في أوساط دول الجنوب العالمي.

فهل حققنا في الحالة المصرية هذا الارتباط بين الاقتراض والاستثمار؟ الإجابة المختصرة ستكون بالنفي.

أما الإجابة المطولة، فتنظر إلى ما يسميه الاقتصاديون "إجمالي التكوين الرأسمالي" كأداة لقياس نسبة الاستثمار من الناتج الإجمالي، وهو يعكس استثمارات القطاعين الخاص والعام ودورهما في الإضافة إلى رصيد رأس المال المتوفر لدى الاقتصاد، بما يشمل البنية الأساسية من طرق وكباري ومطارات وأنفاق ومواني، بالإضافة إلى الأجهزة والماكينات والجرارات والسفن وغيرها.

وبين عامي 2014 و2022، كان متوسط التكوين الرأسمالي الإجمالي في مصر 16.34%، وهي نسبة متواضعة إذا ما قورنت بالاقتصادات الصاعدة في شرق وجنوب آسيا مثل الصين والهند وتايلاند وفيتنام، التي تبلغ فيها نسب الاستثمار أكثر من ضعف ما هي عليه في مصر. هذا المتوسط أقل أيضًا من المتوسط الذي سجلته مصر في العشرية السابقة على ثورة يناير، التي كانت 18.93%، وهي بدورها نسبة ضعيفة من منظور مقارن.

لا يقف الأمر هنا، بل إن نسبة المصروفات الاستثمارية من إجمالي الإنفاق الحكومي ظلت متواضعة للغاية، إذ سجلت متوسطًا سنويًا 9.9% في الفترة 2014-2020، مقارنة بمتوسط سنوي 11.03%، متواضع هو الآخر، في السنوات بين 2006 و2010.

يعني ذلك أن جُلَّ الإنفاق الحكومي، بما يفوق نسبة 90%، كان ولا يزال موجهًا للمصروفات الجارية وعلى رأسها الأجور والدعم والمشتريات الحكومية، وإن أمسى نصيب الأسد يذهب لخدمة الدين العام الذي تمت مراكمته في السنوات الماضية، حتى تجاوزت خدمة الدين الإيرادات الحكومية في نهاية 2023، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ عشر سنوات.

توحي الصورة العامة إذن أن تضخم الدين العام في الحالة المصرية لم يكن مرتبطًا بنسب مرتفعة للاستثمار، سواء الاستثمار الكلي، أي الذي يشمل القطاع الخاص كذلك، أو الحكومي فحسب. 

وفي ظل غلبة الإنفاق الاستهلاكي، تحول الدين العام المحلي والخارجي على حد سواء إلى مصادر إضافية للنفقات الجارية التي تضيق من المساحة المالية المتاحة لتمويل الاستثمارات الحكومية. وبسبب الارتباط القوي بين دوافع الاستدانة والرغبة في تغطية نفقات جارية، فإن تضخم ديوننا الخارجية تحول تدريجيًا إلى أحد العوامل الضاغطة، خاصة مع التضاعف السريع لقيمة الدين خلال السنوات الأخيرة.