بعد نحو 40 عامًا على إصدار البيان الأول لتنظيم "ثورة مصر" الذي نفذ عمليات اغتيال ضد إسرائيليين وأمريكيين في ثمانينيات القرن الماضي، ظهر مجددًا اسم "ثورة مصر" في بيان منسوب لمجموعة أطلقت على نفسها "طلائع التحرير - مجموعة الشهيد محمد صلاح"، تبنت فيه اغتيال رجل أعمال إسرائيلي في الإسكندرية، وقالت إنه مرتبط بالموساد.
ومن خلال قراءة في البيان الصادر عن مجموعة الشهيد محمد صلاح، التي استدعت سليمان خاطر وأيمن حسن، ضمن مصادر إلهامها، إلى جانب تنظيم "ثورة مصر"، يبدو أن التنظيم حديث الولادة ينتمي فكريًا للتيار القومي وليس الأصولي الإسلامي. وأن أحد أعضائه على الأقل مدربٌ على حمل السلاح، بما يرجح أنه سبق تجنيده. فيعيدون للذاكرة التنظيم الأشهر "ثورة مصر" الذي نفّذ عدة عمليات قبل أن يتم القبض على أعضائه.
"ثأرًا للشهداء"
بعد سنوات قليلة من اغتيال إسلاميين أصوليين الرئيسَ أنور السادات لأنه "دخل إلى دائرة الكفر، ولم يحكم بما أنزل الله"، وفي ظل انشغال تلك الجماعات بجهادها ضد السوفيت في جبال ودروب أفغانستان، ثم حكومات الدول الإسلامية، كان الرأي العام المصري والعربي يتابع أخبار تنظيم مُسلح ينفذ عمليات اغتيال دبلوماسيين إسرائيليين في القاهرة.
في عددها الصادر 17 سبتمبر/أيلول عام 1987، نشرت جريدة الأهرام خبرًا يقول إن أجهزة الأمن وضعت يدها على تنظيم "إرهابي" ارتكب عدة جرائم ضد إسرائيليين وأمريكيين في مصر مؤخرًا، وأن هذا التنظيم يتزعمه محمود نور الدين.
نقلت "الأهرام" قرار النائب العام بحظر النشر في القضية، التي أدرك الجميع وقتها أنها تتعلق بتنظيم "ثورة مصر" الذي تتبع الجمهور أخباره منذ عمليته الأولى باغتيال رجل الموساد الإسرائيلي زيفي كيدرا، في 15 يونيو/حزيران 1984.
قاد تنظيم "ثورة مصر" الضابط والدبلوماسي السابق محمود نور الدين، الذي عمل في السفارة المصرية في لندن مختصًا بمتابعة النشاط الصهيوني في بريطانيا، ثم ترك العمل احتجاجًا على خطوات السادات بالتطبيع مع إسرائيل.
الدافع لاختيار العمليات المسلحة هو الشعور بالعجز إزاء مجازر العدو الصهيوني وغياب رد الفعل الرسمي عليها
ولدى عودته إلى القاهرة بعد سنتين من اغتيال السادات، بدأ نور الدين في تأسيس التنظيم، ليستهدف بشكل أساسي الدبلوماسيين الإسرائيليين في مصر، وعلى رأسهم السفير موشيه ساسون، "نظرًا لارتباطهم بأجهزة استخبارات العدو"، حسبما ذُكر في بيان التنظيم الأول.
نجح نور الدين في تجنيد عدد من ضباط وجنود الجيش السابقين، وانضم إليه عدد من المدنيين من أصدقاء شقيقه أحمد عصام.
ومع تعذُّر تنفيذ عملية اغتيال السفير الإسرائيلي، اعترض أعضاء التنظيم سيارة زيفي كيدرا مسؤول الأمن بالسفارة، وكادوا يقتلونه لولا تدخل الشرطة، ولكنَّ نور الدين ورفاقه تمكنوا من الهرب بعد أن نجحوا في إصابة هدفهم.
لم تتمكن أجهزة الأمن من التوصل إلى منفذي العملية، وأوحوا في البداية إلى وسائل الإعلام أنه مجرد "حادث جنائي عادي"، كما جاء أيضًا في بيان الداخلية الأخير عقب اغتيال رجل الأعمال في الإسكندرية، حتى تداولت وكالات الأنباء بيانًا يحمل توقيع مجموعة أطلقت على نفسها "ثورة مصر"، تعلن تبني العملية.
في صيف العام التالي، حاول التنظيم في 20 أغسطس/آب مجددًا اغتيال السفير، لكنهم أخفقوا للمرة الثانية بعدما تعطلت سيارتهم. ولكن من سوء حظ ضابط الموساد أبرت أتراكش أنَّ نور الدين رآه بالقرب من منزل السفير في المعادي، وكان يعرفه منذ عمله في لندن، ففتحوا عليه النار وأردوه قتيلًا، وأصابوا زوجته ومساعدته.
وفي 19 مارس/آذار 1986، أقيم المعرض الدولي للمنتجات الصناعية في أرض المعارض بمدينة نصر بمشاركة إسرائيلية، واندلعت احتجاجات غاضبة ضد هذه المشاركة. وبينما كان المحتجون يهتفون "ثورة مصر.. طريق النصر"، نفذّ التنظيم عملية اغتال فيها أربعة من أعضاء الوفد الإسرائيلي، من بينهم إيلي تايلور مديرة الجناح الإسرائيلي في معرض الكتاب.
أما العملية الرابعة، فاستهدفت مسؤول الأمن في السفارة الأمريكية واثنين من مرافقيه، وجاءت ردًا على اختطاف الولايات المتحدة طائرة مصرية في إيطاليا كانت تقل عددًا من الفدائيين الفلسطينيين.
بعد انكشاف التنظيم والقبض على أعضائه نتيجة خيانة أحمد عصام، شقيق نور الدين، عُرضوا على نيابة أمن الدولة ثم أحيلوا للمحكمة، بتهمة اغتيال ومحاولة اغتيال دبلوماسيين إسرائيليين وأمريكيين، والقيام بأنشطة عرّضت علاقات البلاد بالحكومات الأجنبية للخطر.
في تحقيقات النيابة، برر نور الدين عمليات التنظيم بقوله "كنت أريد أن أثبت أنَّ في مصر رجالًا يقدمون أرواحهم دفاعًا عن بلادهم.. وثأرًا للشهداء الذين رووا بدمائهم رمال سيناء، التي لا تملك مصر الدفاع عنها ولا تستطيع أن تمارس سيادتها، خاصة فوق المنطقة (ج)، بسبب اتفاقية السلام".
من "ثورة مصر" إلى "طلائع التحرير"
في صباح أول أمس الثلاثاء، اليوم الذي خرق فيه جيش الاحتلال اتفاقية السلام واجتاحت دباباته وآلياته العسكرية المنطقة الشرقية من رفح الفلسطينية حتى وصلت إلى المعبر، بالمخالفة للملحق الأمني من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التي تحظر وجود تلك الآليات في المنطقة (د)، تداولت وسائل الإعلام خبر اغتيال رجل الأعمال الإسرائيلي زيڤ كيبر الذي يحمل الجنسية الكندية أيضًا، ويمتلك إحدى شركات تجفيف وتصدير الخضروات والفواكه في محافظة البحيرة، على يد مجهولين بمنطقة سموحة في الإسكندرية.
وبعد ساعات، صدر بيان يحمل توقيع مجموعة تحمل اسم "طلائع التحرير.. مجموعة الشهيد محمد صلاح"، تعلن فيه مسؤوليتها عن العملية، التي ذكرت الأجهزة الأمنية أنَّها "جنائية" بدافع السرقة.
بيان المجموعة، الذي يبدو أنه صيغ على عجل ودون مراجعة فظهرت به أخطاء لغوية، حمل عنوان "لبيك يا أقصى.. لبيك يا غزة"، وأشار أصحابه إلى أنهم قرروا استئناف المسيرة الشعبية في المواجهة واستهداف العدو الذي "يعربد في أرضنا ويسفك الدماء وينهب الثروات".
وأرجعت المجموعة استهدافها لمن وصفته بـ"العميل الإسرائيلي" زيڤ كيبر/Ziv Kipper، إلى اتخاذه بعض أعماله التجارية غطاء على "ممارسة نشاطه في جمع المعلومات وتجنيد ضعاف النفوس لصالح جهاز الموساد"، وذلك بناءً على "تقدير معلوماتي دقيق عن نشاط الهدف"، ووعدوا بنشر التفاصيل تباعًا وفق ما يسمح به الظرف الأمني.
ووجهت المجموعة ما قالت إنها رسائل إلى "الشعب المصري الأبي وإلى أهلنا في غزة وفلسطين"، أشارت فيها إلى أنَّ عمليتها هذه خطوة على طريق "كفاح الشعب المصري ضد العدو الصهيوني منذ حرب 1948.. واستمرارًا للعمليات الفدائية للشهيد البطل سليمان خاطر وأيمن حسن ومجموعة ثورة مصر بقيادة (نور الدين محمود) والشهيد البطل محمد صلاح".
بدا من صياغة البيان أنَّ المجموعة التي اختارت أن تمضي على درب الضباط والمجندين الذين اختاروا رفع السلاح في وجه الإسرائيليين بعد توقيع اتفاقية السلام، لا تنتمي في الأغلب إلى أيٍّ من التنظيمات الإسلامية الأصولية التي يحترف بعض أعضائها استخدام السلاح، ولا تخلو بياناتها من استهلالات ومصطلحات ونصوص دينية جهادية، بل فضلت هذه المجموعة استخدام مفردات المقاومة والكفاح والعمليات الفدائية.
لاحقًا، كشفت المجموعة عبر حساب على تليجرام عن صور، ثم مقطع فيديو، لتنفيذ عملية الاغتيال، ظهر فيه شخص يرتدي قفازًا ويحمل مسدسًا أطلق منه بثبات وهدوء أعصاب خمس رصاصات على رجل الأعمال الإسرائيلي في سيارته وهو يصيح "شالوم.. شالوم من أولاد غزة"، وهو ما يفتح بابًا للشك في دقة تصريح الداخلية المتعجل، الذي أشار إلى أن الحادث جنائي مستبعدًا الاحتمالات الأخرى.
أهداف المجموعة وفق بيانها لا تختلف كثيرًا عن الأهداف الواردة في بيانات تنظيم "ثورة مصر" وأقوال أعضائه في التحقيقات، كما أنَّ الدوافع تتشابه كثيرًا، فبمقارنة سريعة بين بيانات المجموعتين، تجد أنَّ الدافع لاختيار العمليات المسلحة هو الشعور بالعجز وقلة الحيلة إزاء ما يقوم به العدو الصهيوني من مجازر، مع غياب رد الفعل الرسمي واكتفاء الأنظمة بموقف المشاهد أو الوسيط، رغم تجاوز الصهاينة لكلِّ الخطوط الحمراء، وهو ما دفع المجموعة الجديدة إلى التحذير من انفجار الأوضاع وتمدد جذوة المقاومة والكفاح في "كامل الجغرافيا العربية والإسلامية"، في حال استمرت حرب الإبادة والتجويع في غزة دون ردٍّ مناسب.