بعد يوم عمل طويل وشاق، خرج محمد مصطفى من مقر عمله بمدينة السادس من أكتوبر، حيث يعمل أمين مخزن بشركة خاصة، وسار بضع خطوات مُبتعدًا عن مكان عمله قبل أن يُخرج كيسًا بلاستيكيًا أسود من جيبه ويبدأ التقاط ما يصادفه من عبوات المياه الغازية الفارغة/الكانز.
اعتاد مصطفى ذلك يوميًا في طريق عودته إلى منزله بحي المنيب، "المسافة بين شغلي وموقف الميكروباصات في منطقة الحُصري حوالي 30 دقيقة مشي أو أكتر، بلم فيهم في سكتي اللي أقدر عليه. كيلو الكانز دلوقتي في حدود من 50 لـ 60 جنيه، أهو أي حاجة تزُق مع الواحد الدنيا في الغلاء اللي إحنا فيه ده"، يقول لـ المنصة
قبل 4 أشهر لم يكن الرجل الأربعيني، الذي تُوفيت زوجته وينفق على أبنائه الثلاثة، يتخيل أنه قد يلجأ إلى هذا الحل من أجل زيادة دخله، الذي يقل عن الحد الأدنى للأجور بنحو ثلاثمائة جنيه. ولكن مع موجات التضخم المتتالية وتصاعد أسعار الخدمات على مدار عامين في مصر، لم يجد بُدًا من محاولة التكيّف.
بات بحث من لا يشي مظهرهم بأنهم من فئة المُشردين عن العبوات الفارغة أمرًا شائعًا يمكن ملاحظته خلال المتابعة العابرة لشوارع القاهرة.
تغيير العادات بحثًا عن بعض جنيهات
"من سنة واحدة بس مكانش ممكن ييجي في بالي إن الأزايز البلاستيك والكانزات اللي بنرميها دي ممكن تساعدني أنا وجوزي إننا نشتري جزء من احتياجاتنا" تقول نسمة محمود، البالغة من العمر 34 عامًا لـ المنصة.
يبلغ راتب نسمة، التي تعمل مُدرّسة رسم في إحدى المدارس الحكومية بمنطقة جسر السويس في القاهرة، 4500 جنيه بعد نحو 7 سنوات من العمل. وهو المبلغ ذاته الذي يتقاضاه زوجها مُدرّس التربية الرياضية في المدرسة نفسها.
"التسع آلاف جنيه دول أكتر من تلتهم رايح إيجار الشقة، وباقي مصاريف الأكل والشرب والكهربا والغاز نقعد نحسبها بالورقة والقلم كل شهر، ونشوف إيه ممكن نستغني عنه وإيه اللي ليه الأولوية، وأحيانًا بنستلف من أهلنا عشان نعرف نكمّل الشهر"، تقول بسمة.
ارتفعت معدلات التضخم خلال العام الماضي إلى مستويات غير مسبوقة، بلغت ذروتها في سبتمبر/أيلول الماضي مع تجاوزه مستوى 40%، بسبب انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار في السوق الموازية، ورغم القضاء على السوق الموازية خلال الأشهر الأخيرة من خلال رفع سعر الصرف الرسمي للدولار بنحو 60%، لا تزال معدلات التضخم فوق مستوى الـ20%.
لذلك بعدما علمت نسمة من جيرانها العام الماضي أن كيلو الزجاجات البلاستيكية وصل 20 جنيهًا وكيلو الكانز تخطى 80 جنيهًا، قررت جمع كل ما هو فارغ في منزلها من زجاجات الزيت أو المياه أو الصابون السائل وغيرها "بقيت احتفظ بكل حاجة، وكمان خليت إخواتي الاتنين وجيراني يجمّعوا ويدوني اللي عندهم، وبديهم لبتاع الروبابيكيا" تقول نسمة.
ساعد هذا نسمة، التي لم تُرزق بأطفال بعد، على توفير ما بين 400 إلى 500 جنيه شهريًا عبر بيع 8 كيلوجرامات من الزجاجات البلاستيكية و4 كيلوجرامات من عبوات المياه الغازية، تقول "طبعًا مبلغ زي ده يساعد الواحد يشتري الخضار والفاكهة اللي محتاجها أو يجيب شوية جبنة أو يطبخ فراخ أكتر أو نجيبلنا كيلو ولا اتنين لحمة".
كانت 85% من الأسر خفّضت استهلاكها من اللحوم نتيجة ارتفاع أسعار الغذاء، بينما قللت 75% من الأسر نفسها استهلاكها للدجاج والبيض، وانخفض استهلاك الأسماك والألبان بنسبة 60%، فيما زاد استهلاك الأسر للأطعمة النشوية مثل البطاطس والمكرونة، التي تحتوي قدرًا أقل من العناصر الغذائية.
المبلغ نفسه تقريبًا تجنيه جيهان مصطفى(*) من تجارة العبوات الفارغة، وهي ربة منزل في الخمسينات من عمرها وتقيم في منطقة كرداسة بالجيزة. يعمل زوج جيهان سائق شاحنة في أحد المصانع، ويتراوح دخله بين 5 آلاف و6 آلاف جنيه، وهو الراتب الذي لا يكفي متطلباتهم الحياتية في ظل أن ابنتها الصغرى لا تزال طالبة جامعية.
"الحمد لله عيالي الاتنين الكبار اتجوزوا وخلصنا من همهم، لكن بنتي الصغيرة لسه في الجامعة ومحتاجة مصروف وكتب وملازم. ولولا شوية البلاستيك والكانز اللي الواحد بيجمعهم أو بياخدهم من جيرانه مكنتش عرفت أوفر لها احتياجاتها".
ازدهار أسعار "الخردة" في صالح الغلابة
استفاد جامعو العبوات الفارغة بصورة غير مباشرة من مستويات التضخم المرتفعة خلال الفترة الماضية، فارتفع سعر كيلو "الكانز" بقوة خلال العام الماضي بالتزامن مع ارتفاع أسعار الألومنيوم ليتراوح بين 100 و120 جنيهًا، قبل أن ينخفض مجددًا مع هدوء وتيرة زيادة التضخم، ليتراوح حاليًا بين 50 و90 جنيهًا، وفق المنطقة الجغرافية.
يقول يسري بكر، صاحب مخزن خردة في قرية قلما، إحدى قرى مركز قليوب التابع لمحافظة القليوبية، لـ المنصة "وقت ما ابتديت كان سعر كيلو أزايز المياه مثلًا بـ2 و3 جنيه، والكانزات ما بين 15 و20 جنيه، دلوقتي أسعارها بقت 3 و4 أضعاف. حاليًا باخد كيلو الأزايز من الناس في حدود 15 جنيه وببيعه لتجار الخردة بـ17 أو 18 جنيه".
دلوقتي بتلاقي واحد ماشي يلاقي كرتونة يقوم واخدها تحت ايده عشان يجيب 10 جنيه فطار
يعمل يسري الذي يكاد يبلغ الأربعين، في سوق الخردة منذ 3 سنوات، ويرجع تحديد السعر إلى السوق "حسب ما التجار بيحددوا، الشغل ده كله بيلموه ويخش تسييح وإعادة تصنيع تاني في المصانع".
المستريحون ماديًا ينضمون
بحكم عمله كـسرّيح على تروسيكل، يجمع العبوات الفارغة من المواطنين ويوصلها لتاجر خردة، يلاحظ إسلام أحمد دخول طبقات جديدة مجال جمع العبوات.
في قرية قلما، غيّر إسلام مهنته من بائع خُضر لسرّيح بحثًا عن زيادة دخله "باشوف العجب وأنا بلم الحاجة من الناس، يعني فيه ناس كنت بقول عليهم أغنيا ومعاهم فلوس بشوفهم بيلموا كانزات في جيوبهم وهم ماشيين. غصب عنهم، بيزودوا الدخل عشان الدنيا مقصرة معاهم شوية".
لم يعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن بيانات محدثة عن مستويات الفقر في مصر منذ 2019، وهو الجهة الوحيدة المنوط لها جمع هذه البيانات، لكن أحدث البيانات المنشورة تشير إلى أن نحو ثلث المواطنين يقعون تحت خط الفقر.
ويؤكد يسري بكر صاحب المخزن الذي يعمل لديه إسلام شهادة الأخير "فيه ناس أعرفهم بشكل شخصي عندهم أرض ودخلهم كويس لكنهم بقوا يجمّعوا ويجيبوا لي. وأعرف شباب صغيرين شغالين في ورش حدادة ونجارة يوميتهم 50 جنيه، لكن لما يجمع كانز وأزايز بيطلعله بـ300 جنيه مثلًا فأكيد هيقولك ده أحسن لي. احنا بنتكلم في أضعاف اليومية بتاعته".
يؤكد يسري أن أكثر فئة يتعامل معها هي ربّات البيوت "لدرجة أن بقى فيه ستات مش مجرد بتجمّع اللي موجود في بيتها لا دول بقوا يجمعوا من اللي حواليهم أو من الشوارع. النهارده 3 كيلو، بكره 5 كيلو، بعده مفيش، وكده يعني".
حماية البيئة تشجّع آخرين
تحول جمع العبوات الفارغة لبيزنس رائج على السوشيال ميديا، إذ تنتشر صفحات شركات تُجمّع البلاستيك وعبوات المياه الغازية من أجل إعادة تدويرها حمايةً للبيئة، أو إعادة تصنيعها، وهي الفكرة التي جذبت إيمان إبراهيم(*) التي تعمل أستاذةً جامعيةً بأحد المعاهد الخاصة في مدينة السادس من أكتوبر.
تجمع إيمان، التي تبلغ 53 عامًا، الزجاجات البلاستيكية، "محدش نجا من الغلاء الأيام دي، وطبيعي الواحدة أما تلاقي فرصة إنها تستفيد من شوية الكراكيب اللي عندها تعمل كده".
تشتري هذه الشركات كيلو "الكانز" والحِلل الألومنيوم بنحو 90 جنيهًا أو تحوّلها لنقاط لشراء منتجات أخرى، تستبدل إيمان كل ما يصلح في منزلها بمنتجات أخرى مثل الصابون السائل وزجاجات الزيت.
تعد إعادة التدوير من الأسواق الواعدة، ومن المتوقع أن يصل معدل نموها السنوي إلى 6.7% بين عامي 2023 و2027. ولا يوجد إحصاء رسمي بعدد شركات إعادة التدوير التي تعمل أونلاين في مصر ولكنها تصل للعشرات وفق ما رصدناه في جولة على المواقع وصفحات السوشيال ميديا، بينما تُقدّر استثماراتها بمئات الملايين من الجنيهات، وفق المبالغ التي استثمرتها شركات عدة.
حسب تقرير لمجلس الوزراء، تنتج مصر حوالي 90 مليون طن مخلفات سنويًا. ويبلغ إجمالي حجم المواد القابلة للتدوير 24.3%، وقد جاءت مصر في المرتبة الأولى عربيًا والـ14 عالميًا من حيث معدلات إعادة التدوير لعام 2023.
ووفقًا لقاعدة بيانات ترند إيكونومي، بلغت قيمة صادرات النفايات والخردة الحديدية من مصر 21 مليون دولار في عام 2023، أي أنها ارتفعت بنسبة 368% مقارنةً بعام 2022 الذي تم التصدير فيه بقيمة 4.61 مليون دولار، وهو رواج استفادت منه الطبقات المتوسطة.
لا يبدو تحسن الوضع المالي لمحمد مصطفى قريبًا في ظل التضخم المستمر، لكنه يذكر نفسه مع كل انحناءة لالتقاط كانز بحثًا عن بضعة جنيهات تسد رمق أولاده "أمد إيدي للأرض أحسن ما أمد إيدي لحد".