تُعرَّف السياسة الصناعية على أنها حزمة الإجراءات والقرارات التي تتخذها مؤسسات الدولة لتحقيق أهداف اقتصادية أو اجتماعية. وأي سياسة ينبغي أن تكون محددة بإطار زمني، مع آلياتٍ للمتابعة والمراجعة وإعادة التقييم، وأن تكون لدى مؤسسات الدولة الاستقلالية الكافية لتغيير هذه السياسة في حال عدم ثبوت جدواها.
بتحكيم هذا الإطار على سياسة الدولة تجاه ما يُسمى بقطاع صناعة السيارات في مصر، سنجد نموذجًا كاملًا لحد الإبهار في الفشل، من حيث عدم تحقيق الأهداف الموضوعة منذ منتصف القرن الماضي، والعجز عن إعادة التقييم والمراجعة، حتى مع ثبوت وثبات معالم الفشل طيلة عقود.
ومع استمرار فشلها وعدم خضوعها لإعادة تقييم جدية، سببت سياسة صناعة السيارات في مصر خسائر متراكمة على الاقتصاد والدولة والمستهلكين، ولم تستفد منها إلا حفنة صغيرة من مالكي مصانع التجميع.
جذور "السيارات" الناصرية
تعود جذور صناعة السيارات في مصر إلى عام 1960 مع تأسيس شركة النصر للسيارات، في ظل سياسة صناعية استهدفت إنتاج سيارة مصرية 100%، طبقًا لشهادات الرواد مثل المهندس عادل جزارين.
تحققت بعض النجاحات الجزئية لهذه السياسة، على رأسها شراكات شركة النصر مع أخرى أوروبية مثل فيات الإيطالية، التي تمخضت عن وضع أُسس تجميع أجزاء يتم استيرادها من الخارج. لكن الإسهام المحلي في هذه الشراكات كان يتركز في الأعمال ذات القيمة المضافة الأقل، مثل صناعة الزجاج والفرش الداخلي.
اعتماد صناعة السيارات المفرط على المدخلات المستوردة يجعلها صناعة محلية كثيفة الاعتماد على الواردات
وفي حقبة الانفتاح الاقتصادي منتصف السبعينيات، بدأ حضور شركات القطاع الخاص في التزايد، مع استمرار النموذج كما هو، قائمًا على التجميع لا التصنيع. وظل القطاع صغيرًا وضحلًا كما سنوضح لاحقًا، رغم عقود طويلة من الحماية الجمركية، وأشكال دعم أخرى متنوعة على أمل زيادة المكون المحلي ونقل التكنولوجيا.
بالنظر إلى بعض بيانات هذه الصناعة، يتضح لنا أن قطاع تجميع السيارات، الذي يُسمَّى "تصنيع السيارات"، يقف في وضع شديد العجب، إذ ظلت إسهاماته محدودة في خدمة الاقتصاد بعد سنوات الحماية والدعم من الدولة.
بيانات كثيرة عن حال صناعة السيارات على المستويين القطاعي والكلي، مثل النصيب في التشغيل والقيمة المضافة، مجهولة بالنسبة لنا. وآخر المعلومات المتاحة قديمة، إذ تعود إلى عام 2019. لكن حسب تقرير لمعهد التخطيط، صدر في نهاية 2023، فإن صناعات تجميع السيارات المحلية التي أنتجت 71.6 ألف مركبة سنة 2018، لم تفِ إلا بأكثر من ثلث الطلب المحلي، الذي بلغ 184.5 ألف مركبة في السنة نفسها.
هذه الفجوة تُغطَّى بالكامل عبر الاستيراد.
وفي الوقت ذاته، فإن صناعة السيارات في مصر لم تنجح على صعيد التصدير قط، إذ تراجع نصيبها من صادرات الصناعة التحويلية من 1.2% في 2013 إلى 0.7% في 2018. أما نسبتها من إجمالي الصادرات المصرية فتصعب رؤيتها بالعين المجردة. وتتضح فداحة هذا الفشل إذا ما قورن بما نجحت فيه المغرب خلال العقد الأخير.
في المقابل، حاز قطاع السيارات على 13% من الواردات الصناعية في 2019، مع الأخذ في الاعتبار أن متوسط نصيبه بين عامي 2011 و2018 بلغ 9%. وذلك لتزايد الحاجة إلى استيراد سيارات كاملة من الخارج، من شرق آسيا وأوروبا بالأساس، علاوة على الاعتماد المفرط على المدخلات المستوردة في صناعات التجميع والتركيب نفسها، ما يجعلها صناعة محلية كثيفة الاعتماد على الواردات.
ولنا أن نفهم على ضوء ذلك لماذا عانى قطاع صناعة السيارات بشدة من انخفاض الواردات في السنتين الأخيرتين، مع انهيار قيمة الجنيه. فبدلًا من أن يستفيد قطاع السيارات المحلي من انخفاض الواردات، عانى بشدة من ارتفاع تكلفة الإنتاج كونه قائمًا على تجميع وتركيب ما يستورده.
بالإضافة إلى ذلك كله، فإن إسهام القطاع في التشغيل محدود للغاية بل ويتناقص، إذ يشير تقرير معهد التخطيط إلى أن نسبة العاملين في صناعة المركبات من إجمالي العاملين في الصناعات التحويلية انكمشت من 1.8% عام 2015 إلى 1.2% في 2018.
الدولة لا تراجع نفسها
وفي مواجهة سجل الفشل المبهر هذا، لم تُغيِّر الدولة سياساتها نحو هذا القطاع. فلا تزال صناعة السيارات محكومة بقراري وزير الصناعة رقم 136 لسنة 1994 ورقم 907 لسنة 2005، اللذين يستهدفان رفع نسبة المكون المحلي في تجميع السيارات إلى 45%.
ويتطلب الحفاظ على هذه السياسة بالتبعية مستويات حماية جمركية مرتفعة حظي بها هذا القطاع لعقود، ترفع من أسعار السيارات المستوردة في مواجهة السيارات المجمعة محليًا.
وحتى مع التزام مصر باتفاق تحرير التجارة مع الاتحاد الأوروبي الذي وُقع عام 2001 ودخل حيز النفاذ في 2004، مُنح قطاع تجميع السيارات جدولًا للتحرير استمر عشر سنوات بواقع 10% فحسب كل سنة، ولم تنتهِ الحماية من السيارات الأوروبية إلا عام 2019.
ولكن مع ذلك، وللتخفيف من وقع تخفيض الحماية الجمركية الناتجة عن اتفاق الشراكة، فرضت السلطات ضرائب قيمة مضافة وجدول ورسم تنمية على السيارات الأوروبية بواقع 18% و34% و52.5% حسب سعة السيارة.
وينبغي الأخذ في الاعتبار أن أكبر موردي سيارات الركوب في مصر هي دول شرق آسيا، خاصة الصين وكوريا الجنوبية واليابان، وهذه دول لا تتمتع سياراتها بأي تخفيضات جمركية، ما يعني استمرار الحماية الكاملة لمُجمِّعي السيارات في السوق المحلية على حساب المستهلك النهائي، دون أي أفق لتحقيق أهداف تنموية اقتصادية أو اجتماعية.
اجعله يعمل أو اتركه يموت
المطلوب في المرحلة الحالية هو مراجعة وإعادة تقييم نقدية لسياسة الدولة تجاه قطاع السيارات، والعمل بناء على ما أُنجِز، أو ما لم يُنجز لنكون أكثر دقة، بهدف تقليل الخسائر على الجميع، وتغيير هيكل الحوافز لدى مجمعي السيارات، بما ينهي الوضع الحالي الذي يمنحهم حماية لا نهائية دون تحقيق أي منجزات في السوق المحلية أو التصدير.
إن السياسة الصناعية الناجحة لا تقوم فحسب على تدخل الدولة لإحياء القطاعات الصناعية، بل تستلزم كذلك أن تتمتع الدولة بالقدرة على ترك القطاعات الفاشلة تموت، فيما يعرف بـ make live and let die/أحْيه واتركه يموت، بما يحقق استخدامًا أفضل لمواردنا المحدودة.