وجد شادي زعرب نفسَه دون أهلٍ وعائلة، فالشاب الغزاوي البالغ من العمر 28 عامًا هو الناجي الوحيد من بين أفراد أسرته العشرين الذين لقوا مصرعهم في قصفٍ نفذته طائرات الاحتلال الإسرائيلي في يناير/كانون الثاني من العام الماضي ضمن الحرب التي استمرت لنحو 15 شهرًا.
في خيمته بمخيم المواصي برفح الذي نزح إليه، يسمع شادي صوتَ أنفاسه فقط، فحاول البحث عمن يؤنس وحشته، ويشاركه أحزانه، حتى هيأت الظروف لارتباطه بزوجته حلا، لتشهد مخيمات النزوح على واحدةٍ من زيجات عديدة جرت على وقع القنابل وتحت القصف. وبدل أن يلوذ العرُوسان بشقة الزوجية، كان نصيبهما خيمةً وقليلًا من المتاع.
يقع بيت عائلة زعرب الذي قصفته المقاتلات الإسرائيلية في مخيم يبنا على حدود القطاع الجنوبية مع مصر. ومثلما عاش الشاب الفلسطيني عمره بين جنباته، قضى أيضًا ساعات تحت أنقاضه بعدما استُهدف بثلاثة صواريخ فجرًا، إلى أن "انتشلني أهل المنطقة من تحت الركام" حسبما يقول لـ المنصة.
يتابع "استشهد أبي وأمي وأخوتي البنات الأربعة، كما استشهد أخوي أحمد وكريم والثالث فادي وزوجته وطفلاه راما وألما، كما استشهد سبعة من عائلة عمتي التي نزحت من شمال غزة في بداية الحرب".
لا تسعف الكلمات شادي لوصف مشاعر الفقد والقهر والعجز، وهو يتساءل هل يمكن أن يتخيل أحدٌ نفسه فجأةً بدون عائلة؛ أن تفقد عشرين شخصًا مرة واحدة. وفي ظل الوحدة القاسية، اشتدت الحاجة لديه لوجود شخص إلى جانبه، "صار همي، بدي أكون مسؤول عن حدا أو أن يكون حدا مسؤول عني، كنت محتاج أسمع صوت نَفَس غيري في خيمتي".
قبل الحرب، لم يستوعب مظاهر استمرار الحياة من إنجاب وزواج وارتباط، يقول الشاب الغزاوي "كل اللي كنت بشوفه يتزوج بقول عليه مجنون، عملها صاحبي بقيت أيام أعاتبه"، وهو ما تغيّر بعدما نال نصيبه القاسي من الحرب، ففي أحد الأيام قابله جاره في الخيمة المجاورة وأخبره أنه ينوي خطبته لابنته لأنه توسم فيه الخير، "انصدمت في الأول بعدها حسيت بفرحة كبيرة ووافقت بسرعة".
في اليوم التالي تعرّف على حلا؛ وجدها شابةً جميلةً وطموحةً تدرك معنى جمال الحياة، فقدت بدورها اثنين من أفراد عائلتها جراء حزام ناري حول منزلها في وسط مدينة غزة، فنزحت إلى خيمة في مواصي رفح على الحدود المائية مع مصر، حيث قضيا شهرًا في التعارف والخطوبة القصيرة على الشاطئ، ثم تزوجا مطلع مارس/آذار الماضي.
تخفيف أحمال
سرّعت الحرب من زواج هبة أبو طويلة، 23 سنة، وأخواتها الأربعة، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي يفرضها النزوح، فضلًا عن أن إحداهن كانت مخطوبة من قبل أحداث السابع من أكتوبر "حِمْل أبونا كبير، إحنا 8 بنات، نزحنا من مدينة غزة في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2023 إلى منطقة خانيونس وانتقلنا أكتر من مرة لحين استقرينا فى قرية الزوايدة" تقول لـ المنصة.
تزوجت أختها المخطوبة فى فبراير/شباط الماضي في رفح، والثانية تزوجت فى مواصي خانيونس في أبريل/نيسان، أما هبة فتزوجت في دير البلح خلال شهر يونيو/حزيران، وتزوجت الأصغر في منطقة الزوايدة، "هيك ضلوا أربع بنات بس مع أبي وأمي وخف حملهم. لا نحنا ولا أبونا كان بدنا نتجوز بهيك طريقة ولا بهالعمر، كان بده يانا نكمل تعليمنا ونخلص الجامعة لكن الظروف اختلفت".
تضحك وهى تحكي كيف توفقت الأخوات الأربع في الزواج السريع خلال شهور متتالية "تزوجت أختي روان من عريسها نادر وفي فترة خطوبتهم اتعرفت أنا على صديقه علاء، فغار صديقهم الثالث أحمد وطلب من خطيبي يشوف له عروس، فقالت له على أختي شيماء، وهيك اتزوجنا تلاتة أصحاب".
تقضي هبة وزوجها علاء سهرات تصفها بـ"الجميلة"، فبين الأسى والحنين "نجلس بجانب النار التى نطبخ عليها الطعام لنتقاسمه كثلاث عائلات صغيرة، نتذكر جمال غزة وأماكننا اللي نحبها، ونتشارك الخوف والقلق من القصف المستمر أن يصيبنا".
ولم تكن ولاء، البالغة من العمر 19 عامًا، أسعدَ حظًا، فقد أُجبرت على الزواج؛ "أبويا أجبرني" تقول لـ المنصة.
وتعرضت ولاء لـ"معاكسات وتحرش لفظي وصار أبويا يمنعني من الخروج من الخيمة" التي تنتصب في منطقة البركة بدير البلح، مرجعةً ازدياد وتيرة حدوث وقائع مثل التحرش إلى الحرب التي غيّرت من تركيبة المجتمع وثباته على المبادئ والأخلاق، فالمجتمع الغزاوي محافظ بطبعه.
في البداية، عارضت ولاء فكرة الزواج بشدة لكنها اكتشفت أن أباها "ما كان بيوخد رأيي، كان بس يخبرني"، وبعد أقل من ثلاثة أسابيع تزوجت من ابن عمتها الذي نزح وأسرته إلى مخيم قريب من مكان نزوحهم، "بكيت في الأول كتير، لكن بعد شوي حسيت بالألفة والتجديد على حياة النزوح اللي عايشينها، واتفقت معاه مافيش ولاد غير لما تنتهي الحرب".
زواج اضطراري
أحمد الذي يبلغ 29 عامًا، يروي هو الآخر كيف اضطر إلى الزواج اضطرارًا ولم يكن ما حدث في الحسبان ولم يبقِ له رأى آخر، فقد نزح من غزة برفقة أخيه وزوجة أخيه وأطفاله ووالدته وأخته، وخلال رحلة النزوح فقد أخاه وأخته ووالدته، ليبقى هو وزوجة أخيه وطفليها فقط، ما اضطره إلى الزواج منها.
وسبق وحرمت الحرب أحمد من إتمام قصة الحب التي جمعته بزميلته نور، فقد لقيت مصرعها؛ يتذكر بأسى "كنت بحب نور وبخطط تكون شريكة حياتي بس انقتلت هي وأفراد من عائلتها، عرفتها في دورة تدريبية وقررنا أن نرتبط في ربيع 2024، لكن الحرب سبقت وحرمتني منها في الخريف".
حال أمل أبو حماد، 28 عامًا، من حال أحمد، "فقدنا أختي بعد استهداف بيتها ونجيوا ثلاثة من أولادها وأبوهم، وصرت مسؤولة عنهم"، وكما تروي لـ المنصة طلبت منها والدتها أن تتزوج زوج أختها، لكنها رفضت تمامًا رغم محاولات الإقناع، إلا أنه "بعد أسبوعين استهدفت مدفعية بيتنا وفقدت أمي" فقررت تلبية رغبتها.
صراع البقاء
تحلل رائدة أبو عبيد، أخصائية علم النفس التربوي في جامعة الأقصى بغزة، أثر الأوضاع الاستثنائية على الحياة الزوجية للغزاويين، فإنْ كان الاستقرار ركنًا أساسيًا لكن "نحن جميعًا نعيش ظروفًا استثنائية تتطلب منا التأقلم مع الواقع طيلة فترة الحرب".
توضح لـ المنصة أن "قدرات الناس على التأقلم مختلفة، فمنهم من يرفض التأقلم جملة وتفصيلًا، وبالتالي يرفض الزواج في هذه الظروف بشكل قطعي، وهناك أشخاص قدرتهم متوسطة بالتالي قد يقبلون أو يرفضون حسب معطيات حياتهم وبيئتهم الداعمة، وثمة فئة سريعة التأقلم والمجابهة، لذا تراها تطرق أبواب كل البدايات الجديدة كالزواج والإنجاب".
وتشير رائدة إلى أن "هناك حالةً من الفراغ العاطفي يعيشها الجميع في قطاع غزة بفعل غياب الخصوصية، وتدافع الأحداث المأساوية، وحالة التوتر المتواصلة، وشعور العجز والقهر كل هذا خلق حالة فراغ عاطفي لدى الشبان والفتيات في ظل غياب الاحتضان العائلي".
الحكومة استحدثت محاكم متنقلة تتبع قانونيًا للمحاكم الشرعية في غزة لإتمام عقود الزواج
وترى أن فقدان الإنسان كل مقومات الحياة أمرٌ لا يتحمله العقل البشري، لذا يلجأ إلى ما يشعره بالحياة؛ فالذي بيده عملٌ يمكن أن يمارسه يتجه إليه، وكثير من الشباب يتجهون إلى المبادرات والأنشطة والإغاثة؛ البعض يتجه إلى التعليم حتى في ظل المصاعب، والبعض يتجه بالمثل إلى الزواج بحثًا عن الاستقرار أو العائلة، أو لحل الإشكالات التي تُعرقل استمرار حياته البائسة في النزوح.
وتفيد أخصائية علم النفس بأن هناك آخرين لديهم قناعة بكون الزواج نوعًا من الصمود في صراع البقاء على الأرض للمحافظة على النسل في ظل إبادة محت عائلات كاملة من السجل المدني، وهؤلاء يعتبرون وجود حالات زواج وولادة استمرارًا لطبيعة الحياة والتأقلم مع الواقع الجديد ولتعزيز الوجود الفلسطيني، وللمحافظة على العلاقات داخل المجتمع رغم انعدام الاستقرار ومقومات الحياة.
مطلوب زواج
مع توقفِ عقد الزواج والتوثيق القانوني له بسبب استحالة انتظام عمل المحاكم والأجهزة الإدارية تحت الحرب، بدأ الغزاويون يبحثون عن طرق قانونية لاستمرار توثيق الزواج ولو كان بعقود عرفية، وطلبوا من المحاكم تيسير ذلك، وفق ما يؤكده سعيد المشهراوي، وهو مأذون شرعي في محكمة غزة، ويعمل في دير البلح.
يوضح لـ المنصة أن "الحكومة قررت استحداث محاكم متنقلة تتبع قانونيًا المحاكم الشرعية في غزة، وأخذ القضاة هذا الأمر على عاتقهم وبدأوا يسيرون عقود الزواج".
ويتسلسل العقد بأن يتجه الرجل والمرأة إلى المختار في المنطقة، من ثم يتجهون إلى القاضي الذي يوقع على وثيقة الزواج، ومن بعده إلى القاضي الآخر الذي يحول المعاملة إلى المأذون الشرعي حتى يوقع على المعاملة.
ويشير المشهراوي إلى أنه على مستوى دير البلح، تم توثيق أكثر من ألف حالة زواج خلال شهرين، وهناك نقطة أخرى في خانيونس وثقت عددًا مماثلًا، إضافة إلى نقاط عاملة فى شمال غزة.
ويشدد على أن "هذه العقود قانونية 100% وطُبعت من خلال أرقام السجلات استنادًا للعقود السابقة، وسارت معاملات الزواج كما يجب أن تكون، والمحاكم تماشت مع أمر العقود العرفية التي تم عقدها قبل البدء بالمحاكم المتنقلة، وذلك حتى لا يحصل خلل فى منظومة قانون الأحوال الشخصية التي من الممكن أن تضر بعض المتعاقدين فيه، ولتبقى الأمور قانونية فى شكلها الطبيعي والمعروف".
يُجمع الشباب فى غزة على أن الحرب بكل ويلاتها غيرت خططهم وأفكارهم، لكنها بكل مآسيها لم تختزل حبهم للحياة، إذ يري شادى أن قرار الزواج غيّر شكل الدنيا فى عينيه، وبات يشعر أنه إنسان له كيان وأسرة، يخرج ويعود فيجد هناك من ينتظره، وها هو ممتلئًا بالفرح والأمل في ظل وقف إطلاق النار ينتظر طفله الأول "ناوي أخلف أولاد كتير حتى لو بقينا طول حياتنا نازحين بخيمة، بدي أسجل تاريخ عيلتي اللي طمسه الاحتلال".