
رهان خاسر على عدو مقامر
لا يوجد أسوأ من أن تراهن على عدوك لإنهاء معاناتك، إلا أن يكون هذا العدو على اعتقاد بأن نجاته لن تكون إلا باستسلامك الكامل، أو بسحقك وإبادتك، أو باقتلاعك من أرضك وتهجيرك قسرًا.
فرغم اعتراف قادة سياسيين وعسكريين إسرائيليين بفشل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة في تحقيق أهدافها المعلنة، يصرُّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على السباحة في بحر الدم الفلسطيني عسى أن يصل إلى قارب نجاة ينقذه من المصير السيئ الذي ينتظره إذا أوقف الحرب دون الوفاء بما وعد به من "نصر مطلق"، ويعني بالنسبة له "استعادة جميع الرهائن واستسلام حماس ونزع سلاح غزة حتى لا تكون مصدر تهديد لإسرائيل مجددًا".
منذ أن بدأ العدوان قبل 20 شهرًا، لم يتوقف نتنياهو عن تكرار كليشيهات "النصر المطلق" و"نزع سلاح غزة" والمزيد من "الضغط العسكري" وغيرها. ومع ذلك لم يصل إلى نتيجة ترضيه وتحافظ له على تماسك ائتلافه السياسي وتبتعد به عن شبح العزل والسجن؛ فلا الأسرى عادوا إلا بالمفاوضات، ولا المقاومة أوقفت عملياتها، ولا "السجن الكبير المغلق" فتح أبوابه أمام هجرة الفلسطينيين.
إذا كان قتل عشرات الآلاف من الأبرياء العزل وتجويع مئات الآلاف وقصف المنشآت الصحية والتعليمية والمدنية وتدمير أكثر من 70% من مباني غزة وجعلها درسدن العصر، يدخل ضمن الإنجازات العسكرية، فقد حقق نتنياهو ورفاقه في اليمين الصهيوني ما أرادوا. لكن هذا كله لم يحقق لهم أي إنجاز سياسي، بل على العكس خصَم من رصيدهم لدى الحلفاء، وزاد من انقسامات المجتمع الإسرائيلي.
خلال الشهر المنقضي، تصاعد الهجوم على إسرائيل من حلفائها الأوروبيين، وكانت أبرزهم ألمانيا. فرغم الدعم غير المشروط الذي قدمته لدولة الاحتلال منذ بدء الحرب، انتقد المستشار الألماني فريدريش ميرتس العنف الذي تمارسه إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين، محذرًا تل أبيب من "القيام بأي شيء قد لا يكون أصدقاؤها المقربون مستعدين لقبوله لاحقًا".
تصريحات ميرتس تزامنت مع إطلاق الاتحاد الأوروبي مراجعة لعلاقاته التجارية مع تل أبيب، وهي خطوة كان لافتًا أن هولندا، الحليف التقليدي لإسرائيل، هي التي دفعت لاتخاذها. أما فرنسا فتطور موقفها إلى الحد الذي دفع رئيسها مانويل ماكرون إلى دعوة شركائه الأوربيين لـ"اتخاذ موقف جماعي متشدد" تجاه دولة الاحتلال "في حال لم تقدم ردًا بمستوى الوضع الإنساني في قطاع غزة".
وخلال مؤتمر صحفي عُقد في سنغافورة الجمعة الماضي، حذَّر ماكرون الغرب من "فقدان مصداقيته أمام العالم إذا تخلى عن غزة وسمح لإسرائيل بأن تفعل ما تشاء"، مشددًا على أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية صار واجبًا أخلاقيًا ومطلبًا سياسيًا.
لم تحتمل إسرائيل تصريحات الرئيس الفرنسي التي نزلت عليها كالصاعقة، فلم تتهمه بالانحياز إلى حماس كما تفعل مع منتقديها، بل ذهبت إلى حد أنه يشن "حربًا صليبية على الدولة اليهودية"، حسبما جاء في بيان لوزارة الخارجية الإسرائيلية.
فيما تتصاعد الضغوط الداخلية والخارجية على نتنياهو يقف النظام العربي عاجزًا ينتظر
يبدو أن توالي الانتقادات واتخاذ الحلفاء الأوروبيين إجراءات عقابية ضد دولة الاحتلال، دفعها إلى العناد، إذ سارعت بقضم المزيد من الأراضي وشرعنة البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية، ومضاعفة عمليات القصف على قطاع غزة المنكوب، متهمةً حلفاءها كما خصومها بـ"معادة السامية" حسبما ذهب نتنياهو في تصريحاته، التي وصفها الممثل الأعلى السابق للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بـ"الحقيرة"، وهو يشير إلى أن نتنياهو يرتكب إبادة جماعية ويسعى للقضاء على الشعب الفلسطيني.
وكما زاد إصرار نتنياهو على الاستمرار في إبادة الشعب الفلسطيني من عزلة بلاده التي تحولت إلى دولة منبوذة، لا يمكن لأقرب حلفائها تبرير جرائمها، تضاعفت أيضًا الانتقادات الداخلية لرئيس الوزراء وحلفائه في الائتلاف الحاكم، إذ صار الكثير من الإسرائيليين من اليسار واليمين والوسط وحتى من اليمين، يستنتجون أن "استمرار هذه الحرب كارثة على بلدهم أخلاقيًا ودبلوماسيًا واستراتيجيًا"، حسبما ذهب الكاتب الأمريكي توماس فريدمان.
ففي مقال نشره في صحيفة نيويورك تايمز الأسبوع الماضي، يستعيد فريدمان تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، بأن حكومة بلاده "تخوض حاليًا حربًا بلا هدف ولا تخطيط واضح، ودون أي فرص للنجاح"، مضيفًا "ما نفعله في غزة الآن حرب إبادة، قتل عشوائي للمدنيين بلا حدود، وحشي وإجرامي.. نعم، إسرائيل ترتكب جرائم حرب".
كما نقل أيضًا ما صرح به عميت هاليفي عضو حزب الليكود اليميني الذي ينتمي إليه نتنياهو، وهو مؤيد شرس للحرب، والذي يعتقد أن تنفيذها كان فاشلًا، وأن إسرائيل لم تنجح في تدمير حماس.
ومن اليسار نقل فريدمان تصريح زعيم التحالف الليبرالي الإسرائيلي يائير غولان الذي ذهب إلى أن بلاده في طريقها إلى أن "تصبح دولة منبوذة مثل جنوب إفريقيا، إذا لم تتصرف كدولة راشدة لا تحارب المدنيين، ولا تتخذ من قتل الأطفال هواية".
وخلُص فريدمان إلى أن الحرب التي يخوضها نتنياهو لـ"التهرب من تهم الفساد ومن أجل نقل السلطة والثروة من الوسط الإسرائيلي الديمقراطي المعتدل إلى المستوطنين والمتدينين"، أنهكت المجتمع الإسرائيلي بأسره، متوقعًا أنه ومع نهاية الحرب، عندما يتكشّف حجم الموت والدمار الذي لحق بقطاع غزة "ستكون تلك فترة عصيبة للغاية بالنسبة لإسرائيل ويهود العالم".
وفيما تتصاعد الضغوط الداخلية والخارجية على نتنياهو، يقف النظام العربي عاجزًا ينتظر ويترقب عسى أن تدفع تلك الضغوط رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى اتخاذ القرار الصعب، رغم إدراك الجميع أن هذا القرار سيضع رقبة "بيبي" تحت المقصلة.
تدعو الأنظمة العربية إلى إنهاء الحرب وهي على يقين أن نتنياهو حتى وإن قبل بصفقة جزئية لتبادل الأسرى ووقف الحرب بشكل مؤقت، فإنه حتمًا سيعاود العدوان وسيستمر في قضم أراضي الضفة الغربية، ليس فقط لتحقيق أهداف حلفائه من اليمين الصهيوني، بل أيضًا من أجل نجاته الشخصية.
رهن العرب مستقبل القضية الفلسطينية وحياة أهل غزة بضعف نتنياهو أمام الضغوط التي تمارس عليه، وهو رهان يكشف مدى ضعف النظام العربي الذي دعمت بعض حكوماته الولايات المتحدة، الشريك الرئيسي لإسرائيل في حرب الإبادة الجماعية على غزة، بأكثر من خمسة تريليونات دولار، حسبما صرح دونالد ترامب قبل أيام.
أخشى أن يكون الرهان على تراجع نتنياهو خاسرًا، فالرجل قد يقامر بكل شيء ليؤخر "يوم الحساب"، لأن استمراره رئيسًا لوزراء إسرائيل، هو الضامن الوحيد لعدم مساءلته على فساده وإخفاقاته السياسية والعسكرية، ومن ثمَّ إيداعه السجن.