IMDB
أحمد زكي في لقطة من المرافعة الشهيرة في فيلم ضد الحكومة عن مافيا التعويضات، إخراج عاطف الطيب، وإنتاج 1992

يوميات صحفية برلمانية| من أجل سارة ومن معها.. حتى لا يتحول ضحايا الطريق لأرقام

منشور الاثنين 30 يونيو 2025

أرتبك في كتابة هذه السطور، فمشاعر الحزن العميق تتداخلُ مع الغضب الشديد. أتساءل عن جدوى الكتابة في هذه اللحظة، هل هي مجرد "فش غل"؟ هل أكرر ما كُتِبَ؟ أم أضيء زاوية لم تروَ بعد؟ لماذا أكتب؟

مجلس النواب يقف دقيقة حداد على أرواح فتيات كفر السنابسة 29 يونيو 2025

قررتُ الكتابة للتوثيق والبحث في دور المؤسسة المسؤولة عن الرقابة في هذا البلد حتى لا يتحول ضحايا الطريق الإقليمي مجرد رقم في الأخبار والبيانات.

بينما تتزاحم في ذهني صورٌ متناقضةٌ؛ وجوه الضحايا التي لا تفارقني، تتداخل معها مشاهد النواب والوزراء الذين يتبادلون الكلمات الباردة، كأنهم في عالمٍ موازٍ  منفصلٍ تمامًا عن حياة الناس حتى كادوا يحمِّلون الموتى مسؤولية وفاتهم على الطريق. 

أثارت حادثة الطريق الإقليمي في المنوفية التي أدت لمقتل 19 فتاة معظمهن من القُصر موجة من التساؤلات بشأن محاسبة المسؤولين عن نزيف الطرق في مصر، وعاد بنا الحادث إلى سينما عاطف الطيب وفيلمه ضد الحكومة ما بين مسؤولية عامل التحويلة والوزير، بينما نقف اليوم ما بين مسؤولية سائق التريلا والوزير.

الجلالة/المنوفية رايح جاي

قد تبدو المسافة بين طريق الجلالة والطريق الإقليمي بعيدة جغرافيًا وطبقيًا، لكنها تقترب جدًا عند أول بقعة دم.

في الجلالة، أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لقي 12 طالبًا في كلية الطب مصرعهم على طريق معزول يخترق الصحراء، أغلبهم من أسر ربما أنفقت كل ما تملك أو استدانت للحاق بقطار الصعود الاجتماعي عبر بوابة تعليم خاص مكلف في بيئة بعيدة عن صخب المدينة القديمة.

في المنوفية، خرجت فتيات غالبيتهن قُصَّرٌ من أسر ريفية بسيطة لم يحلمن بأكثر من ستر ولقمة عيش، لقين مصيرًا مشابهًا على الطريق الإقليمي الذي أنشئ في 2017 في إطار خطط الطرق الجديدة للجمهورية الجديدة.

الضحايا هنا وهناك في مقتبل العمر، بعضهم لا يزالون قُصرًا، ماتوا على طرق أنفقت عليها الدولة عشرات المليارات. الحادثان يكشفان أن الطرق في مصر مهما اختلفت المواقع والطبقات توحّد المصريين وتفضح غياب منظومة مساءلة حقيقية عن دماء تُسال بلا ثمن. 

أين البرلمان؟

بعد حادث الجلالة، تفاعل عددٌ محدودٌ من النواب مع الحادث، فيما لم يخصص المجلس وقتًا لمناقشة الفاجعة في جلسة عامة.

سكرين شوت لبوست حصد تفاعلًا واسعًا على فيسبوك كتبه عضو التنسيقية الدكتور محمد فتحي ينتقد فيه أداء وزير النقل كامل الوزير في حادث الطريق الإقليمي، 28 يونيو 2025

كان من بين التحركات البرلمانية طلب إحاطة قدمه النائب فريدي البياضي عضو المجلس عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي يطالب باستدعاء وزراء النقل، والصحة، والتعليم العالي. سألت البياضي قبل يومين "هل تمت مناقشة هذا الطلب؟"، أجاب "لا، الوزير ماحدش بيناقشه".

أما المنوفية، فلم تكن حادثة طريق الموت جديدةً على النواب، فالحوادث المفجعة ليست مفاجأة في الطريق الممتد لنحو 400 كم ويربط 15 محافظة، فسبق وقدم نائب حزب مستقبل وطن عن دائرة الباجور بالمنوفية محمود البرعي طلب إحاطة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بشأن الطريق، وقال إن "تشغيل الطريق للاتجاهَين في حارة واحدة؛ نظرًا لأعمال الصيانة والرصف؛ ترتب عليه وقوع العديد من الحوادث البشعة بشكل يومي". 

 لم تسفر طلبات الإحاطة عن شيء خاصةً مع استمرار غياب وزير النقل كامل الوزير عن اجتماعات لجنة النقل والمواصلات، التي تناقش هذه الطلبات إم لم تظل حبيسة الأدراج لحين حضور المسؤول، فتنضم لعشرات الطلبات المعطلة والأزمات المستمرة دون حساب.

لكن قوة الفاجعة وتأثيرها والتعاطف الشعبي والإعلامي مع فتيات قرية كفر السنابسة دفعت المجلس لتحرك أكثر  قوة ووضوحًا، بدأه رئيس المجلس بالوقوف دقيقة حداد على أرواح الضحايا. 

خصص جبالي 45 دقيقة من الجلسة العامة للبيانات العاجلة التي يلقيها النواب، والاستماع لرد الحكومة، ومع صمت لجنة النقل والمواصلات على مدار الأيام الماضية، أعلن رئيسها النائب علاء عابد انعقاد اللجنة منذ الساعات الأولى لحادث المنوفية والمتابعة "ساعة بساعة بناء على توجيهات رئيس المجلس".

شهدت الجلسة العامة مطالبات بتشكيل لجنة تقصي حقائق، وسرعة الانتهاء من إصلاحات الطريق، وتساؤلات بشأن الصيانة ومصير أموال الكارتة التي يتم تحصيلها في بوابات الرسوم على الطريق.

رغم هذا، لم يصدر حتى الآن عن البرلمان إعلان عن لجنة تقصي حقائق، أو مساءلة لوزير بعينه، وتظل حتى الآن تحركاته رمزية ودون مستوى الفاجعة.

من يدير الطرق؟

بين صفوف الأغلبية والمعارضة، التقت كلمتا نائب رئيس حزب مستقبل وطن علاء عابد والنائب المستقل ضياء الدين داود. كشفا في مداخلتيهما أن الأزمة ليست في وزارة النقل وحدها، أو قدرة المجلس على محاسبة كامل الوزير أم لا، لكن الأزمة فيما هو أبعد من وزارة النقل.

انتقد داود إدارة الطرق التي تجعل المليارات التي أنفقت عليها "هباءً منثورًا"، وقال "مش كيمياء ولا نخالف شرائع من سبقونا في إدارة الطرق، لكن الحكاية تتحول لخناقة على إدارة الطرق بين جهات وهيئات، وعندي استعداد أسمي بالأسماء، أسماء لن نستطيع أن نستدعي أيًا منها للبرلمان". 

يضيف داود مستنكرًا "حد يقدر  يستدعي اللواء مجدي  أنور للبرلمان وهو مسؤول عن شركة من كبرى الشركات الموجودة التي تدير الطرق؟ حد يعرف الإيرادات اللي بتروح للشركة دي بتروح فين بتتورد لمين بيتعمل منها صيانة شكلها إزاي؟".

هل نحن أمام خلافٍ على إدارة الطرق يدفع ثمنه المصريون؟

أما النائب علاء عابد رئيس لجنة النقل والمواصلات فقال إنه أرسل مذكرة لرئيس المجلس "تتضمن بعض الجهات، ليست الهيئة الخاصة بالطرق والكباري فقط، لكن بعض الجهات المعنية، حتى يمكن الوصول لتوافق حول إدارة الطرق بشكل جيد". 

هل نحن فعلًا أمام خلاف على إدارة الطرق يدفع ثمنه المصريون؟ هل هذه الجهات تتنازع الاختصاصات على حساب أمن المصريين وأرواحهم؟

ربما لا نجد إجابات شافية لما طرحه داود بوضوح، ولوَّح به عابد، لذا قد يكون الأوقع والأنسب الاستجابة لمطالب داود بتدخل الرئيس لحل الأزمة، والإشراف على "محاسبة كل من سولت له نفسه أن تمتد يده بالإهمال لكل هذه المليارات اللي استلفنا فلوسها. لم ننشئ هذه الطرق من فوائض مالية.. استفلنا فلوسها لتحسين حياة المصريين". 

عزاء وإنجازات وغياب المحاسبة

بدا المستشار محمود فوزي وزير الشؤون النيابية والقانونية حريصًا على الظهور بمظهر يتناسب مع الفاجعة. حضر الجلسة ببدلة سوداء ورابطة عنق سوداء، بدأ  كلمته بتقديم واجب العزاء الذي تأخر عنه رئيس مجلس الوزراء.

قال فوزي إن الفقيدات شابات يطلبن الرزق بشرف يعملن لتأمين مستقبلهن ورزقهن، الحادث الأليم هز الوطن، نتفهم حجم الألم الذي خلفه ونعرب عن تضامننا الكامل مع أهالي الضحايا والمصابين، وأكد تحمل الحكومة المسؤولية واعترف أن التعويضات لا يمكن أن تجبر الضرر المادي أو المعنوي الذي خلفه الحادث.

قدّم الوزير سردًا تفصيليًا عن الطريق الإقليمي والوصلة محل الحادث التي تمتد لـ152 كم. أوضح أن المسار الجنوبي مغلق للصيانة، والسير يتم في الشمالي الذي قُسم لحارتين تفصلهما حواجز  خرسانية.

وأشار إلى أن بعض السائقين أحدثوا فتحات غير قانونية لعبور الحواجز، منتقدًا "السلوكيات الفردية الخاطئة" و"ضعف الوعي المروري"؛ ينبه "لا نعفي أحدًا من المسؤولية"، لكن "احترام قواعد المرور مسؤولية جماعية، والوعي المروري مطلوب والجهود متصلة ومستمرة".

أسهب الوزير في الإنجازات في توقيت غير مناسب

لم يكتف فوزي بذلك، بل ذكرنا بإنجازات الحكومة في تطوير وإنشاء الطرق والقفزة التي أحدثتها ونقلت مصر  في مؤشر جودة الطرق من المركز 118 إلى 18 عالميًا.

أسهب الوزير في الإنجازات في توقيت غير مناسب لها ولا يتناسب مع حجم الألم، مع ذلك وسط هذا العرض التفصيلي، غابت عن مداخلته كلمة "المحاسبة". لم يتطرق إلى مسؤول إداري أو تنفيذي بعينه. لم يُجب على تساؤلات غياب الصيانة أو ضعف الإشراف كأن الحكومة قررت أن ترد على مأساة المنوفية بلغة المؤشرات الدولية والردود التقنية في ظل مأساة إنسانية.

بعد كل ما قيل، لا يجب أن تنتهي الحكاية بدقيقة حداد. لن يُمحى ذنب الفتيات بخطاب الوزير أو نعي النواب. ما حدث في الطريق الإقليمي لا يجب أن يُختزل في "سلوك فردي" أو ضعف "وعي مروري"، لكنه غياب واضح للتخطيط والمحاسبة والإشراف. الموت لم يكن صدفة، بل حصاد ملفات مؤجلة وتنازع اختصاصات جهات متعارضة وتردد في المساءلة وغياب الإصرار على المحاسبة.

لا أجزم أن هذا الحادث قد يغيّر أي مسارات في أداء الحكومة أو البرلمان، لكن من أجل 19 فتاة كتبْتُ، من أجل سارة وهنا وهدير ومنة وحبيبة وشروق وشيماء ورويدا وتقى وجنا وأسماء وإسراء وسمر وملك وآية ومروة وميادة وآيات. من أجلكن كتبت حتى لا تصبحن مجرد رقم يضاف إلى سجل الفقد في هذا الوطن.