"ترعة أم الشراميط": اسم صادم لحكايات التاريخ ولحوم الغلابة

منشور الاثنين 11 يونيو 2018

 

يُنظر كثيرًا إلى السرد في القصة والرواية على أنه مجرد حواديت وحكايات للتسلية وإمضاء الوقت. ويكافح الكُتَّاب لتغيير هذه النظرة من خلال ما يكتبونه، أملاً في قدرة هذه الكتابة على الفعل والتغيير وفتح آفاق جديدة، وتعريف القارئ بأراض جديدة. يقول القاص المغربي أنيس الرافعي "مهمة الأدب هي تسليط الضوء على المهمش والمهمل وغير المنظور من الآخرين".

وفي هذه المجموعة القصصية "ترعة أم الشراميط" يتجول القاص سعيد الجزار بين سطور التاريخ التي تركت آثارها على عمران القاهرة القديمة، وحياة البشر المهمشين المقيمين بها؛ وبين مهنة من أكثر المهن التي تكونت عنها صورة ذهنية للرجل القوي الغني الذي لا يستطيع الآخرون التمادي في الحديث أو الفعل معه، ألا وهي الجزارة.

كان الباحث محظوظًا أن تكون الصدمة الأولى له أمام عنبر السميط المخصص في جزء منه لغسيل أم الشراميط، كانت المفاجأة هي الاحتفال بأم الشراميط على باب العنبر، فتيات العفوس وفتيانها يرقصون وينشدون وهم يلوحون بالسكاكين في الهواء: "شراميط.. مراميط.. آخر الزراريط.. افهم يا عبيط.. من لمسة تشيط.. جوه الزعابيط.. بياعها أليط.. ملفوف بشريط.. عنبرها سميط.. في سبع قراريط"*

 

إعلان لبيع قطعة أرض واقعة على الترعة في المنوفية

بينما أبحث عن عنوان هذه المجموعة الذي استفزني، وجدت إعلانًا عن بيع عقار يقع على هذه الترعة بالمنوفية لأكتشف أنه مكان حقيقي. "ترعة أم الشراميط" نعم العنوان صادم؛ ولكننا من خلال القصة التي اختارها سعيد الجزار لتكون عنوانًا لمجموعته القصصية، نتذكر أن "أم الشراميط" هي جزء من سقط البهيمة عبارة عن مجموعة من اللفائف الموجودة ببطن البهائم، تباع مع الكرشة، ويتم تنظيفها إلى جانب العديد من أعضاء الحيوان الأخرى وبيعها لمن يريدون تذوق اللحم ولا يقدرون على ثمنه. يعرفنا الكاتب أيضًا بوجود مكان يحمل هذا الاسم ذُكر في الخطط التوفيقية بالجزء ال16 ص 141، وكيف يمكن للوعي الشعبي الانحياز إلى الوظيفة التي تقوم بها هذه الترعة، وارتباطها بتنظيف هذا الجزء من البهيمة بغض النظر عما يثيره هذا اللفظ من استياء.

ولكن ماذا يريد سعيد الجزار من هذه القصة؟ يعرض لنا الكاتب العالم المحيط بالترعة من خلال باحث ينتمى للطبقة الارستقراطية، يتآمر عليه أساتذة القسم ليذلوه وكأنه انتقام طبقي، بأن يحددوا له موضوع بحث حول "الألفاظ في العامية المصرية وأثر ذلك على السلوك الاجتماعي.. أم الشراميط نموذجًا" ليتجول هذا الباحث في قرية "مؤنسة" التي تقع بها ترعة أم الشراميط، ومذبح مصر القديم وعنبر السميط وسوق الحتت ودرب المسمط، ليتحقق النجاح في هذه الدراسة مع انكسار شعوره بالفخر لانتمائه لطبقة معينة طوال حياته "يا فرحة العيلة؟ حفيدها صار متخصصًا في أم الشراميط!".

بعد تجاوز اسم المجموعة الصادم الذي نكتشف أنه منتزع من واقع وصور نراها غالبًا في بعض المناسبات كعيد الأضحى، نلاحظ أن سعيد الجزار لديه ثلاثة محاور رئيسة تدور حولها مجموعته القصصية. ففي الشوارع والحارات والعطفات التي امتلأت بحكايات التاريخ، والتي أُهملت وتُركت لتكون مُستباحة لسكن عشوائي يلجأ إليها الفقراء الذين أهملتهم الدولة ولم توفر لهم سكنًا لائقًا؛ تدور أحداث قصص المجموعة التي اتخذت من هؤلاء الفقراء أبطالًا لها، في مسعاهم لالتماس الغذاء الأكثر تقديرًا لدي العامة، وهو البروتين الحيواني الممثل في اللحوم. فيكشف لنا سعيد الجزار خفايا الجزارة وأنواع اللحوم المقدمة على موائد هؤلاء الفقراء، وكذلك أسرار تسمية الشوارع والمناطق بهذه الأسماء التي تعود إلى عهود تاريخية قديمة.

لحوم الفقراء

 

"كان شراء قطع اللحم الصغيرة يتم في جو من الإرهاب المبطن، وكأنه شراء اضطراري تحت تهديد السلاح، دعت إليه الحاجة والضرورة، ولم يجعل لهذا السوق مكانة ولا استمرارًا طوال سنوات عديدة سوى الأفواه الجائعة التي تنتظر بالمنزل، أو الأجسام التي أعياها التعب طوال يوم شاق من العمل أو التجوال عبر الشوارع والحواري".

عبر عدد من القصص يُعبِّر سعيد الجزار عن سبب نشأة أسواق لبعض أجزاء الذبيحة، التي ربما لم تكن لتجد سوقًا أو زبائن لولا الفقر، واعتقاد المشترين بأنهم يقومون بشراء ولو شيء من طبيعة اللحوم. في قصة "ثورة نساء الطبالي" يعرض القاص لطبيعة المشترين، فهن زوجات الأرزقية والعمال اللاتي لا يجدن المال الكافي لشراء اللحوم من محلات الجزارة المعتادة.

 

بائعات أشباه اللحوم بالقرب من مجزر المنيب - الجيزة 

هذا الشعور بالطبقات الفقيرة ومحاولاتها استكمال الحياة ولو عن طريق الاحتيال بالموجود أو الرضا به، يتردد بكثرة في ثنايا المجموعة، فنجد في أولى القصص "حلويات عم إبراهيم"، الجزار الذي يحاول تثبيت سعر اللحم رغم موجات الغلاء بإضافة قطع من الدهن، وصولًا إلى الآذان والقرون. وفي قصة "بطون أكلها الجوع" يستنكر أحد الجزارين تصرف السيدة التي تشترى لحم البشائم- مشائم (الكيس الذي يتكون بداخله الجنين) على أنها "حلويات اللحوم" فتسأله "عندك حاجة حلال بـ 2 جنيه للكيلو؟" وتستكمل ساخرة "هي البطون اللي واكلها الجوع بتفتش؟!".

وصولًا إلى قصة "وئيع أبو عيسى" إذ تُذبح البهائم المصابة بعيوب خلقية وتباع لحومها بأسعار أرخص. وينهي الكاتب تلك القصة بسخرية جزار يقول "خلِّي الغلابة تاكل". ولكن من بين هؤلاء الغلابة طفلة كانت تتبع أمها لشراء لحم الوئيع، أصبحت الطفلة على أبواب رسالة الدكتوراه في كيمياء التغذية، وإذ وقفت وهي تناقش رسالة الدكتوراه أمام اللجنة، قالت بلا مناسبة "إذا لم ينعم فقراء العالم بطعام جيد؛ لن يرى هذا العالم السلام".

تاريخ مهمل على الطرقات

"أما علماء الاجتماع في العصر الحديث فيقولون بأن من أصالة المجتمع المصري أنه مهما بَعُد التاريخ، فإنه يفعل مثلما كان يفعل أجداده ويحافظ على تراثه من الضياع".

الملمح الثاني في المجموعة هو التجول في حواري وعطفات وشوارع مصر القديمة، وما آلت إليه تلك المناطق بعد زحف الفقراء إليها في ظل إهمال الدولة لقيمتها التاريخية وإمكانية استغلالها سياحيًا، أو حتى بكونها عنصرًا مهمًا في أرابيسك التاريخ والهوية المصرية.

 ففي قصة "أرض الطبالة"، يعود بنا القاص إلى عام 1031م، حينما أهدي الخليفة المستنصر بالله أرضًا شاسعة لامرأة تدعى "نسب" أو "طرب" لإنشادها بيتين من الشعر تواكب فيهما فرحة المستنصر بمآل الأمر للفاطميين في مصر بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد. وهنا تقوم الذاكرة الجمعية للمجتمع بتخليد هذه الحكاية من خلال تسمية هذه المنطقة بأرض الطبالة. ويستعيد القاص ما أحدثته هذه الواقعة في معايير المجتمع حيث أعلت من شأن الطبالين على حساب الفئات الأخرى، فقد حصلت "طبالة" على أراضٍ شاسعة في لحظة، بينما لم يهتم المستنصر بالعلماء والشعراء الآخرين.

 

صورة من اوائل القرن الماضي لشارع وأرض الطبالة بالفجالة

حكايات التاريخ مضفورة في أحوال ومآل المناطق وسكانها على طول قصص المجموعة، يعود سعيد الجزار في التاريخ في قصة "مدبح أم السلطان" إلى (عام 620 هـ)، في فترة السلطان قلاوون الذي حكم مصر بعد الملك الظاهر بيبرس. أقام السلطان لنفسه ولزوجته وأمه مقبرة، أُهملت إلى أن أصبحت ساحة لذبح إناث البقر -التي يجرم القانون ذبحها- لكنه يشير في نهاية القصة إلى ملمح تاريخي آخر، فيذكر السلطان الأشرف خليل الذي حكم مصر بعد أبيه السلطان قلاوون، وكان له الفضل في القضاء على آخر معاقل الصليبيين في عكا 1291م، لكنه لم يكن محبوبًا من الشعب ولا من قادة المماليك، فقتله الأمير "بيدرا" عام 1294م. يختم سعيد الجزار القصة بجملة تقول "وهكذا يقول التاريخ: في النهاية لا بد من قتل البطل".

ويستمر التجول في حواري القاهرة ليقتفي القاص كيف يحمل المكان أحداثًا تاريخية ويخلدها، من خلال ذاكرة شعبية احتفظت باسم للمكان يربطه بالحادثة، كما في قصتي "عطفة الشُّربة"، و"وكالة الطرشي".

سر المهنة

 سعيد الجزار حاصل علي بكالوريوس كلية العلوم قسم الكيمياء الحيوية، وكاتب وفنان تشكيلي، لكنه يعمل بمهنة الجِزارة خلفًا لوالده. ولذا، نجد في مجموعته الكثير من أسرار مهنة الجزارة بعيدًا عن الصورة النمطية للجزار التي نشاهدها في المحال أو على شاشة السينما. فنرى "نساء العفوس" اللائي يقمن بتنظيف أحشاء الذبيحة في قصة "ترعة أم الشراميط"، ووكالة "النِّتْي" (الإناث) والتي فيها تُذبَح إناث الأبقار الصغيرة تحايلاً على تجريم القانون لذبحها، من خلال اختيار وقت الذبح والاستعانة بعدد كبير من "الناضورجية" الذين ينبهون الجزارين في حالة قدوم الشرطة، في قصة "مدبح أم السلطان".

 أما في قصة "ثورة نساء الطبالي" فنتعرف على نساء الطبالي في سوق الحتت أو القطع الصغيرة المختلفة من أصناف اللحم المتعددة، التي يجمعها البشكار (جزار الدبح)، بعد الحصول عليها أثناء الذبح وإسقاط الأحشاء، ولذلك تسمى بـ "السقط" ويجمعها بصفيحة ثم يلقيها على الطبلية لتقوم الفتاة بتصنيف هذه القطع أو الحتت وبيعها، وكذلك من يقومون ببيع اللحم الفطيس (أي الميتة أو التي أوشكت على الموت)، أو بيع لحوم الوئيع (التي وُلدت بعيب خلقي) كما في قصة "وئيع أبو عيسى". ويلفت الانتباه إلى فئة أخرى من الذبائح وهي الخنازير، ويحكي أنه في حالة هروب خنزير من العربة التي تحمله، يتعرض للركل والطعن لاعتباره مدنسًا من الجزارين والجمهور، أو ينقل صورة للشجارات التي تحدث في تلك المجازر كما في قصة "حارة السماكين". كما يعرض للرقص والأغاني التي يرددها العاملون بتلك المهن.

أحيانًا يخرج سعيد الجزار خارج حياة الجزارين ليعرض الفئات المجتمعية المرتبطة بهذا العالم، من خلال قصص مليئة بالمفارقات مثل حادثة سرقة في قصة "عنتر أو ثور أبو عافية"، أو تحايل الباعة الجائلين على حملات البلدية بإشارة وجملة "بلا لوكا في الدرا بوكا"، وكيف تتحول الجملة إلى طريقة لمعاكسة السيدات بالشارع، أو طريقة التنقل من خلال عربات الكارو الخاصة بالمعلمة أم شوقي في قصة "مأتم العريس".

كتب سعيد الجزار مجموعة قصصية باسم صادم هو "ترعة أم الشراميط"، ولكنه من خلال تفسير الاسم وتتالي قصص المجموعة؛ يذكِّرنا بأن ما نشعر بالإساءة منه أو نظن أنه يخدش حياءنا، هو واقع وموجود، تمتلئ به شوارعنا وحاراتنا. إنه يقابلنا بالتاريخ والأماكن التي مرت بها شخصيات صنعت هذا التاريخ، ويصدمنا بألفاظنا العامية التي تعبر عن وظائف تعبيرية، متحديًا الجمهور بهذا الاسم الذي أصر عليه، فهل سندفن رؤوسنا في رمال الصور النمطية والرؤى الأخلاقية عن ذواتنا؟ أم نواجه واقعًا موجودًا بالفعل يتعدى قبحه لفظة عامية اختارها الكاتب عنوانًا لمجموعته القصصية؟


(*)- المقاطع بالخط العريض المائل هي اقتباسات من المجموعة القصصية