بارانويا الشعوب: لماذا ننساق وراء نظرية المؤامرة؟

منشور الأحد 26 أغسطس 2018

لا أذكُر متى نشأ المواطن العربي في جو يسودهُ فكر التآمر ضد شعبه ودينه وأمته، فرسّخ هذا الفكر في ذهنه نظرية مفادها أن الغرب بأكمله يتآمر ضده حتى يمنعه من التقدم والارتقاء، فـ"الغرب" ليسوا إلا مجموعة من البشر يجمعها الشر والعداء للإسلام، باعتباره أفضل دين، وباعتبار العرب خير الأمم، فلماذا نلجأ دائمًا للمؤامرة، من أجل تفسير كل فشل أو تراجع؟ 

في وطن يبدو مسرحًا للأفكار الراديكالية، هيمنت نظرية المؤامرة على أصحابها بالفكر الإقصائي الذي نتج عن التفكك الثقافي وغياب المعرفة.

عندما اندلعت ثورات الربيع العربي الذي تعد مثالًا للفخر والكرامة، تكاثرت محاولات تحليلها بعدة اقتراحات أشار بعضها إلى أنها مؤامرة أمريكية لتقسيم وحكم الشرق الأوسط، كما أشار البعض إلى أن من أحبط أهدافها قوى داخلية مستفيدة، ترابطت نظرية المؤامرة استنادًا على ما سُميَّ بمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أعدّته إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن عام 2004 للسعي إلى إعادة تنظيم المنطقة.

شمل هذا المشروع عدة عبارات رددها المسؤولون حينها مثل "الشرق الأوسط الجديد" و"الفوضى البناءة"، واعتبر بعض المراقبين حينها أن المنطقة العربية تمر بمؤامرة تشبه اتفاقية سايكس بيكو، خاصة وأن مصطلح "الفوضى البناءة" الذي روجت له مستشارة الأمن القومي الأمريكي ووزيرة الخارجية لاحقًا كونداليزا رايس، ضمن خطة الشرق الأوسط الكبير، فُسِّر باعتباره تلميحًا لإعادة تقسيم المنطقة حتى تتمكن الولايات المتحدة وإسرائيل من السيطرة على الشرق الأوسط، وعلى ضوء ذلك جرت قراءة موجة الربيع العربي، باعتبارها تطبيقًا لأطروحة الفوضى الخلاقة. 

 

الصورة: Arab Revolutions

تمر أي ثورة قبل أن تشكل أساسًا واضحًا لمسلك ديمقراطي، بمرحلة الفوضى تلك، وهنا يجوز اعتبار ثورات الربيع العربي بمثابة الخطوة الاولى من عملية دمقرطة أوسع، قد تشمل -الخطوة الأولى- أعمال فوضى، ولكن أعمال الفوضى هذه في المقابل وإن كانت مرحلة حتمية في أي تحول ثوري، تشكل أيضًا خط دفاع للذين يروجون لنظرية المؤامرة وأولئك الذين لم يشهدوا في تلك الثورات أي تقدم ولم يروا إلا الفشل المتزايد والإحباط.

هذا المصطلح (نظرية المؤامرة) الذي يُردد سواءً بين السياسيين أو الشعوب العربية، أصبح هوسًا رائجًا وفتح بابًا واسعًا للجدل، خاصةً وأنه بعد فشل القومية العربية وتفكك الأيدولوجيات السياسية بالمنطقة، بات هناك مجال واسع لولادة نظريات التأثير الغربي في سياق الأحداث التي شهدتها المنطقة.

ولكن ما وجه الاستفادة من الإطاحة بنظم حرصت على خدمة المصالح الغربية؟

إذا كانت هناك مؤامرة بالفعل فالمسؤولية كلها تقع على القوى الداخلية التي ومن أجل الحفاظ على مصالحها وجهت دفة الحراك الثوري إلى أهداف أخرى لا تتعلق بما قامت من أجله الثورات أصلًا، وتقع كذلك علينا جميعًا في لحظة إقرارنا بالهزيمة. 

في سياق متصل، أحد الأحداث الذي قلب موازين العالم كله؛ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، ما زالت الآراء تتباين حول ظروفه وملابساته والمسؤولين عنه. 

هناك اعتقاد سائد ليس بين العرب فقط بأن الحكومة الأمريكية متورطة في الهجوم الذي أسفر عن مقتل ثلاثة آلاف شخص،  فلم يمض وقت طويل إلى أن تتابعت الأخبار التي تدعم نظرية المؤامرة.

في استطلاع رأي أُجري عام 2008 كشف ان 43% من المصريين يعتقدون بأن إسرائيل كانت وراء هجمات 11 سبتمبر، ومن بين أكثر الشائعات انتشارًا أيضًا أن آلاف اليهود لم يذهبوا إلى العمل يومها في برجي مركز التجارة العالمي لأنهم تلقوا تحذيرات بأن شيئًا ما سيحدث، وهو ما تنفيه بطبيعة الحال البيانات الخاصة بالضحايا والتي تشير إلى أن 400 من إجمالي 2749 ضحية قتلوا في الهجوم كانوا يهودًا، مما يمثل بين 10إلى 15بالمئة من ضحايا الهجمات.

 

الصورة: flickr

وفي حين لا تزال هناك معلومات مفقودة، قسَّمَت الحكومة الأمريكية التقارير الرسمية الخاصة بالهجمات على سنوات مما دفع أكثر من نصف الأمريكيين أيضًا إلى الاعتقاد بأن الحكومة تتعمد إخفاء المعلومات، وذلك حسب دراسة أجرتها عام 2016 جامعة تشابمان في كاليفورنيا.

وبينما نسعى إلى البحث عن تفسيرات منطقية رغبةً في الفهم واليقين عند الشعور بأن الأحداث أصبحت خارج نطاق السيطرة، إلا أن الناس غالبًا ما يميلون إلى جمع البيانات التي تؤكد قناعاتهم، ويتجاهلون تلك التي تناقضها، مما قد يؤدي الى حالة من الهوس دون معرفة حيثُ يجهل الكثير بأن هناك فرقًا كبيرًا بين المؤامرة السرية التي هناك ما يعززها على أرض الواقع، والمؤامرة التي فقط تلائم نظرتنا للعالم.

بنسبة أو بأخرى نميل جميعًا إلى الشك وعدم الثقة حين يدفع بنا القلق الى الوهم، عندما نواجه أمرًا ما نعجز عن فهمه منطقيًا، وفي ظل وجود أزمات مجتمعية كبيرة، تجد نظرية المؤامرة الأرض الخصبة اللازمة لتنمو، ويتجه كثيرون إلى الانحيازات المعرفية من أجل تفسير الأحداث غير الواضحة التي تبدو تفاصيلها معقدة بعض الشيء، أو أن "نظرية المؤامرة غالباً ما تنتج فرضيات تتناقض مع الفهم السائد للتاريخ أو الحقائق البسيطة"، بحسب أستاذ العلوم السياسية مايكل باركون في كتابه ثقافة المؤامرة: الرؤية المروعة لأمريكا المعاصرة.


- لماذا أصبحت المؤامرة جُزءًا من سِمة العقل العربي؟

"الجهل أبو الريبة" كما يقول المؤرخ جيبون عندما وصف نظرية المؤامرة بأنها عدم القُدرة على تفسير الأحداث نتيجه للجهل ونقص المعلومات، وهذا ما يساعد على انتشار المؤامرة في المجتمعات المنغلقة وبين الطبقات الأقل علمًا.

بإلقاء الضوء على جذور الأزمات المجتمعية في الشرق الأوسط تجد بأن الفكر الإقصائي الذي طغى على طرق التفكير أدى إلى تفكيك المجتمع وتغييب العقول.

وفي ظل مناخ سياسي أفسدته القوى الحاكمة السابقة حيث اعتادت تلك الأنظمة تشكيل الوعي الثقافي لدى الشعوب بمعرفتها، فأسهمت في إشاعة التجهيل المروج للإقناع بقبول الوضع وعدم المطالبة بالحقوق مما جعل تأثير نظرية المؤامرة يمتد أكثر بين العامة.

فغالبًا ما تستغل النخب السياسية والنظم الحاكمة تِلك النظرية لحشد شعوبها نحو قضيةٍ ما أو لتصفية خصومها مثل النظام السياسي المصري الذي كثيرًا ما يُندد بالمؤامرات التي تنسجها ضده بعض الدول، وكثيرون يصدقون تِلك الشائعات دون أدنى تفكير ولا يترتب هذا إلا على تفشّي الجهل وعدم الوعي الثقافي.

وهذا أسلوب اعتادت النخب السياسية والقوى الإعلامية الموجهة على اتباعه، بتحويل الحديث عن نظرية المؤامرة إلى مهمة وطنية للسعي إلى تحسين صورة النظام، فأصبح رواد المؤامرة يمارسون التضليل بكامل إرادتهم لضمان طاعة الشعوب العمياء، بإظهار أي حدث ينال من سمعة النظام الحاكم على إنه مؤامرة ضد البلاد، مما أثّر سلباً على حالة الإدراك العام لدى الشعب في تفسير الأحداث من حوله ليُصبح هذا الأسلوب ناقوس خطر.

ليس ضروريًا أن يكون هناك عدو خارجي يريد الإيقاع بنا، فطالما كان هناك عدو داخلي هو أي نظام سياسي فاشل، مع عقل جمعي مقبل على الانهيار الفكري، فالشعوب العربية باتت أكثر تأثرًا بصناعة الأكاذيب التي تمررها الحكومات من خلال مختلف وسائل الإعلام.

ربما يتآمر العالم علينا وقد يكون هناك من يريد الإيقاع بنا، ولكن هذا لا يعني أننا أسوياء، فنحن من نسمح للمتآمر بتحقيق هدفه بنا لأننا من نملك زمام الأمور والتحكُّم في المجال الذي يتيح إلحاق الضرر بنا، فالقوى العُظمى لا تفرض نفسها إلا على الضعفاء وليس العكس، والقوة لا تُنال إلا بالتقدم العلمي والتحضر، ولا يأتي التقدم في ظل الفشل السياسي والاقتصادي واستبداد الحُكام بالابقاء على التخلُّف وقِلة الوعي. 

من لا يملك الوعي الفكري والثقافي ستتوالى عليه الهزائم الداخلية قبل أن تتدخل من أجله قوى خارجية، لأن المجتمعات الأكثر تقدمًا تضيق بالضرورة المجال التآمري أمام أعدائها. 

"نظرية المؤامرة" مُريحة لأنها تعفينا من التفكير في مسؤوليتنا عن الهزيمة والفشل ولأننا قبلنا بالأنظمة الفاشية التي دائمًا ما تؤدي الى الكوارث في كل البلاد التي حكمتها.

لذا فعليك أن تعلم بأن تخلُّفك قرارك وليس قدرك، وأنك العدو الأول والخطر الأكبر، فهذه ليست دعوة للتخلى التام عن وجود مؤامراتٍ دولية، وإنما تدعونا إلى التفكير المنطقى لأنها لا تُثير القلق بقدر ما تُزيد الشعور بالعجز.