نجيب محفوظ - صورة مفتوحة المصدر من ويكيميديا

سلامة موسى ومحفوظ: نظرة التلميذ النجيب للمعلم الناسك

منشور الأحد 4 أغسطس 2019

هناك قصة شائعة في أوساط الحرافيش مفادها أن نجيب محفوظ في بداياته أخذ مخطوطة أول رواياته وزار بها أستاذه سلامة موسى في بيته، وتركها له ليقرأها ويبدي الملاحظات.  

كان محفوظ وقتها ينظر لموسى على أنه "الأستاذ القدير". أولًا بسبب دعم موسى له عندما طبع له قصته القصيرة الأولى ثمن الضعف ثم ترجمته لكتاب مصر القديمة، وكذلك نشر مقالاته الفلسفية في المجلة الجديدة التي كان يصدرها سلامة موسى. وثانيًا، كانت لموسى بشكل عام مكانة كبيرة بين مثقفي مصر مطلع القرن العشرين خاصة بعد إقامته في لندن بين عامي 1908-1914 ومعاشرته وتأثره بالكاتب البريطاني برنارد شو، زد على ذلك رفضه القاطع في مؤلفاته وتصريحاته للملك وسطوة الاستعمار.

اعتز محفوظ كثيرا بصداقة وأستاذية موسى، وكما هو معهود، فالتلامذة في البيئات الثقافية على عكس البيئات المدرسية هُم منْ يختارون أساتذتهم.

بعد مُدّة عاود الأديب المُبتدئ زيارة أستاذه ليطمئِن على مخطوطة روايته، فطلب منه سلامة أن يأخذ معه المخطوطة ويُلقيها في أول سلّة قمامة. عمل محفوظ على رواية جديدة سمّاها خوفو قبل أن يغيّر سلامة موسى اسمها إلى عبث الأقدار، وينشرها عام 1939 كباكورة أعمال أديب شاب سيصبح لاحقًا أهم أديب عربي في القرن العشرين. 

رغم فظاظة واقعة المخطوطة وسلّة القمامة، إلا أن موسى لم يكن ليندم على قسوته مع تلميذه حتى لو كان عاصر فوز محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988.


رأى موسى فيما يقدمه كُتّاب عصره سواء من هم في جيله أو من الأجيال الأصغر، مجرد كتابات مفعمة بالزخارف الأدبية والتشبيهات الدراماتيكية أو مُنغمسة في الماضي مَلهية بحِقب وقصائد لن تحقق لشعوبنا اليوم أي مجد علمي أو ثقافي، وإذا نجت كتاباتهم من هذا أو ذاك فهي تتملق السراي وتفخّم الملك، ومَحاورها أيضا في رأيه هزيلة جدا.

في كتابه برنارد شو الصادر عام 1957 يسخر موسى من ثيمة أدبية انتشرت في تلك الأيام حول العفاريت، وأغلب الظن أنه لم يقصد تلميذه، لكن هذا لا يمنع أن تلك الثيمة كانت شائعة بالفعل في أجواء روايات محفوظ.

كذلك في كتابه تربية سلامة موسى نجده يردّ على منْ لا يعدّونه من مصاف الأدباء بسبب "لُغته التوثيقية"، مُتعنِتا مُعلِنا أنه ليس بحاجة لتكلّف لُغته ليوصِل أفكاره، التي هي "أهم وأثمن من أي زيّ لُغويّ"، وهذا يحيلنا بشكل أوتوماتيكي للُغة تلميذه المُكتظة بالشاعرية والتجميل حتى وإن لم تأت فلسفيا بجديد.

لكن الآن وقد رحل الاثنان وتبقت أعمالهما، فكم قارئ في الأقطار العربية عرف سلامة موسى مُقارنة باسم نجيب؟


شهد منهج سلامة موسى جدلًا مستمرًا حتى يومنا هذا. في 2009 نشر خليل علي حيدر مقالًا في صحيفة الاتحاد تطرق فيه إلى ما ورد برسالة دكتوراه لعلاء محمد سعيد جاء فيها أن "سلامة موسى ومنْ على شاكلته استخدموا نظرية دارون في الدعوة إلى الكفر والإلحاد". أما موقع حفريات فنشر مقالًا علميًا عنوانه "الإنسان قمة التطور... سلامة موسى مُتأثرا بدارون وجالبا على نفسه اللعنة" وعلى موقع أرشيف إسلام أون لاين نقرأ "تأثر سلامة موسى بشبلي شميل، الأستاذ في الجامعة الأمريكية، ويُعد من أوائل مُمثلي الاتجاه الإلحادي في العالم العربي".

أما شريحة مُثقفي كُتلة اليسار من شباب المسيحيين، فانتهزوا استخدام موسى للمنهج العلمي واعتبروه من تلقاء أنفسهم القطب الضد لأساطير الكنيسة. وبذلك انتقل موسى من مُفكر اشتراكي لرمز من طراز خاص عند رافضي سطوة الكنسية.

بيد أن تلميذه محفوظ لم يتفق معهم على ما يبدو.


في الكُتب الأخيرة التي ألّفها قبل مماته في الرابع من أغسطس/ آب 1958، واندرج معظمها في تصنيف السيرة الذاتية، نجد موسى يُنادي في كتابه عن برنارد شو، بحتمية ارتقاء البشر من الأخلاق القديمة كالفرعونية والوثنية والكهفية إلى الفضائل المسيحية. 

أما مؤلف أولاد حارتنا فقد مرّر رأيه من تحت عتبة أعماله، وكان رأي محفوظ أن تخلّص مُفكر مسيحي أمر مستحيل مهما بدا العكس. ورغم أن محفوظ لم يعلن ذلك صراحة لكن الرمزية التي تمثلت في شخصية رياض قلدس في الثلاثية، والتي تشير بجلاء نحو سلامة موسى، تقول ذلك. 

كان قلدس يعمل مترجما بوزارة المعارف ويسهم في تحرير مجلة الفكر، وسلامة موسى ترأس تحرير مجلة الهلال وأسس المجلة الجديدة. وفي أحد فصول الرواية يصنع المؤلف لقاء بين الابن كمال عبد الجواد الذي يرمز إلى نجيب محفوظ وبين أستاذه رياض قلدس سلامة موسى، وحينما يعلّق الأستاذ على إحدى المسائل الفكرية مُتشبِعا بعقيدته الماضية، يستنكر عليه التلميذ أنه لم يتخلّص بعد من رواسبه المسيحية، وكأنه عتاب مضمر من التلميذ للأستاذ. 


كلاهما تجنّب الآخر على نحو درامي. أصدقاء في الواقع، أنداد في المؤلفات.

وللمفارقة أنه رغم تمنّع سلامة موسى عن ذكر أي شيء يمتّ لتلميذه بصلة، يأتي ابنه الدكتور رؤوف سلامة موسى عام 2003 ليكشف أمورا من علاقتهما في كتاب مقالات نجيب محفوظ الفلسفية الصادر عن مطابع المستقبل المملوكة لعائلة موسى. يتحدث الابن في مقدمة الكتاب بضمير الشخص الثالث عن علاقة الأستاذ بأستاذه، ويذكر في سطرين أن والده أُعجب بالفعل بالثلاثية وقتما صدرت، لكن الابن يتقصّد أن يستخدم لفظة معينة واصفا ذلك الإعجاب فيقول "وقبيل وفاة سلامة موسى في أغسطس 1958، قرظ ثلاثية نجيب محفوظ في يومياته بجريدة الأخبار القاهرية (تقريظا) حسنا".

ولنفهم كيف انتهت العلاقة بين الأستاذ والتلميذ، علينا الرجوع لفقرة أخرى من نفس الكتاب يرويها الدكتور رؤوف يقول فيها "انقطعت علاقة نجيب محفوظ منذ أواخر الثلاثينيات بسلامة موسى ومجلته المجلة الجديدة. وأصبحت للأول ندوته الأسبوعية في الإسكندرية، وللثاني ندوته الأسبوعية بجمعية الشبان المسيحيين بالقاهرة. وكانت ندوات الأول 'فرفشية' تضم أدباء وفنانين، أما ندوة الأخير فثقافية تتناول علوم الاجتماع والسيكولوجيا وغيرهما".


وإن كانت أسباب تفسخ العلاقة غامضة، فأسباب التبعية ظهرت بجلاء.

وُلِد سلامة موسى في منزل ريفي مسيحي أرثوذكسي، لكنه على غرار برناردشو امتلأ خارج الإطار المنزلي والكنسي والأكاديمي، وصنع لنفسه معجمَ مصطلحاته الخاص وكراسته المعرفية المعصورة من أفكار نيتشه وداروين وإبسن. في ذلك الوقت لم يكن لا المجتمع ولا الكنيسة لديهما ذرة احتمال لأفكار تدور حول فكرة موت الإله ونظرية النشوء والارتقاء. فالمجتمع وقتها إسلامي الطابع، إنجليزي السياسة، يرفض كل ما هو غربي باسم أنه مسيحي كافر. أما الكنيسة نفسها فهي تدين بالمذهب "التكويني" أي تعتمد سفر التكوين كتفسير وحيد لآلية خلق الكون.

الأكيد أنه خلف انجذاب نجيب محفوظ لسلامة موسى، وقف تشابه المرَاجع التي استمد منها كلاهما ثقافته، فنجد محفوظ مُتأثرا بالداروينية والمذاهب التطورية هو الآخر. ففي أحد أجزاء الثلاثية تعرج شلّة الأُنس والنرجيلة على السيد أحمد عبد الجواد في دُكانه، ونكتشف أنهم إلى جانب الحملقة في مؤخرات الذاهبات والقادمات، يلقون نظرة بين الفينة والأخرى على ما يُكتب في الجرائد عن الاحتلال، فإذ بهم يجدون مقالا لكمال عبد الجواد مفاده أن الإنسان كان قردًا في أحد الأيام.

أما عن تأثره بنيتشه، فرواية أولاد حارتنا هي استخلاص خالص لفكرة تماهي الإله وتمييز عصر قوة الفتوات ونبذ الضعف. وإن كان نيتشه نبيه زرادشت، فمحفوظ له ثلاث أنبياء يُدعون جبل ورفاعة وقاسم.

بالنظر للنهاية التي خلُصت إليها مسيرة كل من الأستاذ والتلميذ، نجد سلامة موسى في مؤلفات السيرة الذاتية الأخيرة يتخلّص من أفكار نيتشه، مُوضِحا أنه كان في حاجة إليها مثل "خرسانة" في مرحلة البناء، أما فيما بعد فقد أصبح لديه فِكرُه الخاص، فيعود في كتابه تربية سلامة موسى لهيكل الطفولة ويمتدح الأفكار المسيحية ويرى وجوب تعميمها على البشر كي ينتقلوا لمكانة فضلى، بطريقة لا تختلف عمّن ينادون بأن الإسلام هو الحل.

أما التلميذ، فقد كلفّته علمانيته كثيرا حتى كادت تزهق روحه عام 1994 حينما حاول أحدهم اغتياله لأنه كتب أولاد حارتنا وحاز جائزة نوبل. واجه محفوظ صعوبة بعد الحادثة في إمساك القلم، وأول ما خطّه على كُرّاسه كانت كلمات توحي بعودة الأديب العجوز للمحراب، أما الحرافيش فكان تعليقهم بعد عودته إليهم سالما: محفوظ أشجع فنان وأجبن إنسان.

 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.