تصميم: يوسف أيمن - المنصة

الصحافة المصرية والبحث عن "تنفيسة"

إهمال النصوص الدستورية يرسخ مبدأ "سرية المعلومات"

منشور الخميس 2 مايو 2024 - آخر تحديث الخميس 2 مايو 2024

وقعت في ورطة أن يكتب صحفي مصري مقالًا بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي يوافق الثالث من مايو/أيار من كل عام، فالملفات متراكمة معقدة، وكلها طُرقت وقُتلت بحثًا في وسائل الإعلام السائدة والبديلة والسوشيال ميديا، يستحضرها الصحفيون في جلساتهم على المقاهي وأروقة النقابة، وتختلط فيها السياسة بالتشريع، والتاريخ بالتغيرات الاجتماعية والتطور التكنولوجي.

من أين يمكن أن أبدأ؟ وعلى أي ملف يجب أن أركز؟ لا أستطيع التصفية الحاسمة بين ملفات لها الأولوية ذاتها، فإما أنها متشابكة ولا يمكن تفكيكها، أو مُحيِّرة في تحديد ما الذي يسبق الآخر، على طريقة "البيضة ولا الفرخة؟".

لأقرَّب الورطة سأورِّط القارئ معي؛ فكّر في أقرب مشهد سينمائي عن الصحافة إلى قلبك، وسأخبرك بمشهدي المفضل بعد سطور قليلة.

الواقع أنَّ لدينا نصوصًا دستورية جيدة ومتقدمة، تكفل حرية الفكر والرأي وحق التعبير بجميع وسائل التعبير والنشر، وتنص على حرية الصحافة والطباعة والنشر للجميع، وتحظر بأي وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. وإذا ارتُكتب جريمة بطريق النشر أو العلانية فإنَّ الدستور يحظر توقيع العقوبات السالبة للحرية فيها ويكتفي بالغرامة، عدا جرائم التحريض والتمييز والطعن في الأعراض.

كما أن الدستور يعتبر المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملكًا للشعب، وأن الإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن التزامًا بالإتاحة والشفافية، بل إنه يعاقب على حجب المعلومات.

ولأن هذه النصوص الدستورية كانت مفعمةً بروح تقدمية سيطرت على الجمعية التأسيسية لدستور 2012 ولجنة الخمسين لدستور 2014 في أعقاب حراك شعبي كبير، بدت المسافة شاسعةً بينها وبين السياسات والتشريعات القائمة، لتظهر مجموعة مشاكل.

تتعامل الدولة مع تلك النصوص وفقًا للاعتبارات الحكومية والأمنية بما يؤدي إلى تفريغها من مضمونها أو التصادم معها، ليصير الأصل منع المعلومات وسريتها بدلًا من إتاحتها، وتُهمَل التشريعات التي تضمن تطبيق تلك الالتزامات، وتفشل محاولات الجماعة الصحفية ومجتمع الأعمال في الضغط لإصدار تشريع يضمن حرية تداول المعلومات بعيدًا عن التصنيفات المقيّدة، ويتعذر تطبيق قانون حماية البيانات الشخصية في انتظار لائحة تنفيذية "لا تأتي". ويكون حجب المواقع أداة معتادة الاستخدام بلا أسانيد قانونية، ويستمر صدور أحكام بالحبس في جرائم ارتُكبت بطريق النشر العلانية من خلال المواقع الإلكترونية أو صفحات السوشيال ميديا.

القاعدة الدستورية تصبح استثناءً

انعكست هذه الذهنية على القوانين التي استُحدثت لإدارة المشهد الإعلامي، على رأسها قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018، الذي تضمّن مادة جيدة تحظر مساءلة الصحفي على الرأي الذي يصدر منه أو المعلومات الصحيحة التي ينشرها، وتحظر إجباره على إفشاء مصادر معلوماته. لكنه في المادة التالية مباشرةً يمنحه الحق فقط في نشر المعلومات والبيانات والأخبار "التي لا يحظر القانون إفشاءها" وكأنَّ الإتاحة هي الاستثناء النادر الذي يجب وضع شروط لتحقيقه.

إن النجاح في أداء العمل الصحفي العادي لن يتحقق بالرضوخ لالتفاف الجهات الحكومية على القانون

ويتكرر تحويل القاعدة الدستورية، وهي "الإتاحة والتغطية الحرة"، إلى استثناء مقيَّد بالتشريع في مادتين تاليتين، فللصحفي "الحق" في تلقي إجابة على ما يستفسر عنه من معلومات وبيانات وأخبار "ما لم تكن سرية بطبيعتها أو طبقًا للقانون"، كما أن له حضور المؤتمرات والجلسات والاجتماعات العامة وإجراء اللقاءات مع المواطنين والتصوير في الأماكن العامة "غير المحظور تصويرها"، وذلك بشرط "الحصول على التصاريح اللازمة في الأحوال التي تتطلب ذلك".

وبذلك، أضاف هذا القانون الصادر منذ 6 سنوات قيودًا على حركة الصحفي لأداء مهمته الأساسية، الأولية تمامًا، وهي نقل الخبر والمعلومة للمواطن، ومن ناحية أخرى نقل نبض الشارع إلى المسؤولين.

نحن لا نتحدث هنا عن ممارسات متقدمة لا يمكن تصورها مع ضيق المجال العام وفقر السياسة وغياب الأحزاب الفعّالة والاستحقاقات الحيوية. لا نتحدث عن انفرادات من قلب دولاب العمل الحكومي، ولا عن حوارات تكشف أسرارًا "تقلب الدنيا"، ولا وثائق سرية تراقب كفاءة الحوكمة وحسن إدارة المال العام فتُطيح بمسؤولين. لا نتحدث حتى عن قضايا فساد واستغلال نفوذ، ولا تحقيقات استقصائية تتتبع ظواهر الصعود السياسي المثيرة.

إننا فقط نتحدث عن الحد الأدنى من الأداء الصحفي "العادي" الذي يخلق فارقًا، ولو بسيطًا، بين الصحف والمواقع المصرية، فتستعيد تباعًا كفاءتها في تلبية احتياجات قرائها والإجابة عن تساؤلاتهم الطبيعية "يعني إيه؟ ماذا يحدث؟ وكيف حدث؟ وما تأثيره عليّ؟"، ومن ثَمَّ تعود لاكتساب الثقة الجماهيرية المتسربة نحو منصات تفتقر إلى الموثوقية والمهنية، لكنها تتمتع فقط بالاختلاف عن الصوت السائد داخل مصر.

هل يمكن أداء الرسالة بصورتها الأولية؟

إن النجاح من جديد في أداء هذا الدور الأوَّليّ ينبغي أن يكون الهاجس الرئيسي لنقابة الصحفيين على المستوى السياسي والتشريعي، ولإدارات المؤسسات الصحفية على المستوى المهني، بدلًا من الاندفاع نحو مزاحمة صفحات "السوشيال" في تغطية العزاءات و"لايفات" الأشباه. فالخبر المصحوب بالشرح والتفسير والمعلومة الجديدة الصادقة كفيلان بصنع "الترند" لا الهرولة خلفه.

ولن يتحقق ذلك بالرضوخ لالتفاف الجهات الحكومية على نص قانون الصحافة والإعلام الذي ألزمها بإنشاء إدارات للاتصال بالصحافة والإعلام لتمكين الصحفي أو الإعلامي من الحصول على البيانات والمعلومات والأخبار، عندما ابتُدعَت ظاهرة جروبات الواتساب الخاصة بالوزارات والمصالح الحكومية.

تحت ضغط الأزمات الاقتصادية الطاحنة وانخفاض الأجور والاضطرار للعمل في أماكن عدة، تصوّر بعض الصحفيين في البداية أن تلك "الجروبات" مفيدة لتوفير الوقت والجهد. فتحولت، في الأغلب الأعم، إلى قناة أحادية الاتجاه لتعميم "البيان الرسمي" لا تحتمل الأسئلة والنقاش، وهيمنت على السلوك المهني لجيل جديد لم يعتد الوجود في مقر الجهة أو التعامل وجهًا لوجه مع المصادر.

مناخ ضاغط، يذكرني بمشهدي المفضل في السينما المصرية عن الصحافة، الذي لا يظهر به أي صحفي.

في فيلم إسكندرية.. ليه؟! ليوسف شاهين، يدفع يحيى شكري مراد/محسن محي الدين بوالده محمود المليجي للدفاع عن الشاب المتحمس سياسيًا إبراهيم/أحمد زكي، أمام محكمة استثنائية في خضم الحرب العالمية الثانية، والتهمة استهداف القوات البريطانية.

ومع الانسداد اليائس في مسار العدالة، يرفض المتهم دفاع المحامي العجوز عنه، ليشرح المليجي في عبارات قصيرة لا تُنسى معنى "التنفيسة".. اللفظة العامية من "التنفيس" أو كما كان يقصد: حرية الرأي والتعبير في مساحة آمنة، وأن تطير الأفكار بأجنحة النشر فتسري وتُناقَش وتُثمر، بصرف النظر عن النتائج.

ظني أنَّ "التنفيسة" تصلح هدفًا أساسيًا للصحافة المصرية اليوم، لمصلحة المواطن والدولة والمهنة. لكن السبيل إلى التقاط "اللمحات النضيفة" مع المعلومات والتفسيرات، يبقى محفوفًا بالقيود على الحركة والعدسة والقلم، واستسهال المنع باسم التنظيم ومقتضيات المصلحة العامة.

هذه القصة من ملف  حرية الصحافة في 2024.. حقوق مهددة وأقلام صامدة


في غزة.. تدمير المعدات يهدد بوقف التغطية

سحر عزازى_  نقص المعدات اللازمة لعمل الصحفيين هو إحدى سمات الحصار الممتد على القطاع منذ أكثر من 17 سنة.. ومع الحرب منعت إسرائيل دخول أي معدات جديدة وتوحشت السوق السوداء فلجأ الصحفيون للموبايل.

في السودان.. ظلام إعلامي وصحفيون مشردون

أحمد سليم_  نتيجة الاستهداف الممنهج، نزح أغلب الصحفيين السودانيين بدارفور إلى تشاد وصاروا في معسكرات اللاجئين، بينما نزح الموجودون بالخرطوم والشمال إلى مصر حيث يواجهون تهم الدخول غير الشرعي.

الصحافة المصرية والبحث عن "تنفيسة"

محمد بصل_  ظني أنَّ "التنفيسة" تصلح هدفًا أساسيًا للصحافة المصرية اليوم، لمصلحة المواطن والدولة والمهنة. لكن السبيل إلى التقاط "اللمحات النضيفة" مع المعلومات والتفسيرات، يبقى محفوفًا بالقيود.


مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.