براد بيت، كوينتين تارانتينو، ليوناردو دي كابريو، مارجوت روبي في جلسة تصوير في برلين صورة مفتوحة المصدر من ويكيميديا

حدث ذات مرة في هوليوود: حكايات تارانتينو عن السينما وغربة الكاوبوي

منشور الخميس 5 سبتمبر 2019

يعود كوينتن تارانتينو مجددًا إلى السينما من خلال فيلمه التاسع حدث ذات مرة في هوليوود، ليتناول جريمة قتل الممثلة الأمريكية شارون تايت زوجة المخرج البولندي رومان بولانسكي في منزلها ببيفرلي هيلز مع أربعة من أصدقائها على يد بعض أفراد عائلة تشارلز مانسون. يلتقط تارانتينو هذه الحكاية، يعيد تشكيلها ويجعل منها لحظته الفارقة والفاصلة وهو يستكمل حكاياته المستمرة عن السينما.

إنه عام 1969، حيث تنطوي صفحات العصر الذهبي للسينما الأمريكية والذي احتلت فيها أفلام الويسترن، النوع المفضل لدى تارانتينو، مكانًا مميزًا على الدوام، ولكن الأشياء الآن تتغير، وتعاني استوديوهات هوليوود من أزمات مالية بسبب عدم قدرتها على مواكبة هذه التغيرات، والتي تمثلت في ظهور تيار جديد في السينما، عُرف بتيار هوليوود الجديد أو التيار ما بعد الكلاسيكي، وكان بولانسكي نفسه هو أحد مخرجيه خاصة بعدما أخرج عام 1968 فيلم الرعب السوداوي Rosemary's Baby والذي أشار إليه تارانتينو في حدث ذات مرة في هوليوود.

فيما بعد، أصبح هذا التيار هو السائد في السبعينات حيث الواقعية الممزوجة بالعنف والرعب، لينتهي عالم هوليوود الحالم الساحر في مخيلة الجمهور وصناع الأفلام.

تتسع التجربة هنا ليصبح للفيلم نصيبًا من اسمه البادئ بـ"حدث ذات مرة". فيلمان لرائد أفلام الويسترن سيرجيو ليوني يبدآن بهذه الجملة؛ حدث ذات مرة في الغرب وحدث ذات مرة في أمريكا، ولكن الحكايات الخيالية أيضًا تبدأ بالجملة نفسها، ونحن هنا بصدد حكاية خيالية عن السينما، يقدم فيها تارانتينو رواية مغايرة تاريخيًا ينتصر فيها للسينما حين وينتقم بطريقته من قتلة شارون تايت.

فعلها تارانتينو من قبل في فيلمه أوغاد مجهولون Inglourious Basterds، عندما قتل هتلر على يد فتاة يهودية في قاعة سينما. يستدعي تارانتينو هذا المشهد في أحداث حدث ذات مرة في هوليوود عندما يؤدي بطل فيلمه ريك دالتون (ليوناردو دي كابريو) مشهدًا مشابهًا في أحد الأفلام التي يقوم ببطولتها، إذ يقفز من خلف ستار وهو يمسك بقاذف لهب يوجهه نحو مجموعة من قادة النازي، في إشارة ضمنية إلى أن تارانتينو عازم على تكرار تجربة كتابة سرديته المغايرة للتاريخ.

البطل البديل وتغريبة الكاوبوي

 

في بداية أحداث الفيلم يجلس ريك أمام مقدم أحد البرامج الحوارية مع دوبليره كليف بووث (براد بيت). يوجه المذيع أسئلته إلى كليف عن طبيعة عمله كدوبلير، يجيب كليف بجملة قصيرة قبل أن يختطف ريك الأضواء بجمل سريعة ولبقة تجعل المذيع يضحك إعجابًا بذكاء ضيفه. في المشهد التالي سيجلس ريك مع كليف في أحد البارات، وبعكس اللقاء التلفزيوني يلعب كليف دور الهادئ غير المكترث بينما يظهر ريك مرتبكًا حتى أن المُشاهد قد يلاحظ لعثمة واضحة في كلامه، يقطع الحوار ظهور من يُدعى مارفن شوارز (آل باتشينو)، وهو وكيل أعمال يعرض على ريك العمل في أفلام الغرب الإيطالية والمعروفة باسم سباجتي ويسترن. يخرج بعدها ريك من البار باكيًا.

يختار تارانتينو حبكة عن نجم سينمائي ظل لفترة طويلة بطلاً لأفلام الغرب الأمريكي حتى بلغ أواسط العمر ليبدأ نجمه في الأفول، فيضطر العمل كبطل ثانٍ في بعض الأفلام السينمائية حيث يلعب أدوار الشر ويتلقى الضربات من البطل، أو في العروض التلفزيونية. يضع تاراتينو المشاهد في أجواء أزمة السينما الأمريكية في تلك الفترة من خلال أزمة بطل فيلمه.

يرفض ريك دولتون استيعاب تغيّرات المنظومة السينمائية من حوله لمجارة الواقع الجديد، إذ كانت السينما في ذلك الوقت تبحث عن بطل بديل للبطل الشعبي الذي كان سائدًا وقتها؛ الكاوبوي، فلجأت إلى مصارع صيني صارخ أو حاولت مع التحول الثقافي وصعود تيار الهيبي في الستينات تحقيق المعادلة من خلال كاوبوي تقليدي في ملابس هيبي، يتحول معها الكاوبوي إلى مسخ، حتى أن تارانتينو جعل إحدى صفات شخصية بطل فيلمه أنه يتلعثم في الكلام ويتضح لاحقًا أنه أيضًا يعرج في مشيته ولا يستطيع السير بشكل متزن.

كذلك جعل ريك يُبدي كراهية تجاه كل ما هو "هيبي"، ففي أحد مشاهد الفيلم يشرح مخرج الفيلم السينمائي الذي سيلعب ريك دور البطل المساعد فيه، طبيعة الدور ويقترح على مصممة الملابس بعض التفاصيل الخاصة بملامح وملابس الشخصية مستوحاه من الهيبي؛ كالشارب الطويل والأشرطة المضافة إلى السترة، بينما ريك يتأمل ما يحدث حوله بامتعاض، يخرج بعدها في مشهد لاحق ليعرج في مشيته.

وهناك أيضًا مشهد توقف سيارة عائلة مانسون أمام منزل ريك وإحداثهم جلبة، ليخرج هو عليهم وهو سكران ويبدأ بالصراخ في وجوههم قائلاً "انصرفوا من ممتلكاتي"، وينعتهم باحتقار بـ"الهيبي".

الكاوبوي الحقيقي

 

 

يقدم تارانتينو من خلال شخصية كليف بووث التي يلعبها براد بيت صورة مناقضة لريك دالتون، ويمكن للمُشاهد ملاحظة ذلك التناقض من البداية، لحظة جلوس ريك وكليف في البار يتجاذبان أطراف الحديث، عندما يبدو ريك مضطربًا عكس كليف الهادئ غير المبالي رغم أنه هو الآخر يخسر عمله في السينما بسبب رفض المنتجين تعينه بعد اتهامه بقتل زوجته، وهناك أيضًا ذلك المشهد الذي ينسحب فيه كليف من عالم ريك بعد أن يوصله إلى منزله، ويقود سيارته بسرعة جنونية حتى منزله، وهو مقطورة "كرافان" خلف سينما قديمة للسيارات.

إنه كاوبوي حقيقي، لا يلعب هذا الدور فقط على الشاشة مثل ريك، حتى أن تارانتينو أفرد مشهدًا لكليف وهو يترجل من السيارة حين يصل مزرعة عائلة مانسون بلقطات تم تقطيعها بطريقة أفلام الكاوبوي، حيث لقطة من الحجم القريب لحذاء كليف، تعقبها حركة كاميرا رأسية من أسفل إلى أعلى Tilt up على بنطلونه الجينز وهو يُخرج سلسلة مفاتيحه من جيبه الخلفي ويحركها بشكل دائري حول إصبعه كما يفعل الكاوبوي بمسدسه.

على عكس ريك، لا يشعر كليف بأن عالمه مهدد من وجود الهيبيز، حتى أنه ينجذب إلى فتاة منهم كانت تحاول التودد إليه قبل أن يُدرك أنها فتاة من أتباع عائلة مانسون، كذلك لا يشعر ريك بالقلق من شراء سيجارة مغموسه في حمض ما تبيعه إياها فتاة هيبي أخرى يلتقيها على الطريق.

ربما المرة الوحيدة التي يشعر فيها كليف بالتهديد والريبة من هؤلاء الهيبي حين يصل إلى مزرعة عائلة مانسون (سبان رانش) ويلاحظ السلوك العدائي الذي تتم معاملته به من قبلهم، حتى أن ترانتينو صور مشهد اصطفاف مجموعة عائلة مانسون في مواجهة كليف على طريقة أفلام الرعب وكأنهم مجموعة من الزومبي على وشك مهاجمة الضحية، وهو ما جعل الكابوي بداخل كليف يستيقظ حتى أنه وجه عدة لكمات لأحدهم قبل أن يغادر المزرعة.     

يبدو أن كليف هو البطل الأثير لدى تارانتينو من بين أبطال فيلمه، إنه كاوبوي حقيقي كما يجب أن يكون، ينتصر من خلاله تارانتينو لسينماه، حتى أنه يمنحه مشهدًا يواجه فيه بروسلي، الدخيل على السينما الأمريكية الذي يسعى إلى إزاحة الكاوبوي من على عرشه، فيرتدي كليف حلة أنيقة باعتباره دوبلير لريك، ويجلس ليستمع باستخفاف لبروسلي ويضحك ضحكة مكتومة من أدائه أثناء تدربه على أحد المشاهد، يدعوه بروسلي إلى قتال يتلقى فيه كليف مع أول حركة ضربة تُسقطه أرضًا، إلا أن الكاوبوي ينهض وينفض الغبار عن نفسه، ويوجه لخصمه ضربة تجعله يُحدث انبعاجًا في سيارة زوجة المخرج مما يتسبب في طرده من موقع التصوير.

فتاة تحيا

 

في خطٍ موازٍ، تظهر شارون تايت (مارجوت روبي) غارقة في عالمها وبمنأى عن كل ما يجري. ستظل هكذا إلى أن تلتقي الخطوط في مشهد النهاية الذي يكتب من خلاله تارانتينو قصته التي تختلف عمّا حدث في الواقع.

يكتفي تارانتينو بتصوير شارون طوال الوقت في لقطات واسعة أو من أعلى، وحتى اللقطات القريبة التي حظيت بها لا يستمع فيها المُشاهد إلى الحوار الدائر أو يتبين ما تقول. كذلك لم يجعل لها تارانتينو حبكة خاصة بها طوال أحداث الفيلم، فهي فقط تضحك وترقص وتتجاذب أطراف الحديث بسعادة مع بولانسكي وأصدقائها الأخرين، هي تحيا؛ يمنحها تارانتينو ما لم يمنحها القدر.

نقترب من شارون تايت في مشهد واحد، عندما تطأ أقدامها إحدى دور العرض السينمائي. هنا تتنوع أحجام اللقطات الخاصة بها ما بين قريبة ومتوسطة، ونستمع إليها لأول مرة وهي تُجري حوارًا فعليًا مع موظفة شباك التذاكر تسأل عن مشاهدة فيلمها The Wrecking Crew الذي ظهرت فيه أمام دين مارتن، ويظهر من الحوار الدائر بينهما أنها الممثلة التي لا يعرفها أحد إلا أنه يتضمن إشارة إلى فيلم آخر لها سابق لذلك وهو Valley of the Dolls، تدخل بعدها شارون لمشاهدة الفيلم بينما تظهر على شاشة صالة السينما شارون تايت الحقيقة دون خدع بصرية أو مؤثرات (CGI)، فلا يتبين المُشاهد أنها هي إلا من خلال ضحكات الجمهور وسعادة شارون بردود الفعل؛ فكان الأمر بمثابة تكريم أو إهداء من تارانتينو إلى روحها.

تكنيك الخيال الرخيص

 

يسير الفيلم في أربعة خطوط درامية يمثل كل منها حياة أحد الأبطال، الأول خاص بريك والثاني بكليف والثالث بشارون تايت والأخير خاص بعائلة مانسون وفتياته المتسكعات في شوارع لوس آنجلوس طوال النصف الأول من الفيلم، حتى لقاء كليف مع بوسي كات التي تصطحبه إلى مزرعة سبان رانش.

تتقاطع الخطوط الدرامية مع بعضها طوال أحداث الفيلم باستثناء الخط الدرامي الخاص بشارون تايت الذي يتقاطع مع الخط الدرامي الخاص بريك في مشهد النهاية بالفيلم. كذلك تدور أحداث الفيلم في ثلاثة أيام، الأول هو السبت 8 فبراير/ شباط عام 1969، واليوم التالي له ثم تقفز الأحداث ستة أشهر إلى الأمام حتى ليلة المذبحة في 9 أغسطس/آب عام 1969.

مع حقيقة أن تارانتينو يقدم رواية مغايرة للواقع، وحقيقة أخرى -ساقها في  وقت مبكر من الفيلم- وهى أن ريك دالتون يقطن بالمنزل المجاور لمنزل شارون وبولانسكي ببيفرلي هيلز، في صحبة كليف بووث الملازم له دائمًا. يُصبح المُشاهد على علم بنهاية الفيلم منذ بداية الأحداث، وهو شبيه بما فعله تارانتينو في فيلمه خيال رخيص Pulp Fiction، حيث يتعرف المُشاهد في مشهد البداية على كل من بامبكن وهَني بَني الجالسين في مقهىً يخططان للسطو عليه، بينما يخطو فنسينت فيجا (جون ترافولتا) وجولز (صامويل جاكسون) في مشهد النهاية إلى المقهى نفسه، دون أن يعلما أن سرقة ما ستقع بعد دقائق.

يستعيد تارانتينو الطريقة نفسها، حيث يسترخي ريك ليلة المذبحة في مسبح منزله وهو يستمع إلى أغنية سنوبي ضد البارون الأحمر Snoopy vs. the Red Baron التي تقدم هي الأخرى  رواية مغايرة تاريخيًا لما حدث في الحرب العالمية الأولى، يمنعه صخب الموسيقى من إدراك أن الحدث الأهم، الخط الفاصل في حكاية تارانتينو، التي يتحقق فيها الانتقام الذي يريده على يد بطله الأثير، الكاوبوي، من أولئك الذين حاولوا زعزعة استقراره وإزاحته عن مكانته في هوليوود، يحدث الآن في منزله.