عناصر من الشرطة تطارد متظاهرين في كشمير عام 2009. الصورة: Abid Bhat- فليكر

عش دبابير في كشمير: رهان باكستان المميت ضد الهند

منشور الاثنين 16 سبتمبر 2019

مازالت حالة الترقب والحذر الشديد تخيم على سكان كشمير، بعد قرار الهند بإلغاء الحكم الذاتي للإقليم، أغسطس/ آب الماضي، في ظل قمع متزايد وبطش لا حصر له، فيما لم يعد العالم يعلم شيئًا عن أحوال الكشميريين منذ أكثر من شهر، بعد عزل الهند الإقليم بقطع الاتصالات والإنترنت. 

تكهنات وتوقعات، ربما مبالغ في بعضها، بتصاعد النزاع إلى مستويات أكثر حدة، وتنويع للخيارات المطروحة في التعامل مع الأزمة. في المقابل، معطيات أخرى على الأرض تقلل من فرص اللجوء للخيارات العسكرية المباشرة، وتحول المشهد إلى نزاع طويل الأمد تقوده الجماعات الجهادية على غرار النموذج الأفغاني.

أجواء حرب قادمة 

تصاعدت حالة من الغضب والتمرد في إقليم كشمير، الذي تقطنه أغلبية مسلمة، وتطالب باكستان بإقرار حق تقرير المصير لسكانه وفقًا لقرارات أممية سابقة، ردًا على قرار الهند، أغسطس الماضي، بإلغاء المادة الدستورية المتعلق بالحكم الذاتي لولاية جامو وكشمير.

القرار يحرم سكان كشمير من حرية اتخاذ سياساته الداخلية، التي ينظمها ويفرضها برلمان محلي، باستثناء تشريعات الدفاع والشؤون الخارجية، كما يفقد الكشميريون الامتيازات الخاصة بالإقليم والمتعلقة بتخصيص الوظائف لسكانه فقط، والدراسة التي كانت فقط لأبنائه، وقد يُسمح بتملك أراض داخل الإقليم لغير سكانه، وهو ما كان محظورًا قبل القرار.

ردًا على قرار الهند، تعالت الأصوات الداخلية المعارضة والمتشددة في كلٍ من كشمير وباكستان بضرورة فتح باب الجهاد ضد الوجود الهندي في كشمير، وتعالت تصريحات باكستان الرسمية الرافضة للقرار، وهددت برد قوي على القرار الهندي، فيما بدأت قواتها باستفزاز القوات الهندية في الخطوط الأمامية على خط الهدنة.

في المقابل، أحكمت الهند سيطرتها على الإقليم، فعملت على زيادة تواجدها الأمني بالإقليم قبل أسابيع من القرار، ثم لاحقًا، عملت على عزل كشمير وقطع الاتصالات وشبكة الانترنت وفرض حظر التجوال وتقييد حركة الساسة والمعارضين.

في ظل تلك الأجواء يتوقع كثير من المتابعين أن خيار المواجهة العسكرية بين البلدين بات حتميًا، وفي ذلك يوضح مندوب باكستان الدائم سابقًا لدى الأمم المتحدة منير أكرم، والأكاديمي فرحان مجاهد تشاك، بأن هناك ثلاثة عوامل تدفع بخيار الحرب في ظل المعطيات القائمة.

يتمثل العامل الأول في قمع الهند للمعارضة الكشميرية، على الرغم من وجود اعتراف واسع النطاق بعدم شرعية احتلال الهند لباكستان، ويتحدد العامل الثاني في إغلاق رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، كل الأبواب أمام حل سلمي وتفاوضي للنزاع مع تزايد غطرسة ووحشية الهند بالإقليم، أما العامل الثالث فيتمثل في وجود ضغط داخلي في باكستان على الحكومة لدعم ومساندة حرية بني جلدتهم في كشمير.

على الرغم من تلك العوامل، إلا أن الكثير من المعطيات لدى باكستان تجعلها تقلِل من فرص اللجوء للحرب، فالأزمات الداخلية، خاصة الاقتصادية، في باكستان تثقل كاهلها بما يكفي ﻷن تفكر مرتين قبل اتخاذ قرار الحرب، كما أن التدخل الباكستاني المباشر لن يحظى بدعمٍ دولي، وبالتالي سيكون على إسلام أباد تفضيل أدوات وخيارات بديلة في الصراع، أبرزها خيار دعم الجهاديين.

ويتطلب فهم مآلات الصراع والسياقات المختلفة المؤثرة في كافة الاختيارات المتاحة لصانعي القرار في كلا البلدين، قراءة تطور تاريخ الصراع والأدوات التي استخدمت فيه.

سبعون عامًا من النزاع

على مدار أكثر من سبعين عامًا دارت رَحى الصراع بين الهند وباكستان حول ضم ولاية جامو وكشمير. وتعود الجذور الأولى للصراع إلى مرحلة الاستقلال الهندي في 1947، حينما لم يضع الاستعمار البريطاني إطارًا قانونيًا مُحددًا لموقف كشمير في قانون الاستقلال، ولكن تُرك لسكان الإقليم حرية تقرير المصير إما الانضمام لباكستان أو الهند. 

قرر حينها حاكم الإقليم الهندوسي هاري سينج الانضمام إلى الهند، متجاهلًا رغبة الأغلبية المسلمة في الانضمام لباكستان، وهو ما دفع إلى صراع ممتد بين باكستان والهند من جهة وفتح بابًا للنضال والتمرد المسلح داخل الإقليم من جهة أخرى، واتخذ الصراع عدة صور ومراحل مختلفة، شكّلت كل مرحلة فيها قاعدة تأسيس للمرحلة اللاحقة.

المرحلة الأولى: المواجهة المباشرة (1947-1989)

تجسد الصراع في مراحله الأولى في أعقاب الاستقلال 1947 على المواجهة العسكرية المباشرة؛ آلية حل النزاعات في تلك الأونة، وقد شهد البَلَدان ثلاثة حروب كانت الأولى في أعقاب الاستقلال بشهرين، ثم تجدد النزاع في أغسطس 1965، ثم كانت المواجهة الثالثة وهي الأبرز في 1971 والتي أفضت إلى انفصال بنجلاديش عن باكستان، وتحديد خط الهدنة في كشمير.

المرحلة الثانية: المواجهة غير المباشرة  (1989-2001)

بعد خسارة باكستان في عام 1971 انتقل النزاع إلى المواجهة غير المباشرة وتعديد مسارات الصراع، وقد حكمت تلك الفترة ثلاثة مسارات للصراع، ارتبط الأول بالتفاوض ومحاولات التسوية فأسفرت عن اتفاقية شملا 1972، أما الثاني فقد اتجهت البلدان إلى سباق للتسلح والردع النووي والصاروخي، فيما تعلق المسار الثالث بـ "لعبة الاستخبارات" وذلك عن طريق استنساخ تجربة دعم الجهاديين في أفغانستان. 

المرحلة الثالثة: تراجع الدور الباكستاني

ألقت أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، وغزو أفغانستان في نفس العام بظلالها على النزاع الكشميري، وهو ما ظهر بتراجع باكستان عن الدعم المباشر للجماعات المتشددة، بل والدخول أحيانًا في صراعات معها، وتركت مساحة أكبر للجماعات المسلحة في التعاطي مع الأزمة، في حين انشغلت باكستان بقضاياها الداخلية.

شهدت تلك الفترة انتشار العمليات الإرهابية والانتحارية، وانتقلت من كشمير إلى الداخل الهندي، وذلك  تزامنا مع تنامي نشاط الجماعات المسلحة المتمردة في بقية الولايات، وكان من نتاجها تفجيرات بومباي الأبشع في 2008، في المقابل، حكمت الهند كشمير بقمع لا حصر له في حقبة مرعبة، فمارس جنودها القتل الجماعي والعشوائي والإيذاء والاغتصاب.

في حين غضت نيودلهي بصرها عن انتهاكات جنودها لحقوق الإنسان في كشمير، سعت إلى توظيف أدواتها وتنويعها من أجل الترويج لصورة عن إرهاب الكشميريين، وأن سياستها هي لمكافحة الإرهاب، مستخدمة في ذلك خياراتها الإعلامية مثل سينما يوليوود، مع تسويق ذلك دبلوماسيًا وسياسيًا لتكوين رأي دولي مساند لسياستها في كشمير،  وهو ما تكلل بدعم الولايات المتحدة وإسرائيل لها.

يتفق المحللون على أن الصراع في طور الانتقال إلى مرحلة جديدة، ربما تكون هي الأخطر، منذ سبعينيات القرن الماضي، في أعقاب القرار الهندي، وعلى الرغم من أن المؤشرات الأولى تشير إلى أن الدفع بعجلة الحرب هو السيناريو الأقرب، لكن يبدو أن الهند لديها رؤية أخرى، فلماذا اتخذت الهند قرارها في هذا التوقيت بالتحديد؟  

تكلم الوقت فخرس السلاح

على الرغم من حالة الترقب والتوقعات باحتمالية وقوع حرب بين الهند وباكستان، إلا أن قرار الهند كان مُدركًا لوجود قيود يفرضها الواقع على تحجيم المغامرة بشن مواجهة مباشرة مع باكستان، فهو ليس قرارًا اعتباطيًا أو عشوائيًا، ولكنه مدروس جيدًا، وقد اختير توقيته بعناية فائقة، وهو العامل الحاسم في القرار.

القرار الهندي جاء في ظل إدراك سلطات نيودلهي لماهية التغيرات في شبكة التفاعلات الدولية والحلفاء بالمنطقة، ومدى التحولات في نسق العلاقات الدولية والتحول إلى حالة الاستقطاب الدولي والانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، وهو ما يقلل فرص اللجوء إلى الحرب المباشرة، كما تدرك الهند عدم رغبة المجتمع الدولي في نشوب "حرب نووية" بين الجارتين في ظل المساعي الدولية لتخفيف عبء الصراع النووي الإيراني.  

في السياق ذاته، تدرك السلطات الهندية أن تدويل النزاع وفقًا لقرار المؤسسات الدولية، التي لا تعترف باحتلال الهند لكشمير، مثل مجلس الأمن والأمم المتحدة، لم تعد ذات أهمية، خاصة في ظل تصاعد تيار دولي على راسه الرئيس اﻷمريكي دونالد ترامب، يقلل من شأن تلك المؤسسات، كما أنها معركة طويلة الأمد تستطيع فيها إحداث تغيير ديموغرافي داخل الإقليم.

يأتي القرار الهندي أيضًا في ظل إدراك السلطات لحجم تراجع التضامن والاهتمام الشعبي والرسمي عالميًا وإقليميًا بقضايا المسلمين، خاصة مع صعود اليمين المتطرف في أمريكا وأوروبا، وحصول الهند أيضًا على موافقة بعض الدول الحليفة لباكستان كالإمارات والسعودية، من شأنه ترك باكستان وحدها في الميدان دون داعم مالي أو سياسي إذا ما رغبت في المواجهة المباشرة.  

لم تغفل الهند كذلك عن قراءة وتقدير حجم القدرات العسكرية والاقتصادية للخصم وأزماته الداخلية، التي من شأنها تقليل مغامرته في شن حرب مباشرة، ويبقى لباكستان سلاح وحيد، وهو دعم التمرد والحركات المسلحة، وهو ما سيكون محدودًا وبشكل غير مباشر، حيث أن المجتمع الدولي يصنف تلك الجماعات على أنها إرهابية، وأن تقديم أي دعم مباشر لها ربما يضع باكستان تحت وطأة العقوبات الاقتصادية والمالية لتهم دعم الإرهاب.

تدرك الهند جيدًا أن باكستان في ظل سياسة الواقع تمتلك ورقة الضغط الأساسية في الصراع، وهي الجماعات المسلحة سواء بدعم مباشر أو بغير مباشر، وبالرغم من إرث الهند في مواجهة التمردات وجماعات العنف، إلا أن جماعات كشمير هي الهاجس الأول لها، فإلى أي مدى يمتد أثير تلك الجماعات على قضية التحرير؟  

لعنات عش الدبابير

مثّلت "لعبة الاستخبارات" التوجه المركزي للدولة الباكستانية في مواجهة الهند في كشمير، منذ الثمانينيات، وفي مقال له يقول الكاتب وصانع اﻷفلام طارق علي، إنه على الرغم من أن الهند مارست احتلالًا عسكريًا على الطريقة الاستعمارية في كشمير، مليئًا بالرشاوى والتهديدات وإرهاب الدولة والاختفاءات، لكن الذي ساعد دلهي هو الحماقة اللامتناهية من الجنرالات الباكستانيين ووكالات الاستخبارات الداخلية، حينما أرادوا استنساخ تجربة دعم الولايات المتحدة للمجاهدين في أفغانستان.

منذ ذلك الحين، تحولت جنة الله على الأرض إلى عش للدبابير من دخله ليس آمنًا، حيث تنتشر في كشمير أكثر من ثماني تنظيمات محلية تتخذ بعضها من باكستان مقرًا لها، وهي جماعات متشددة، تسعى إلى تطبيق الشريعة، ودعم تحرير كشمير من قبضة الهند والانضمام إلى باكستان.

ورغم أن قضيتها الأساسية هي تحرير كشمير، إلا أنها سعت إلى فرض التشدد والغلو في المجتمع الكشميري وهو ما نتج عنه تفتت نسيج المجتمع، كما أن تلك التنظيمات لم تضف بُعدًا جديدًا لقضية التحرير، بل مثّلت عبئا أكبر عليها.

 

تمثل جماعات جيش محمد، وحزب المجاهدين، ومنظمة بدر، ولشكر طيبة، وبنات الأمة، وجبهة جامو وكشمير الإسلامية، وحركة المجاهدين، وآل عمر المجاهدين، أبرز التنظيمات المحلية النشطة في كشمير، وتتهم السلطات الهندية الاستخبارات الباكستانية بتوفير الدعم والإيواء لها، كما ترتبط تلك الجماعات بالجماعات المسلحة في أفغانستان، حيث أن بعض مؤسسيها شاركوا في القتال ضد السوفيت هناك.

مؤخرًا، اتجهت بوصلة تنظيمات الجهاد العالمي إلى كشمير، وبدأ تنظيم القاعدة بتوجيه اهتمامه وخطابه التحريضي إلى الشأن الكشميري، وأعلن في 2014 عن تأسيس فرع له بشبه القارة الهندية، لدعم تحرير كشمير، فيما أعلن تنظيم داعش في مايو 2019 عن تأسيس فرع له بالإقليم لنفس الأسباب، وعلى الرغم من ذلك تورطت تلك التنظيمات في عمليات إرهابية ضد مدنيين في بنجلاديش والهند وكذلك باكستان، ولم تضف بُعدًا جديدًا للنزاع.

في الأشهر القليلة الماضية، اتخذت باكستان توجهًا آخر نحو تلك الجماعات في ظل مساعي تقاربها مع الولايات المتحدة، فقامت بحملة اعتقالات ضد بعض القيادات المتشددة، وضيّقت على حرية تلك الجماعات خاصة داخل باكستان، في المقابل، شنت تلك الجماعات وعلى رأسها تنظيم القاعدة حملة تشويه وتحريض ضد الحكومة الباكستانية.

مسارات محتملة  

ربحت الهند جولتها في كشمير، وربما لن يكون هناك تغيير فيما تم إقراره، لكن النزاع لم ينته وما زال الثأر قائم، وعلى الرغم من قيود سياسة الواقع التي فرضت نفسها على النزاع بقوة، فإن باكستان مازالت تمتلك أوراقها في كشمير ممثلة في عش الدبابير، وهو ما قد يدفع باكستان إلى تخفيف حملتها ضد تلك الجماعات، والعمل على تقديم الدعم غير المباشر لها.

تعتبر الجماعات المسلحة "عش الدبابير" هو الرهان الرئيسي في التصعيد القائم، خاصة وأن تلك الجماعات تعمل بشكل أكبر على استنزاف موارد الخصم على المدى البعيد، ويُعتبر نجاح تجربة طالبان في الضغط على القوات الأمريكية في هذا التوقيت، مؤثرًا معنويًا قويًا للجماعات المسلحة في كشمير.

تشير الوقائع أيضًا إلى أن الهند مُقبلة على صراع ونزاع مفتوح متعدد المسارات؛ من ناحية سيظل خطاب التعنت الباكستاني والتهديد لغة الخطاب السائدة في الوقت الراهن، لعدم إغضاب الرأي العام الباكستاني والكشميري، أيضًا سيكون على الهند مواجهة سلسلة مفتوحة من العمليات الإرهابية في كشمير وداخل مناطق الحكومة المركزية، خاصة إذا ما استطاعت باكستان تأجيج التمردات في بقية الولايات، أيضًا ربما تواجه الهند سياسة الاستفزاز والتصعيد من الجيش الباكستاني، عن طريق المناوشات من حين لآخر، ولكنّه لن يتحوّل إلى مواجهة عسكرية شاملة في النهاية.  

أصبح النزاع أكثر تعقيدًا وضبابية، وباتت كل الخيارات محتملة، لكن أكثرها واقعية يتمثل في تحرك باكستان لتدويل القضية، والحصول على مزيد من الدعم، خاصة من الصين، والسعي للضغط والحصول على الشرعية الدولية من خلال القرارات الأممية عبر المؤسسات الدولية، لإجراء استفتاء في كشمير لتقرير حق المصير.