تشيت بيكر (1929-1988) عازف ترومبت ومغني أمريكي. المصدر: صفحة للمعجبين على فيسبوك

"تشيت بيكر": الحياة كعيد حب حزين

منشور الخميس 27 فبراير 2020

قال مايلز ديفيس، أحد أهم عازفي الترومبت في تاريخ الجاز Jazz، "لا يوجد علامات موسيقية خاطئة في عزف الجاز ".

جملة يمكن إدراك منطقيتها حين نستمع إلى أيّ من ارتجالات عازفي موسيقى الجاز، إذ يمكن تفادي العلامة الخاطئة بتناغم العلامة التالية معها، وإذا كانت الحياة مقطوعة موسيقية طويلة تعتمد بالكامل على ارتجالنا، فإننا بالطبع سنرتكب العديد من الأخطاء، وتظهر علامات موسيقية خاطئة في حيواتنا، لكن هذا ما يعطي للحياة معنى، وهذا أيضًا ما يعطي للجاز طعم.

في الثالث والعشرين من ديسمبر/ كانون اﻷول الماضي يكون مر 90 عامًا على ميلاد أحد أهم موسيقيّ الجاز في التاريخ، تشيت بيكر (1929-1988) وهو عازف ترومبت ومغني أمريكي كانت حياته العملية مزيجًا من النجاح والفشل الفني، أما الحياة الاجتماعية في انهيار دائم.

يتتبع كتاب ليلة طويلة في حياة تشيت بيكر للصحفي جيمس جافن، مراسل جريدة نيويورك تايمز، حياة بيكر منذ ميلاده حتى وفاته، وهي أول سيرة ذاتية كاملة عن بيكر ونشرت عام 2002. 

أما فيلم Let's Get Lost للمصور الفوتوغرافي، بروس ويبر، فيرصد من خلاله آخر أيام بيكر قبل موته المفاجيء عام 1988، وهو نفس عام صدور الفيلم ويستعيد معه ذكريات متفرقة من حياته.

معادلة الخوف من التحرير

لم يكن تشيت بعيدًا عن الموسيقى منذ نشأته، والده كان عازف جيتار يميل إلى موسيقى الجاز، يدندن لحن لعازف الترومبت جاك تيجاردن حين يتدرب على الجيتار، ووالدته كانت عازفة بيانو، لكن الأب المحموم بالموسيقى تركها سريعًا خوفًا على مستقبل ابنه الصغير تشيت وفضّل الوظيفة الثابتة، لكنه لم ينسى الموسيقى أبدًا، وأهدى تشيت آلة الترومبون عندما بلغ الرابعة عشر، لكنه استبدلها سريعًا بالترومبت الذي شعر معه بالحرية والمرونة في العزف.

أراد تشيت التحرر، لم يكن يحب القواعد، لهذا أحب الجاز مثل والده، لاعتماد الجاز في بعض الأحيان على الارتجال والتحرر من العلامات الموسيقية.

بجانب تعلُم العزف على الترومبت أخذ بيكر شيء آخر من والده، وهو إدمان المخدرات، حيث رأى والده وأصدقائه في إحدى الليالي منتشين من تناول المخدرات، شعر بالرهبة والخوف، واكتشاف طقوس سرية، لكنه بدأ يراقبهم في لقاءات تالية كانت لها تأثير كبير على حياته بعد ذلك.

آثار تشيت الكثير من المشاكل، يسرق البنزين من السيارات، يدخن الحشيش، لذا قررت أمه أن تخرجه من كل ذلك فألحقته بالجيش عام 1946، وعلى عكس المتوقع، كان الجيش تحرر من كل المسؤوليات بالنسبة لتشيت فقد التحق بالفرقة الموسيقية بالجيش كعازف ترومبت، حيث تطورت موهبته في هذه الفترة.

قط أبيض يلتهم الجميع

بعد خروجه من الجيش عام 1951 بدأ بيكر يعزف في الحانات والملاهي الليلية، صنع لنفسه بعض الشهرة بين المستمعين والعازفين مثله، كانت انطلاقته الحقيقية حين سمع أن عازف الساكسفون تشارلي باركر يبحث عن عازف ترومبت يعزف بجانبه، لذا ذهب تشيت من أجل تجربة الأداء ووجد نفسه مع أكثر من أربعين عازف ترومبت مثله في انتظار دورهم.

أثناء تجارب الأداء توقف باركر ليسأل "هل تشيت بيكر موجود هنا؟" تقدم تشيت ليعزف بجانب باركر وبسرعة عرف باركر أنه حصل على الشخص المنشود، كانت البداية الحقيقية في عام 1952 وتشيت واحد من فرقة باركر الخماسية، أحب باركر تشيت بشدة. "عاملني كأبن له" يقول تشيت في حوار له مع مجلة "ميلودي ميكر".

كان اختيار باركر لتشيت حديث جميع العازفين خاصة أنه فضله على أي عازف "أسود" مثله، حتى أن باركر ذات ليلة وجد مجموعة من عازفي الترومبت يتدربون في إحدى الغرف من ضمنهم "مايلز ديفيس"، "ديزي غيليسبي" و"لي مورجان" فقال لهم "احترسوا، هناك قط أبيض على الساحل سيلتهمكم" أحب تشيت هذه الجملة.

حساس تجاه الموسيقى بارد تجاه العالم

بعد ذلك أصبح تشيت ضمن رباعي عازف الساكسفون جيري موليجان الذي بدأت علاقته ببيكر بشجار كبير أثناء البروفات الأولى، لكن هذا الشجار كان بداية لفرقة صنعت تسجيلات لا تُنسى لكنها لم تستمر طويلًا، كان موليجان يلعب في ملهي "ذا هيج"، وأثناء تكوين الفرقة أدرك أن المسرح لن يتسع للبيانو، فأخبره بيكر أنه يمكنه أن يلعب بدون بيانو مصاحب.

أعطى غياب البيانو مساحة للثنائي بأن يرتجلوا بحرية، ذاع صيتهم بين الجميع وقاموا بإصدار ألبومين مع شركة باسيفيك جاز ولاقى الألبومان نجاحًا كبيرًا، خاصة أغنية My Funny Valentine التي أصبحت علامة مهمة في مسيرة بيكر، وظل يلعبها بقية حياته.

كان موليجان عازف الساكسفون عادة متعجرف مع الجمهور، مما جذب أعينهم أكثر إلى بيكر الذي كان في كامل سحره في هذه الفترة، كل ما كان يهم بيكر هو الموسيقى أو كما وصفته أرلين براون، زوجة موليجان، "حساس تمامًا مع الموسيقى، بارد تمامًا مع بقية العالم".

فنان، لا يحب المسؤولية

في هذه الفترة عُرف عن بيكر من قبل الجميع أنه مدمن للحشيش وتم القبض عليه عدة مرات يدخن الحشيش مع موسيقيين آخرين، كان يسجن لليلة واحدة ثم يدفع الكفالة ويخرج، ولم تهدأ المشاكل بين موليجان وبيكر برغم النجاح الذي حققاه، عادة ما كان موليجان يغار من بيكر فيلجأ إلى تصريحات تستفزه، حيث يقول الموسيقى بوب ويتلوك أن موليجان كان يقول دائمًا أنه هو من "اكتشف بيكر وأخرجه للنور".

بعد أن دخل موليجان السجن كان بيكر هو من يقود الفرقة، لكنه لم يكن يحب المسؤوليات لهذا لم يستمر نجاح الفرقة كالسابق، كانت هذه فترة تخبط في مسيرة بيكر الفنية، لكن سريعًا عاد الوضع إلى استقراره حين تعرف بيكر على عازف الساكسفون ستان جيتز.

كان بيكر وجيتز يشبهان بعضهما في عدة أمور، الاثنين في بداياتهما، صغيري السن، يحبون المغامرة الفنية، وكان جيتز مدمنًا للهروين في هذه الفترة، حاول بيكر في البداية التهرب من مشاركة جيتز لكنه انجرف في النهاية، أقام جيتز وبيكر بضعة حفلات من أجل جمع المال في الأساس، لكن جيتز شعر بالغيرة حين سرق منه بيكر الأضواء فترك الفرقة وسافر، ثم ما لبث بيكر أن ترك الفرقة هو الآخر.

عاد بيكر للعب مع فرقة تشارلي باركر الذي كان إدمانه للمخدرات والسُكر يقضي على مسيرته الفنية.

دائمًا وراء كل ألبوم حكاية

جذب النجاح المستمر الذي حققه بيكر مجموعة من المنتجين إليه، خاصة المنتج ريتشارد بوك الذي كان يعرف بيكر مكانته عنده، لهذا كان يتحكم به ويأخذ منه دفعات كثيرة من المال من أجل الحشيش والمخدرات.

أصرّ بيكر على أن ينتج بوك له ألبوم مع آلات وترية، تمامًا مثل ألبوم تشارلي باركر الذي صدر قبلها بثلاث سنوات Charlie Parker With Strings، لم يستطع بوك توفير المال اللازم لتشيت من أجل هذا الألبوم، لكنه توسّط بينه وبين شركة كولومبيا التي أنتجت ألبوم Chet Baker & Strings عام 1953، ولاقى الألبوم ردود أفعال متفاوتة. البعض لم يرى تناغم بين عزف بيكر وبين الآلات الوترية، والبعض الآخر وجد سحر ما فيه.

في العام التالي تحول بيكر من عازف ترومبت فقط، إلى مغني أيضًا، قدم ألبومه الغنائي الأول Chet Baker Sings الذي لاقى نجاحًا كبيرًا، كان لبيكر طريقة مختلفة في الغناء تشبه إلى حد كبير الهمس في أذن المستمع، لهذا وجد الجمهور في صوت بيكر مزيجًا بين حنان صوت الأطفال وغرابة الشياطين.

في عام 1958، قابل بيكر ستان جيتز من جديد بعد أن إفترقا عدة أعوام، كان خوف بيكر من انتهاء ماله وعدم قدرته على شراء الهروين هو ما شجعه هو وجيتز على تسجيل ألبوم معًا لصناعة بعض المال، فخرج إلى النور ألبوم Stan Meets Chet، لم يكن الألبوم ذا نجاح كبير، حيث وصف أحد النقاد عزف بيكر فيه أنه "يعزف حتى ينتهي السولو الخاص به".

بحلول عام 1959 عُرف بيكر بغنائه بجانب عزفه للترومبت، لكن حين أصدر ألبومه Chet  في ذلك العام كان الألبوم بالكامل عبارة عن موسيقى فقط دون غناء، نجح الألبوم نجاحًا كبيرًا لم يناسب انهيار حياة بيكر في تلك الفترة وقد صار إدمانه يؤثر عليه، قرر بيكر الهروب من إدمانه بالذهاب إلى إيطاليا من أجل تغيير البيئة ومحاولة الاستشفاء.

لعدة أشهر كان يحاول بيكر الهرب من إدمانه للهروين بالمنشطات، في 1960 قُبض على بيكر لحيازته الـ Palfium في إيطاليا، وهو مخدر أقوى من الموروفين، وفي عام 1961 حُكم عليه ب16 شهرًا في السجن.

 

الخروج إلى العالم في الستينيات

في السجن، قرر بيكر تغيير حياته بالكامل، تفرغ فقط للموسيقى، وترك المخدرات للأبد، أحبه الجميع في السجن، وكانوا ينادونه بالمايسترو، وخرج عام 1962 بعد أن تم تخفيف الحكم إلى 3 شهور فقط.

عاد بيكر إلى عالم الموسيقى سريعًا، ساعده زملاؤه بإقامة حملات للتبرع ومن خلالها قدم بيكر ألبومه الجديد Chet Is Back عام 1962، سجله في روما مع المايسترو الكبير إنيو موريكوني وفرقته، لكن عزيمة بيكر لم تستمر، فدائمًا كان يحتك بموسيقيين يحبون المخدرات مثله، قرر أن يجرب المخدر مرة واحدة فقط، لكن بعدها عاد كالسابق.

بدأ بيكَر تعاطي المورفين كبديل للهروين، تم إلقاء القبض عليه عدة مرات بسبب وصفات طبية مزورة من أجل المورفين، وصل الأمر إلى عقد صفقة مع الشرطة لكي يرشدهم إلى تجار المورفين وبالمقابل يخرجونه من السجن، مثلت الستينات له نقطة تحول كبيرة في حياته، في إحدى ليالي عام 1966 وُجد بيكر ملقى في الشارع بعد أن تعرض للضرب المبرح، هناك عدة روايات للحادثة أشهرها أن خمس رجال سود قد ضربوه بسبب صفقة هروين، تلقى بيكر إصابات في فمه وخسر الكثير من أسنانه ما جعله غير قادر على العزف أو الغناء.

بعد محاولة أولى لتركيب أسنان اصطناعية لم يستطع بيكر العودة للعزف، فقد الأمل واحس بإحباط شديد وظل لمدة عام بعيد عن الموسيقى، عمل بيكر في عدة أماكن من أجل المال، كان الناس يقابلونه عادة، يعمل في محطات الوقود، ويطلبون توقيعه.

حاول بيكر العودة للموسيقى تدريجيًا بألبوم Albert's House عام 1969 الذي كان كارثيًا، كان عزف بيكر يشبه عزف المبتدئين، بحسب رأي الصحفي، جيمس جافن، في كتابة الذي يحكي سيرة حياة بيكر، يخرج عادة عن الإيقاع وقت تسجيل الأغاني، حاول بيكر العزف في الملاهي الليلية، كان أصحاب الملاهي يريدونه، لكنهم كانوا يخافون دائمًا لأن الشرطة كانت تراقبه طوال الوقت.

أدرك بيكر حقيقة ما وصل إليه مشواره الفني بسبب الإدمان، في هذه اللحظة قرر فعلًا التوقف، تأمل المشهد والبداية من جديد.

في السبعينيات كان الجاز قد تغير، لم يعد جاز كلاسيكي فقط، بل امتزج بألوان أخرى من الموسيقى كالديسكو والروك وغيرها، واحتاج بيكر وقت ليدرك هذا التغير، ليتأقلم معه ثم ليبدع فيه، كانت عودته الحقيقية مع ألبوم You Can't Go Home Again عام 1977 الذي مزج فيه بين الجاز والموسيقى الإلكترونية والفانك funk.

بداية من عام 1978 سافر بيكر إلى أوروبا، لعب في عدة حفلات واستعاد فيها لياقته الموسيقية، أشهرها Live In Paris عام 1981، 'Round Midnight عام 1982، واجتمع مع ستان جيتز مرة أخرى في عام 1983، Stan Getz & Chet Baker، بعد أن أرهقتهم المخدرات، بدوا كاثنين من العجائز يستعيدون الذكريات.

وأصبحت Memories - In Tokyo واحدة من أشهر حفلات بيكر والتي أقيمت قبل وفاته بفترة قصيرة.

النهاية

عاد بيكر للهروين مرة أخرى عام 1988 بسبب علاقة فاشلة مع إحدى النساء، في الثالث عشر من مايو 1988 وُجد بيكر في الشارع غارق في دماءه، بعد أن سقط من نافذة إحدى غرف الطابق الثالث في الفندق الذي كان يقيم فيه في أمستردام.

هناك عدة روايات للحادثة لكن أشهرها أنه كان غير واعي وقتها بسبب الهروين، وأدرك أنه نسى مفتاح غرفته في الداخل، وجد الغرفة المجاورة مفتوحة فحاول الدخول إلى غرفته عن طريق نافذة الغرفة المجاورة، لكن اختل توازنه وسقط.

بوفاته توقفت أحد أهم أصوات الجاز عن الغناء، المُغني الهامس كما وصفته نيويورك تايمز في خبر وفاته.

كانت وفاته مفاجأة للجميع خصوصًا المصور الفوتوغرافي، بروس ويبر، الذي كان فيلمه عن بيكر في مراحله الأخيرة، وتصف فيه المغنية شيري فانيلا بيكر "لقد كان سيء، كان يثير المشاكل، وكان جميل".

صدرت عدة ألبومات بعد وفاته عبارة عن تسجيلات حية من حفلات أقامها، وتناول عدد من الكُتاب حياته، ومؤخرًا صدر فيلم عن حياته بعنوان Born to Be Blue عام 2015.