محمد هنيدي. الصورة: IMDB

ما لم يخبرنا به هنيدي عن العولمة

منشور الثلاثاء 26 مايو 2020

"يا بليد الفصل،

انشالله تموت العصر،

والسكينة والمقص عند بتاع الخس". 

مقتطف من أغنية غاية في التنمر والفوقية والاستعلاء، وهي بمثابة مقدمة لهذا المقال، الذي تستغرق قراءته نحو 19 دقيقة مع فنجان قهوة جيد أو كوب شاي بالنعناع. كبرنا على هذه الأغنية وغيرها مما يستهجن ما يفعله الطالب الذي تدرَّج من كونه يرسب في الامتحان، ليصبح ذلك الذي يلجأ للدروس الخصوصية، ثم أصبح الجميع يتعاطى هذه الدروس فرجعت صفة البليد إلى الكسول، ثم غرقنا في بحور التنمية البشرية التي أكدت أن الجميع متميزون بشكل ما، وأنه يمكنك أن تكون بليدًا في مادة دون غيرها، أو بليدًا فيها جميعًا، إلا أنك بعد دورات المعالجة الذهنية ستصبح خفيفًا كجيبك، وتستطيع أن تحلق في غياهب العلم.

وقبل أن تبدأ التحليق، ظهر علينا أتباع مارك منسون[1]المدون وصاحب كتاب تُرجم إلى العربية بعنوان "فن اللامبالاة"، وإن كانت ترجمته الأفضل هي "فن عدم الاكتراث". ويتبنى منسون نظرية أن التنمية البشرية خدعة عظيمة، إذ أنه يمكن لبعض الناس أن يكونوا أغبياء، وعليهم أن يعترفوا بهذا ويتعايشوا معه.

وضع طبيعي جديد

جاءت كورونا كجائحة غير متوقعة؛ توقع خبراء المال والاقتصاد وقوع أزمة مالية مشابهة لما حدث في أمريكا عام 2008، نتيجة للتوسع في التمويل العقاري دون وجود تأمين مناسب للقيمة، مما أدى إلى تعثر وإفلاس بعض البنوك ومنه إلى أزمة اقتصادية، نتيجة تباطؤ الاقتصاد مع نقص السيولة، وانتهى الحال بالركود أو الكساد العام. لكن أحدًا لم يتوقع الشكل الحالي للأزمة الناتجة عن كورونا.

هنا بدأ الأمر من النهاية حيث فرضت الدول حظرًا حظر دوليًا على التنقلات ومنزليًا على الأفراد، فتوقفت حركة البيع والشراء إلا للسلع الأساسية فقط (ركود عام)، وهذا يترتب عليه مشكلة سيولة تؤدي لفقد قطاع عريض من الناس وظائفهم أو تخفيض رواتبهم، في أفضل الأوضاع، ويتبعه تعثر في سداد أقساط أو ديون عقارية أو تمويلية مما يزيد من وقع الركود، وهو أمر يحدث للمرة الأولى تقريبًا في التاريخ الحديث. خرج علينا خبراء الاقتصاد بعد 2008 بعدة كتب ومقالات [2]تتبنى فكرة أن الوضع العالمي الآن هو "الوضع الطبيعي الجديد" وعلى الجميع أن يتكيفوا مع تقلبات مالية واقتصادية شديدة، ولا يتعاملون معها كأزمة عابرة، واتضح صدق رؤيتهم بعد الربيع العربي وحاليًا مع جائحة كورونا.

المشكلة الحالية أن ما اقترحه الخبراء للتعايش مع الأزمة يصعب تطبيقه هنا، فالمقترح يشمل بالأساس عمل استراتيجيات إنذار وتوقع للمشاكل، مع أفكار للحل بناءً على المعطيات المتوفرة، وبما أنها أزمة مستمرة فعلينا البحث عن حلول التعايش والتفكير في شكل العالم الجديد، ولا يشمل هذا ارتداء الكمامة أو التباعد الاجتماعي فحسب، ولكنه يتضمن أيضًا أشكال التوظيف ومتطلبات سوق العمل من مهارات اتصال سريع وتغير في بيئة العمل، وفي أحيانٍ كثيرة في نوع العمل نفسه. 

يوضح هذا أيمن عبد الرحيم عندما يجيب عن سؤال عما يمكن أن يدرسه طالب تربية لغة عربية، ليزيد من فرصه وموارد دخله مستقبلًا [3]. أيمن وهو مهندس ولغوي واسع الاطلاع، يقترح على صاحب السؤال أن يدرس لغة أخرى مع العربية لتوسيع فهم أصول اللغات عمومًا، وكذلك ليتمكَّن مستقبلًا من تدريس العربية لغير الناطقين بها، وأن يدرس دورة في التدقيق اللغوي ويعمل مصححًا لغويًا لبعض الوقت ومراجعًا للأعمال الأدبية أو البحثية.

وينصحه كذلك أن يدرس بعض برامج الكمبيوتر فالعالم يتجه إلى العاملين المستقلين أو freelancers وأن يدرس بعض إدارة الأعمال حتى يستطيع أن يؤسس مشروعه الخاص مستقبلًا. مثل هذا التفكير هو ما تحتاج إلى تجربته بشدة في الفترة المقبلة.

كما أشار، نائب رئيس البنك الدولي ووزير الاستثمار الأسبق، محمود محيي الدين[4] فالمستقبل لتوطين التنمية، حيث أدى حظر التجول فى العديد من بلدان العالم إلى إدراك أهمية الاعتماد على النفس في العديد من الأساسيات، بدلًا من الاتكال على الاستيراد من الخارج أو المركز الرئيسي في العاصمة، وهو ما يعني بالتبعية ظهور وظائف جديدة واختفاء أخرى. 

العالم يحتاج خطة الترسانة 

محمد العريان، الاقتصادي المصري العالمي، أشار في إحدى اللقاءات التفاعلية المباشرة[5]التي كثرت هذه الفترة لتغطي ساعات الحظر الطويل، إلى أن الأزمة مستمرة لفترة طويلة وشكل العالم الذي نعرفه سيتغير، وأن على الحكومات استخدام طريقة نادي الترسانة في أيام مجده، عندما كان يعتمد على حارس مرمى قوي هو حسن علي "الأستك"، وصانع ألعاب هو مصطفى رياض، وهداف هو حسن الشاذلي، بحيث يتم العمل أولًا على حماية مرمى الدولة من دخول أهداف فيه ثم اقتناص الفرص. 

وهذا ما أشار إليه محللون آخرون متوقعين أن يظهر خلال الفترة المقبلة فئة أغنياء كورونا على غرار أغنياء الحرب، وهم ليسوا بالضرورة مضاربين أو محتكري سلع استراتيجية، ولكن هذه الفئة ستكون الأسرع والأمهر في التقاط الفرص التي تظهر على السطح خلال الفترة المقبلة.

 

اللاعبان حسن الشاذلي (على اليسار) ومصطفى رياض. صورة برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا

قد تتمثل الفرص في خفض بعض الشركات لتقييمها لأصولها، أو الحصول على خدمات بعض العمالة المدرَّبة والخبيرة برواتب في حدود ميزانيتها، إثر استغناء شركات أخرى عنهم، وتظهر الفرص أيضًا في مجالات كالصحة والطب الوقائي والتعليم والعمل عن بعد. 

وكذلك قد يكون بيع الكمامات أمام أبواب الجهات التي تشترط استخدامها، أو حتى التسوق عن الغير وتوصيل الطلبات بعد تصويرها للعميل لضمان جودة المنتج. والمجال أيضًا مفتوح للطلاب والمطورين، حيث أدت هذه الجائحة إلى نوع من ديموقراطية التعلُّم وتسطيح المعلومات، حيث ظهرت العديد من المنصات والمواقع التي توفّر دورات عن بعد، سواء مجانية أو مخفّضة، منها الكثير الذي يقدّم مستوى وشهادة مكافِئين للدورات الفعلية، مع توفير الكثير من المال والوقت.

شهدت أيضًا الكثير من المناطق ظهور شركات ناشئة قائمة على خدمات التوصيل والشحن والعرض الإلكتروني، لم يتطلب إنشاؤها اكثر من بضع أجهزة محمولة وخطوط إنترنت وخدمات مطلوبة، مع الاستفادة من عدم وجود إجراءات بيروقراطية على التجارة الإلكترونية، حتى الآن.

حدد هدفك بنفسك

في وسط هذه الجائحة، يركن البعض إلى التراخي الذي يعتبره كثيرون خمولًا طبيعيًا نتيجة لتوقف شكل الحركة المعتادة، وكنوع من ردة الفعل الطبيعية لهذه الظروف الاستثنائية، إلا أن الاستسلام لهذا الوضع ينذر بأزمة أكبر من الموجودة حاليًا، فمع التوقع بانخفاض متوسط الدخل العام والشخصي، وارتفاع معدلات البطالة، فمَن لم يحاول من الآن إيجاد مكان له على السطح لن تنقذه التنمية البشرية. 

دعني أشرح لك كيف يمكنك أن تتحول إلى شخص نشيط خلال عام؛ هل تراها فترة طويلة؟ إنها كذلك، ولكن لو كانت الوصفة سهلة وسريعة لما كان هناك أي سر في الأمر . أنت تحتاج إلى هدف ومعرفه بنفسك ومظان العلم وبعض الوقت. 

الهدف عليك أن تحدده لنفسك، فأنت أقدر الناس على معرفه ماذا تريد في هذه الدنيا، وكلما كنت محددًا في ترسيم الهدف كنت الأقرب إلى إحرازه. كما أنه لا مقاس واحد يصلح للجميع، فاكتساب مهارات جديدة يختلف من شخص إلى آخر. عليك أن تتفهم أن البشر مختلفين في طرق اكتسابهم للمهارات، فهناك المتمسك والمستفهم والملتزم والمتمرد. [6]

المتمسك: يفعل ما يراه صوابًا وما يتوقع الناس منه أن يفعله، فهو يستلهم حركته من داخله وممن حوله. 

المستفهم: يفعل ما يراه أفضل المتاح فيحركه دافع داخلي فقط. 

الملتزم: يفعل ما يجب عليه فعله، فيتحرك بدافع خارجي أكثر من اعتقاده الشخصي بأنه يريد ذلك. 

المتمرّد: يفعل ما يحلو له في الوقت الذي يراه مناسبًا، وقد لا يفعله لو اقترحته عليه مسبقًا فهو يتفادى الدافع الخارجي. 

إذا عرفت في أي مجموعة من هذه تقع ستفهم بسهولة لماذا قد تلتزم في الذهاب إلى الجيم، لو اقتنعت بأن كرشك أصبح أكبر من خط بارليف والناس يشيرون إلى ذلك، فأنت متمسك، أو أنك تعمل على حِمية غذائية لأنك قرأت عنها دون أن يرشحها لك احدهم، ورأيت أنها الأفضل لك فأنت مستفهم، أو أنك تحتاج إلى أن تكتب على مواقع التواصل الاجتماعي أنك ستقلع عن التدخين حتى يدعمك الآخرون وتحافظ على التزامك أمامهم فأنت ملتزم، أو أنك قرأت هذا المقال لهذا الحد لكي تعرف علام ستشتم الكاتب، حيث إن أحدًا لم يرشح لك المقال فأنت متمرد.

في كل الأحوال السابقة أنت تحتاج إلى هدف واضح ومعرفة بنفسك وطبيعتها لتستطيع أن تدخل إليها من ثغراتها، ثم عليك أن تثبّت روتينًا يوميًا لما تريده، فلا تترك نفسك للهوى، عليك أن تحدِّد مواعيد النوم وأوقات ولو قليلة للاطلاع والمشروع الذي تنوي العمل عليه. 

"مظان العلم نصف العلم" وهي المنازل التي يُظن أن تلقى فيها المعلومة التي تريدها وتستطيع أن تستزيد منها، ومظان العلم أسهل طرقها ان يرشدك معلم أو مدرب أو مُربٍ لها لديه من العلم ما يؤهله لكي يسهل عليك الطريق، ويبين لك الزبد وما ينفع الناس في الأرض.

يبقى لك الوقت، وقد حددته بسنة حتى تتجهز نفسيًا. إن الطريق طويل للوصول إلى أي تغيير ملموس تسعى إليه، سواء على المستوى الشخصي أو العام، إلا أن هذا لا يجب أن يكون شعاع النور في نهاية النفق المظلم، فتظل ترنو إليه على غير هدى، بل عليك أن تضئ شمعة على الطريق كل يوم، بأن تضع هدفًا يوميًا وأسبوعيًا وشهريًا، حتى لا تصاب بالملل والاكتئاب، وعليك أن تعلِّم من يليك، فزكاة العلم نشره، وأن تنير بعض الطريق لمن يأتي من بعدك، خصوصًا أننا في خِضم جائحة لا نعلم أنا وأنت من منا سيعيش بعدها، فلنكن أبسط قليلًا من أجدادنا، ونكتب سر بناء الهرم بخط واضح. 

في أوائل الالفية الحالية بدأ محمد هنيدي يتألق كنجم صاعد هو وجيله، وفي لقاء له مع مفيد فوزي أحب الأخير أن يوضح ضحالة فكر هذا الجيل فسأل هنيدي عن العولمة "كيف ترى العولمة في غياب المضمون؟" فرد هنيدي "يعني إيه عولمة؟"، وتبعها بضحكة دون أن يجيب عن السؤال.


اقرأ أيضًا: الدراسة في زمن العزل: قائمة بمصادر التعليم الإلكتروني

 


انتهى المشهد إلا أن كلمة عولمة التي كانت جديدة الوقع في هذا الوقت، استمرت لفترة بعدها ككلمة لقياس مدى ثقافة المتحدث حين يستخدمها مرتين على الأقل في حديثه، وكسؤال ترجمة في امتحان اللغة الإنجليزية، وخطر محدق بالمجتمع ممثلًا لجزء من نظرية المؤامرة الكبرى.

لم يحاول هنيدي أن يتحازق ويجعجع بمعلومات مختلقة، كما لم يحاول أن يبرر أو يدافع لاحقًا عن هذا الموقف، لكن يبقى السؤال؛ هل عرف هنيدي أن العولمة تعني "انتقال المعلومات بحريةٍ تامة بين المجتمعات المختلفة، فضلًا عن انتقال رؤوس الأموال، والسلع والتكنولوجيا، ومختلف الأفكار والمنتجات الإعلامية والثقافية بينها، ليصبح العالم أشبه بقريةٍ صغيرة"؟[7]

هذا التعريف لم يشمل أن ينتقل الإنسان أيضًا بحرية تامة بين المجتمعات المختلفة، فصرنا نعيش الآن عصر عولمة المعارف ومَنزَلة البشر.


[1] مارك منسون

[2] Chaotics: The Business of Managing and Marketing in the Age of Turbulence

[3] فيديو أيمن عبد الرحيم

[4] حوار محمود محيي الدين مع الشروق

[5] تصريحات محمد العريان عن خطة الترسانة

[6]  Better than before by Gretchen Rubin 

[7] إيجابيات وسلبيات العولمة

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.