من أنشطة العلاج بالفن. الصورة: بيترا روزنكانز - بإذن خاص للمنصة

بالفرشاة واﻷلوان: رحلة الشفاء ومعرفة الذات والتحرر من القلق

منشور الاثنين 7 ديسمبر 2020

 

داخل غرفة متسعة تضيئها الشمس من كافة الأرجاء في ضاحية الشيخ زايد غرب العاصمة المصرية القاهرة، تجلس 11 سيدة مصرية من أعمار وسياقات متنوعة في دائرة، وتروي كل منهن انطباعاتها عن اليوم السابق من ورشة عمل "الفن طريق للشفاء"، بينما تنصت الفنانة الألمانية بيترا روزنكانز* لكل كلمة، ثم تلتقط أحد المعاني لتدخل من خلالها إلى عالم كل مشتركة، وتشجعها على التساؤل والسعي لاكتشاف ذاتها، والتحرُّر من مشاعر الغضب والخوف والإحساس بالذنب والتقصير.

عقب هذه الجلسة، تمارس المشاركات مجموعة من التمارين الجسدية باستخدام عصا خشبية ملونة، ثم تحصل كل مشتركة على مجموعة من الألوان، ولوحة بيضاء من الورق المقوى، وريشة للرسم، وقطعة من الاسفنج، وكوب من المياه، تشير روزنكانز إلى أن هدف هذا التمرين هو تحرير مشاعرنا، والاغتراب عن ذواتنا أكثر عن طريق إيقاف أي مجهود ذهني، واتباع إحساسنا فقط أثناء التلوين.

حياة جديدة                  

تبدو كل ورقة فرصة لحياة جديدة، ليست منفصلة عن الماضي تمامًا، لكنها قادرة على مواجهته وتأمله والتصالح معه والتحرر من قيوده. تدعوني روزنكانز للمشاركة معهن في التمرين، مشترطة أن أعيش التجربة معهن لكي أحاورها وأكتب عن ممارستها الفنية قائلة "من الصعب أن تكتب عن شيء لم تعشه، خاصة إذا كان مرتبطًا بالفن والمشاعر الإنسانية".

كان موقفها حاسمًا في دعوتي للمشاركة، ورغم كوني الرجل الوحيد في الورشة، إلا أن أحدًا لم يشعرني بالغربة، يبدو أن روزنكانز نقلت صورة جيدة عني، وهيأت الأجواء لوجودي، حينها شعرت بمزيد من الامتنان لها، وتدريجيًا أصبحت جزءًا من الرحلة، وأدركت غاية إصرارها على أن أكون مشاركًا قبل البدء في الكتابة.

 أقف طويلًا أمام صفحتي البيضاء، مشاعر متناقضة تحاصرني؛ حيرة وقلق وترقب وذكريات تتداعى. لم أكن أجيد الرسم والتلوين في طفولتي، لكنني أحببت دومًا مشاهدة اللوحات الفنية. تربت روزنكانز بخفة على كتفي، تدفعني برفق لعبور هذه الخطوة، أترك مشاعري تقودني، وتدريجيًا تتحول الورقة البيضاء إلى عالم من الألوان المتداخلة، وبعد نصف ساعة من التلوين أشعر براحة كبيرة، لا قلق، ولا خوف، ولا أحكام مسبقة، فقط سلام داخلي وسعادة بما أنجزت.

 

 إحدى جلسات بيترا روزنكانز. الصورة:  عمرو الكومي

الشفاء بالفن

تقدم بيترا روزنكانز، وهي فنانة ألمانية تزور مصر بصورة منتظمة منذ عدة سنوات، مجموعة من ورش العمل عن "الشفاء بالفن"، أو"الفن العلاجي" وهو المصطلح الشائع في مجال الصحة النفسية، بالإضافة لبرنامج دراسي يمتد على مدار عامين عن الفن في السياق التربوي والعلاجي.

ورغم استخدام الفن كوسيلة للعلاج/ الشفاء منذ مئات السنين، إلا أن ممارسات العلاج بالفن بصورتها الحديثة تعود إلى منتصف القرن العشرين، من خلال مزج الفن بعلم النفس، وتُنسب صياغة المصطلح للفنان البريطاني أدريان هيل، الذي لاحظ أثناء تعافيه من مرض السل أن الرسم والتلوين كانا منفذًا إبداعيًا لآلاف المرضى للتعبير عن أنفسهم ومشاعرهم، ولعبا دورًا مهمًا في تحسُّن استجابتهم للعلاج، ومن ثم سرعة شفائهم.

العلاج بالفن، بحسب تعريف الجمعية الأمريكية للعلاج بالفن، هو مهنة متكاملة هدفها تعزيز الصحة العقلية وتقديم الخدمات الإنسانية التي تثري حياة الأفراد والأسر والمجتمعات من خلال ممارسات فنية خلاقة، انطلاقًا من نظريات علم النفس، والخبرات الإنسانية للميسرين والمشاركين.

كما تركز ممارسات الشفاء بالفن، وهو المصطلح الذي تفضل روزنكانز استخدامه بوصفه أكثر تعبيرًا عن ممارستها الفنية، على تنمية القدرات الذاتية للإنسان من خلال ممارسة الفنون أيًا كان نوعها، رسم ونحت وكتابة وغناء وتمثيل، وغيرها من الفنون، وتعتمد مدى فعالية ونجاح التجربة على ميول ورغبات الشخص ذاته، ومدى تفاعله وتقبله وانفتاحه على أي من هذه الفنون.

وتؤكد فلسفة الشفاء بالفن على ضرورة أن يكون الأشخاص شركاء وفاعلين في الممارسة الفنية، وليسوا مجرد متلقين سلبيين، وتمثل هذه الأنشطة الفنية نوعًا من الدعم النفسي يهدف لبناء تجارب وخبرات جديدة وآمنة وممتعة، تعزِّز من التوازن النفسي في مقابل الخبرات والتجارب السيئة السابقة.

مساحة آمنة

بعد انتهاء تمرين الرسم نخرج لوحاتنا ونضعها في مواجهة أشعة الشمس كي تجففها، ورغم عفوية هذا الفعل وتلقائيته، لكنه يشبه بعثًا جديدًا تشرق فيه شمس الروح. أدوِّن في مفكرتي بعض الملاحظات والمشاعر التي عشتها. تقترب بيترا وتطلب أن أترجم لها ما أكتب، تضحك عندما تعرف أن ما كتبته متعلق بمشاعري الشخصية وليس تقريرًا صحفيًا.

"هناك أفكار وممارسات كثيرة مغلوطة عن العلاج بالفن، مثلًا يظن بعض الناس أننا نرسم اللوحات، ثم نحللها ونتعرف على شخصية كل مشارك من رسوماته، في حين أن ذلك عكس ما نفعله تمامًا، فنحن نرسم لنحرِّر أنفسنا من كل الأفكار والأحكام المسبقة، وبالتالي البحث عن دلالات داخل اللوحة، ومحاولة فرض أحكام من خلالها على الشخصيات أمر غير مقبول" تقول بيترا.

 

 إحدى جلسات بيترا روزنكانز. الصورة: عمرو الكومي

يشير حديث بيترا إلى نوعين مختلفين من الممارسات الفنية العلاجية غالبًا ما يحدث خلط بينهما، وهما الدعم النفسي، والتحليل النفسي باستخدام وسائط وأدوات فنية، الأولى ممارسة سلوكية ومعرفية وتربوية، هدفها دعم وتنمية قدرات الأشخاص النفسية وتطوير الشخصية الداخلية للإنسان، من خلال تعزيز قدرته على التعبير عن نفسه بحرية من خلال الممارسات الفنية.

تساعد تلك الممارسة المشاركين على التعرف أكثر على مشاعرهم وأفكارهم، وفهم العلاقة المتداخلة بين العقل والروح والجسد، وكيف يؤثر كبت مشاعرنا على أجسادنا، فكثير من الأعراض المرضية المنتشرة في الآونة الأخيرة مثل الصداع والقولون العصبي وارتجاع المريء وألم الظهر، تسببها الضغوط النفسية وما تسببه من قلق وتوتر وخوف وغضب، وغيرها من الأعراض النفسية التي تؤثر على أجسامنا بشكل مباشر.

أما الممارسة الثانية (التحليل النفسي) فهي واحدة من الأساليب التي قد يستخدمها بعض المعالجين النفسيين، وتُوظف فيها الممارسات الفنية كخطوة علاجية لتحليل وفهم شخصية المرضى، وهو ما لا تمارسه بيترا، ﻷنها ليست طبيبة، كما تراه عكس المعاني التي تحاول بناءها مع المشاركين من ثقة وأمان وتحرر في التعبير، وعدم إصدار أحكام على الممارسات الفنية.

تكمل روزنكانز حديثها مشيرة إلى أن "العملية الفنية تمنحنا فرصة أن نبحث عن ذاتنا الأصيلة، ونتواصل معها من جديد، لنبدأ رحلة إدراك لوجودنا الحقيقي، نجرب طرق فنية متنوعة وليس هناك صواب وخطأ، فقط نقترب من ذواتنا عبر الرسم والتلوين، ونحاول التحرر من مشاعر القلق والحيرة والخوف".

كما تؤكد الفنانة الألمانية على أن هذه المساحة الحرة الهادفة لراحة العقل وترك فرصة لمشاعرنا لتعبر عن نفسها، لن تغير حياتنا بصورة مباشرة، ولن تحل مشكلاتنا، لكنها تمنحنا مساحة للراحة والهدوء والسكينة، نستطيع بعدها أن نستعيد طاقتنا ونفكر في مشكلاتنا بذهن صافٍ وقلب مطمئن، مما يساعدنا فيما بعد على تأمل وفهم تحدياتنا، وإيجاد حلول مناسبة لها، فنمط الحياة المعاصر يجعلنا دومًا نركض في سباق لا ينتهي، وبالتالي نظل ندور في دوائر مفرغة من الاختيارات الخاطئة.

تجربة ملهمة

تعمل بيترا في مجال الشفاء والتعلم بالفن منذ خمسة عشر عامًا معتمدة على خبرتها الفنية ودراستها لعلم النفس، ومنذ عدة سنوات تقيم في ضاحية الشيخ زايد غرب القاهرة، وتقدم بالتعاون مع مركز وجود برنامجًا دراسيًا متكاملًا لمدة عامين للراغبين في التعرف على دور الفن في السياق التربوي والعلاجي، كما تقدم بعض ورش العمل المنفصلة كمساحة حرة للتعافي والتحرر من ضغوط الحياة.

"بدأت رحلتي مع الشفاء بالفن من خلال زيارة لجنوب أفريقيا، قابلت هناك معالج بالفن أعطاني فكرة واضحة عن المزج بين الفن والدعم النفسي، و ساعدتني دراستي التربوية، وخبرتي الفنية كثيرًا في تطوير ورش عمل وبرامج تدريبية مرتبطة بمجالات الفن، والدعم النفسي، والتعليم" تقول بيترا.

 وتضيف "من أهم التجارب التي عشتها عندما شاركت في تدريبات علاجية بالفن في أحد السجون الألمانية، وهناك شعرت بقدرة الفن الكبيرة في الشفاء، كان السجناء ينتظرون جلسات العمل الأسبوعية بشغف لم أرى مثيلًا له، كانت تجربة ملهمة للغاية".

وحول دور الفن في الممارسة التعليمية تكمل "عانيت دائمًا من طريقة التعلم المدمرة، وحصلت على فرصة للتعلم في واحدة من المدارس التي تتبع فلسفة والدورف في التعلُّم، وهناك قلت يا إلهي، إنهم يفعلون كل الأشياء التي أحلم بها. ألوان وحديقة وحيوانات، ومزرعة كل ذلك يتضمن بطريقة ما في المدرسة، وتعلمت أن هناك عالما آخر يمكن أن يقوم فيه الناس بممارسة حياتهم بطرق مختلفة".

منهج والدورف هو نظام تربوي قائم على أفكار الفيلسوف والتربوي النمساوي رودولف شتاينر، وتأسست أول مدرسة تعبر عن هذه الفلسفة في بدايات القرن العشرين في ألمانيا، بدعوى من إميل مولت، صاحب مصنع سجائر والدورف استوريا، لتأسيس مدرسة لأبناء العمال، وبلغت مدارس والدورف الآن أكثر من مائتي مدرسة في مختلف المقاطعات الألمانية، وحوالي ألف مدرسة حول العالم من ضمنها بعض المدارس والحضانات في مصر التي تتبنى هذه الفلسفة.

تؤكد فلسفة والدورف أن الإنسان، باعتباره كائنًا حيًا، يحتاج لكي ينمو ويتطور أن يكتشف الطبيعة بشكل حر في مراحل طفولته، خصوصًا في السبع سنوات الأولى حيث تتشكل هوية الطفل وتنمو حواسه، وتحدث عملية التعليم خلال هذه السنوات من خلال المحاكاة، ولذلك فالتعليم الأكاديمي لا يجب أن يبدأ قبل سن السابعة وفقًا لرؤية والدورف التربوية، كما أن دور المعلم يقتصر على الإرشاد فقط، بمعنى تشجيع الأطفال على البحث والتساؤل، وبناء رحلتهم المعرفية الخاصة، وتنمية حواسهم من خلال التفاعل مع الطبيعة والفنون المتنوعة.


اقرأ أيضًا: علبة ألوان تروّض وحشًا ينمو بداخلي

 

 


مسيرة تعلُّم

على مدار سنوات طورت بيترا برنامج فني وتعليمي ونفسي يستهدف الأشخاص الذين يدرِّسون في المدارس، أو المؤسسات المجتمعية ويعملون مع الأطفال والمراهقين، يركز البرنامج على كيفية التعامل مع الفن كأداة جمالية، ومعرفية، تعزز من إدراكنا، وفهم تجاربنا وخبراتنا السابقة، ومجتمعنا المحيط.

"يمنحنا الفن القدرة على تطوير مهاراتنا ومشاعرنا الداخلية مثل الإيمان تمامًا، كما يمنحنا مزيد من الثقة بأجسادنا، ومشاعرنا، ويساعدنا على التركيز، وأن نكون أكثر انفتاحًا ومرونة في تعاملنا مع أنفسنا، أو العالم المحيط بنا" تقول بيترا.

وتضيف "نعتمد في البرنامج على محاضرات حول احتياجات التنمية البشرية في المراحل العمرية المختلفة، كما نعمل على تصميم الجلسات الفنية مع الأطفال، وإعداد الدروس، وإدارة المجموعات واستخدام المواد المختلفة مثل القماش، والورق، والألوان المائية، والطين وغيرهما من المواد".

تختتم  بيترا حديثها مؤكدة على أن واحدة من أهم أهدافها أن تساهم من خلال عملها في الخروج بالفن من القاعات المغلقة إلى الفضاءات العامة في المدارس، ومؤسسات المجتمع المدني، والحدائق، والأندية، والبيوت أيضًا، بحيث يصبح الفن ممارسة حياتية.

وتضيف "أسعى كذلك إلى الانتقال من ممارسة الفن للفن، لممارسة الفن للمجتمع، مدفوعة بسؤال أساسي: هل نحن الفنانون قادرون على الاستجابة للاحتياجات البشرية الحقيقية، أم نفضل أن نمثل أنفسنا فقط؟".


* بيترا روزنكانز فنانة ألمانية من مواليد 1967، درست التعليم والعلاج بالفن في جامعة ألانوس للفنون والمجتمع في ألمانيا، وتقوم بالتدريس في مراكز مختلفة للتعليم بين ألمانيا وسويسرا ومصر.


مصادر: