العمل من المنزل في ظل الجائحة. تصوير: لمياء المقدم - بإذن خاص للمنصة

موجة ثانية للجائحة: صحفيون يستعدون مرغمين للعمل ثانيةً من المنزل

منشور الأحد 29 نوفمبر 2020

 

أوشك عام الجائحة على أن يغلق بابه على أيام استثنائية لن تنسى، أيام غيرت وجه الكوكب لعل عنوانها الرئيس هو كوفيد-19 الذي اجتاح العالم ومعه مبادئ التباعد الاجتماعي والحظر المنزلي ليقعدنا جميعًا في البيوت نباشر منها أعمالنا. واليوم، وبينما السنة على مشارف شهرها الأخير، لا يبدو أنها ستأخذ معها الوباء بل ستتركنا لموجته الثانية. 

الصحفيون كغيرهم من الناس، نقلوا معداتهم إلى بيوتهم وغيروا وسائل نقل الخبر بما يتناسب مع الحجر المنزلي. تجربة لم تكن هينة خاصة أن ميدان العمل الصحفي هو الشارع، وجوهره الاحتكاك بالناس والتواصل معهم.

يؤكد مختصون أن العمل من المنزل يعزز الشعور بالوحدة والعزلة، على ضفة أخرى أشار استطلاع أمريكي إلى أن العمل من المنزل له مزايا إيجابية كثيرة، أهمها توفير وقت المواصلات وتوفير الأموال، والحماية من عدوى أمراض عديدة بما فيها كوفيد-19.

لنكف عن القلق ونتعلم التأقلم

الصحفية الأردنية عبير أبو طوق نجحت خلال الموجة الأولى من الجائحة، والتي اشتدت منذ مارس/ آذار وحتى انتصاف الصيف، في المواءمة بين مهامها البيتية ومسؤولياتها في العمل لتعيش تجربة مميزة في العمل من المنزل، عززها دعم العائلة، إذ تقول للمنصة "تجربتي في العمل عن بُعد - ولله الحمد - رائعة جدًا، فظروف بيتنا مناسبة لتطبيق هذا المبدأ بكل راحة، عدا عن تعاون العائلة التي أمنت الجو المناسب للعمل، من تخفيف المسؤوليات البيتية، وتقليل النشاطات الاجتماعية حرصًا على الصحة وضمان نوع من الهدوء في البيت".

وتستعد عبير، التي عادت إلى مقر عملها بعد انحسار الموجة الأولى، للعودة مجددًا إلى المنزل فيما لو فرضت إجراءات جديدة للإغلاق مع تصاعد حدة الموجة الثانية، ولكنها ما زالت تفضل الخروج والتواصل مع زملائها والآخرين معللة بأنه أمر لا يعوض.

ومثل عبير تأمل علياء أبو شهبا ألا تفرض إجراءات الحظر المنزلي مجددًا مع عودة الجائحة، ولكن سببها كان مختلفًا؛ إذ فقدت الصحفية المصرية تركيزها خلال العمل من المنزل، رغم أنها اعتادت قبل كورونا ألّا تقضي ساعاتٍ طويلة في مقر عملها، وكانت تنجز مقالاتها من البيت، لأنها تحتاج التركيز الذي تجده في المنزل، بينما صخب العمل والتواصل مع الآخرين يمنعها من ذلك، الأمر الذي استمر في ظل جائحة الكورونا.

تتابع الصحفية المصرية في حديثها إلى المنصة "قبل الكورونا كانت تصيبني حالة جمود في الكتابة، فأسعى إلى تغيير مزاج العمل أو مكانه، الأمر الذي لم يكن متاحاً في أيام الحجر المنزلي، خاصة أنني طبقته بدقة منذ بداية انتشار المرض، لذلك لم يكن العمل من البيت أمر هيناً علي، عزز ذلك غياب عامل جوهري في إنجازي لمقالاتي، التواصل المباشر مع الناس، اعتدت أن أنزل الشارع وأقابل الناس في صلب يومياتهم، أنغمس في مشاغلهم، وعندها تُثمرُ الكتابة عنهم، كل ذلك افتقدته وفقدت معه بعض شغفي في الكتابة، ما تسبب في قلة تركيزي وإنتاجي أيضًا".

من جهتها تستعيد عبير ذكريات العزل أثناء الموجة الأولى وتشرح كيف "كشف لي العمل من المنزل قدرتي الفائقة على التركيز وإتمام المهام المطلوبة سواء تجاه البيت أو العمل بشكل متوازن نوعا ما. كذلك أن تعمل مع فريق رائع، ملتزم وواعي لمتطلبات المرحلة، هذا له الدور الكبير في تسهيل المهمة لتحقيق الأهداف التي نعمل عليها جميعا سواء في القسم الذي أديره والشركة التي أعمل معها".

ولكن من ناحية أخرى فإن العمل من المنزل أفقدها وهجَ العالم الخارجي حيث اعتادت قضاء ساعات متواصلة مع زملائها في العمل، تقول "ولأن لكل شيء إيجابيات وسلبيات، فقد حرمني العمل في البيت من قضاء 9 ساعات مع الزملاء والأصدقاء والاحتكاك بالمجتمع الخارجي من مقابلات، اجتماعات وغيرها.. للعالم الخارجي بريقه الذي حتما نفتقده بشدة هذه الفترة، ورغم أن التواصل مستمر عن بُعد عبر تقنيات الاتصال الحديثة، إلا أن كل تطبيقات العالم الذكية لا تغنيني عن أهمية اللقاءات المباشرة ولكن للضرورة أحكام".

ومن هنا تدعو عبير إلى الكف "عن التذمر والشكوى والتعبير عن الضغط النفسي بسبب الأوضاع التي يعيشها العالم بأسره، ولنقرر التأقلم واستثمار الوقت بما فيه خير لعقولنا ونفوسنا"، مؤكدة أن الجائحة غيرت الكثير من مفاهيم الحياة لديها، فباتت تقدّر أبسط النعم التي بين يديها، وأيقنت أن علينا التمتع بالقدرة على الاستجابة للمتغيرات السريعة.

بالنسبة لعبير فإن تغير شكل العالم بين ليلة وضحاها "لم يكن متوقعًا على الأقل بالنسبة لأبناء جيلي، فكانت كورونا التي جعلتنا نفكر بعمق وجدية بكل ما نملك وبالأيام القادمة، لعلنا ننجو وبأقل الخسائر، وتمر هذه الأيام بسلام. وهنا أقتبس ما قاله الصديق أنور المجالي وهو أصدق ما قرأته عن سنة 2020 (هذا العام هو الأغرب على الإطلاق لنا جميعًا مهما تفاوتت أجيالنا، ونحن حتمًا بحاجة للرحمة)".

 

الصحفية عبير أبو طوق - بإذن خاص للمنصة

قيمة الحياة في ناسها

منذ بداية الحظر حاولت علياء أن تنظم يومياتها بين الرياضة والكتابة والتواصل مع الناس عبر الفضاء الالكتروني، تؤكد أنها دخلت عالم الطهي وبثت فيه الكثير من طاقتها، تضيف "جميعها حوافز عادت عليّ بالنفع فترة من الزمن، غير أن الملل والشعور بالعزلة كان يغلبني بعض الأوقات، وكي أخرج من هذه الحالة نفذت الكثير من الكورسات والتدريبات أون لاين مع شبكات صحافة عربية وعالمية، إضافة إلى مشاركات افتراضية في فعاليات علمية وثقافية أمتعتني وأفادتني" تضيف أنها حضرت العديد من الحفلات الموسيقية أون لاين لكنها تفتقد الحفلات المباشرة معللةً أن لها سحراً لا يضاهى.

وتلفت الانتباه إلى أنه "رغم كون العمل من البيت موفرًا للكثير من المال والوقت، غير أن الخروج ورؤية الناس والاحتكاك بهم مكسبٌ كبير لم أشعر به إلا عندما أجبرت على التزام المنزل".

ومثل علياء يرى الصحفي محمد حسين الشيخ مزايا العمل من المنزل والمتمثلة في توفير الجهد والمال إلى جانب المردود الاقتصادي المرتفع، ومثلها أيضًا يرى مساوئه على الصعيد النفسي لأنه "أفقدنا قيمة الاتصال بالزملاء، وأصبحنا مجرد كائنات افتراضية، وايميلات تتحدث، ما أضعف الحميمية في العلاقات وأفقد العمل روح الفريق، فالنقاش مهما كان جديًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فهو لا يجاري التواصل المباشر الذي يفضي إلى أفضل شكل للعمل".

الصحفي المصري الذي يدير قسمًا في إحدى المؤسسات الإعلامية المصرية يضيف للمنصة أن "الحجر المنزلي زادَ الإحساس بالوحدة وأفقد الإنسان الكثير من مهاراته الاجتماعية في التواصل والاستماع، والصحفي بطبعه كائن متكلم يحتاج إلى التواصل والنقاش المستمر، والعمل يدعم هذه المهارات لديه". يعرج على العمل في غرف الأخبار الذي يركز على الأخبار السريعة ويحتاج تدخلات لحظية ونقاشات حاضرة وجهاً لوجه قائلاً إن هذا النوع من العمل سيظهر أثره السلبي في حال تم من المنزل.

يعمل محمد بدوام كامل من بيته قرب زوجته وطفليه، ولأن ظروف كورونا قد لا تنتهي قريبا، وبهدف مواءمة نفسه مع العمل من المنزل هو في طور إعداد غرفة مكتب خاص له يعيش فيها أجواء العمل. هنا يستحضر لنا حكاية الصحفي والكاتب المصري إحسان عبد القدوس الذي "كان لفترة من الزمن غير مرتبط بمؤسسة أو مكان عمل، فكان ينزل يوميًا من غرفة نومه بثياب العمل ويدخل غرفة مكتبه ويغلق الباب، ثم يبدأ الكتابة وكأنه في مكان العمل، مانعاً أحداً من مقاطعته".

محمد لديه روح متصوفة ويميل للعزلة والتأمل، لكن الانعزال الدائم حسب قوله يُفقد الحالة معناها فهو "غير مجدٍ أن تكون الحياة كلها عزلة، الأمر سيتحول إلى اكتئاب، العزلة جميلة عندما تكون اختيارية وضرورية، أما هذه المفروضة علينا تتحول من معناها التأملي إلى آخر سلبي". ينهي حديثة مؤكدًا أن الحجر الصحي زاد إيمانه بقيمة الحياة وقيمة الحياة قادمة من ناسها، من البشر الذين نختلط بهم ونتواصل معهم.

تجربة شاقة

"أتمنى ألا تتكرر تجربة الحجر المنزلي، فقد كان العمل من المنزل شاقاً للغاية، وحال تكرارها سألتزم بها لأجل عائلتي" هكذا يختصر الصحفي عبد المؤمن العربي تجربته التي تتقاطع مع تجربة سابقه، حيث كان يعمل من المنزل في ظل وجود زوجته وأولاده، ما جعل الأمر أكثر صعوبة.

عبد المؤمن صحفي جزائري يعمل في إحدى الإذاعات الجزائرية، عند بداية انتشار المرض أوقفت الإذاعة الريبورتاجات الخارجية تخفيفًا لاحتكاك الصحفيين بالشارع، وعند بدء الحجر المنزلي انتقل للعمل بدوام كامل من المنزل، حسب قوله مؤكدًا أنه حاول خلق روتين يومي يبدأ بقراءة الصحف والأخبار والاطلاع على وسائل التواصل الاجتماعي وجديد التريند والأحداث في المنطقة، ثم يعمل على بعض الأفكار، ويتواصل مع المصادر من خلال التلفون أو سكايب، يأخذ التصريحات ثم يعد مادته الصحفية بطريقة الديجتال، أي صور وفيديوهات ونصوص إخبارية، كذلك يجري مونتاج للتسجيلات التي تُبث عبر أثير الإذاعة.  

عاد العربي للعمل من الإذاعة، وهو يعتبر أن تجربة العمل من البيت جديدة واستثنائية ولها مميزاتها، لكن الإنتاج من المكتب أكثر غزارة، فمكان العمل يعطي استعدادًا نفسيًا وجسديًا للعمل الذي يكتمل بالتواصل مع الزملاء والنقاش معهم الأمر ما يغني المنجز ويخرجه بأفضل ما يمكن. حسبما قال للمنصة.

الصورة وثيقة

العزل الصحي لم يمنع المصور الصحفي عادل عيسى من النزول للشارع وتغطية ما هو متعلق بفيروس كورونا، يعلل بأن الأمر الذي كان ضروريا لإتمام العمل خاصة في ظروف استثنائية وتحتاج متابعة وقد لا تتكرر في جيلنا، إضافة إلى أن الصور ستبقى كوثائق شاهدة على هذه المرحلة الفارقة.

يقول الشاب المصري للمنصة إنه كان ينزل يوميًا مستشفيات عزل وأخرى ميدانية كذلك غطى تفاصيل كتعقيم الشوارع والمؤسسات وتحويل مدن جامعية إلى مستشفيات عزل، وبدل أن يذهب للمكتب لمتابعة العمل كانت وجهته البيت، يجري التعديل والمونتاج على الصور والفيديوهات ثم يرسلها إلى الجهات المعنية بالنشر.

"للعمل من البيت وجهان مختلفان، فهو من ناحية يوفر الجهد والوقت والمال، لكنه على جانب آخر يصيبنا بالملل والعزلة ويعرقل عملنا، نحن المصورين لا يمكننا الخروج من الشارع فهو مضمار مهامنا ومصدر الحكايات التي ننقلها بالصور والفيديوهات" يقول عيسى.

يتابع أنه كان يأخذ جميع الاحتياطات الواجب اتباعها للحماية من العدوى، خاصة أننا على أعتاب الموجة الثانية، مؤكداً أنه لا يزال حريص على العمل من المنزل ولا يزال فيروس كورونا هو الموضوع الرئيس في عمله كمصور إلى جانب تفاصيل أخرى.

الصحفيون.. الأكثر تاثرًا

رغم أن العزلة حالة عامة سادت طبقات المجتمع خلال الأشهر الماضية، غير أن تأثيرها كان واضحًا على الصحفيين لأنهم أكثر احتكاكًا بالناس وبالجمهور، يؤكد ذلك الطبيب النفسي أحمد هلال مضيفًا أن الصحفيين سيواجهون عزلتهم بالإنجاز خاصة أنهم أهم المصادر لمتابعة تطورات كورونا.

الطبيب المصري يوضح في حديثه إلى المنصة أن العزلة تؤدي إلى اضطرابات جسدية ونفسية، لذلك لا بد من السيطرة على الإحساس بها عبر أمور عديدة أهمها تنفيذ روتين يومي في البيت يعطينا إحساسًا بأن الحياة طبيعية، والالتزام بنظام غذاء صحي مرفق بساعات نوم جيدة وممارسة بعض الرياضة، مشيرًا إلى ضرورة التواصل مع الآخرين عبر العالم الافتراضي لكسر العزلة ومشاركة الآخرين بما نشعر به، الأمر الذي يخفف القلق ويشعرنا بالترابط رغم التباعد الاجتماعي.

يؤكد هلال أن الفيروس لا يزال حاضرًا وأن هذا الحضور لن ينتهي قريبًا بل وسوف يعزز الشعور بالوحدة لدى الكثيرين، ويضعف التواصل الاجتماعي خاصة في ظل عدم التوصل إلى لقاح. مؤكدًا أن حالة التباعد الاجتماعي ستزول لا محالة في حال الوصول إلى لقاح يواجه المرض ويحدّ من انتشاره، فالإنسان بطبيعته اجتماعي ومحب للعشرة والتواصل مع الآخرين.