تصميم: يوسف أيمن- المنصة

قانون "ازدراء الأديان": نصوص غير دستورية لحماية الإسلام وحده

منشور الأربعاء 9 ديسمبر 2020

 

أثناء المؤتمر الصحفي الذي جمعه بنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس أول أمس الاثنين، اعتبر الرئيس عبد الفتاح السيسي أن "القيم الدينية" تأتي في مرتبة أعلى من القيم الإنسانية. ومع أن هذا التصريح جاء في سياق الحديث عن أزمة قتل مدرّسٍ في إحدى ضواحي باريس بعد أن عرض على تلاميذه رسومًا كاريكاتيرية تُظهر  النبي محمد، فإنه يعكس كذلك أسباب التمسك بقانون تجريم ازدراء الأديان رغم شبهات عدم دستوريته، ومخالفته مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدّقت القاهرة عليه؛ ما يعني اكتسابه قوة القانون. 

وبالإضافة إلى ما يفرضه هذا القانون من قيود على حق الناس في التعبير، فإن محامين أوضحوا للمنصة، من واقع انخراطهم في القضايا التي باشرت النيابة التحقيق فيها وأحالتها إلى المحاكم تحت مظلة هذا القانون، أنه يطبّق بشكل انتقائي لملاحقة منتقدي الدين الإسلامي دون غيره، وفي حالات كثيرة تحال إلى التحقيق وقائع لا تتضمن انتقادًا للدين بل لأشخاص أو جهات بل وحتى تنظيمات ترتبط به كما حدث مع الكوميديان الشاب محمد أشرف الذي قضى 15 يومًا محبوسًا على ذمة اتهامه بازدراء الدين الإسلامي، لأنه سخر من طريقة تقديم المذيعين في إذاعة القرآن الكريم.

مصادرة لحرية الرأي

أسماء، زوجة محمد أشرف، تقول للمنصَّة إن الفيديو الخاص بزوجها والذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، مرت عليه أكثر من سنة، ولكن زوجها حبس بسببه بتهم لا يعلم عنها شيئًا، حتى قررت النيابة إخلاء سبيله، فهو "لم يتهكم على مذيعي محطة القرآن الكريم، ولم يسخر منهم أو يزدري الدين الإسلامي كما وجه له من اتهامات، وإنما كان يمارس عمله المعتمد على تقديم المحتوى الكوميدي والساخر، ولم يفعل سوى أن قلَّد طريقة إلقائهم"، فيما يشير المحامي عمرو محمد، أحد المحامين الذين حضروا مع أشرف التحقيقات، في تصريحات صحفية، إلى أنه تم الدفع أمام النيابة بأن ما قام به موكله "ليس ازدراء للأديان، ولكنه تقليد للمذيعين فقط، حتى أمرت النيابة بإخلاء سبيله بضمان محل إقامته".

يوضح المحامي نبيه الجنادي للمنصَّة أن تجريم "ازدراء الأديان" يستند للمادة 98 من قانون العقوبات، وهو "أحد أشكال مصادرة حرية الرأي والتعبير"، لكنه فضلًا عن ذلك يطبق دومًا في اتجاه واحد ضد منتقدي الدين اﻹسلامي على الرغم من "أن النص يخص ازدراء الأديان جميعها".

ويحيل كلام الجنادي إلى حادث آخر قريب اتهم فيه أحد المسيحين المصريين بازدراء الدين اﻹسلامي، في أعقاب أزمة مقتل المدرس الفرنسي الذي انتقد السيسي ما قام به مع تلاميذه، حيث ألقت السلطات القبض على المواطن يوسف هاني واتهمته وحده بـ "ازداء الدين الإسلامي"، وذلك بسبب نقاش خاضه على فيسبوك مع فتاة سخرت من العقيدة المسيحية. 

عززت هذه الواقعة من الحديث عن الانتقائية التي يطبق بها هذا القانون، وأعيد نشر المحادثة كاملة بين الشاب المسيحي والفتاة المسلمة مرارًا إلى أن ألقي القبض على الفتاة، وبعد التحقيق معها قررت النيابة إخلاء سبيلهما معًا. 

بيان النيابة العامة الذي تناول هذه الواقعة أشار إلى إن "وحدة الرصد والتحليل بمكتب النائب العام رصدت تداولًا واسعًا بمواقع التواصل الاجتماعي لصورة من محادثة نصية منسوبة لشخص مقيم بمحافظة الإسماعيلية تشكل جريمة ازدراء الدين الإسلامي، وبعرض الأمر على المستشار النائب العام أمر بالتحقيق العاجل في الواقعة، وتم القبض على المتهم، وأمرت النيابة بحبسه 4 أيام على ذمة التحقيقات، حتى أمر قاضي المعارضات إخلاء سبيله، بعد تقدمه باعتذار عما بدر منه"، دون الإشارة مطلقًا إلى ملابسات القبض على الفتاة المسلمة أو إخلاء سبيلها، الذي رصدته المواقع اﻹخبارية بشكل مقتضب.

مادة للأقليات

في أعقاب القبض على هاني، تقدمت النائبة نادية هنري بطلب إحاطة للبرلمان للنظر في مادة ازداء الأديان والمطالبة بإلغائها أو تعديلها، مشيرة، بحسب نص الطلب، إلى أنها "مادة يعاقَب بها الأقليات في مصر"، وقالت إن "المادة التى أدرجت لمواجهة تطرف الجماعات الإسلامية فى تحريضها ضد أصحاب الديانات المختلقة، باتت مصيدة لأدباء ومثقفين وباحثين، والمسيحين لمجرد تعبيرهم عن أفكار وآراء يرى فيها البعض تحقيرًا وإساءة للأديان".

وتابعت في طلب الإحاطة، الذي جاء قبل إلقاء القبض على الفتاة المسلمة، أن "المادة أسيء استخدامها ليحاكم بموجبها مفكرون وأدباء وكتاب جاهروا بنشر أفكار رأى فيها البعض ازدراء للأديان، فى الوقت الذي لم يحاكم بموجبها أصحاب الأفكار المتطرفة الذين حرضوا على القتل والتخريب والتحقير من الديانات السماوية الأخرى".

وتنص المادة 89 و من قانون العقوبات، الخاصة بـ"ازدراء اﻷديان"، على أنه "يعاقب بالحبس مدة لاتقل عن ستة أشهر ولا تتجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة، لقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية".

يرى المحامي بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات مكاريوس لحظي، الذي حضر التحقيقات مع يوسف هاني، أن التهمة الموجهة إلى موكله "مطاطة وغير دستورية"، وتستخدم دائما لمعاقبة منتقدي الدين اﻹسلامي، حيث يتم القبض "على مسيحيين وشيعة ولا دينين وبهائيين وأيضا مسلمين، ولكن جميعهم توجه لهم تهم ازدراء الدين الإسلامي.. محدش بيتقبض عليه بتهمة ازدراء الدين المسيحي غير نادر أوي رغم إنهم ماليين السوشيال ميديا بمقاييس القانون، أو زي ما بيتقبض على مسيحيين بنفس التهمة"، بحسب تصريحاته للمنصَّة.

يتفق مع هذا الرأي نبيه الجنادي، الذي أوضح أن "اللي بيحصل إنه بشكل مستمر بيتم ازدراء الدين المسيحي من مجموعة كبيرة من المصريين لكن ما بنشوفش قبل كده إن النيابة اتحركت علي حد منهم، وكأن اللي بيحصل تحريض واضح على الأقباط في مصر".

ويشير لحظي إلى أن الدولة لا تتخذ إجراءات مشابهة تجاه منتقدي اﻷديان اﻷخرى إلا عندما يثار حولها ضجة إعلامية "مفتكرش إنه بيتم حبس متهمين بازدراء الدين المسيحي إلا لو القضية كبيرة وسمعت قوي وبقت رأي عام مثلًا، وحتى لما البنت المسلمة اتقبض عليها مع يوسف هاني فضلت يوم واحد بس وخرجت، وكان برضه بسبب دوشة كتير حصلت على السوشيال ميديا، للأسف احنا كحقوقيين عارفين إن المادة دي معمولة للنيل من غير المسلمين فقط بعيدا عن حماية المعتقدات من الأساس".

ويدعم ما ذهب إليه لحظي، ما سجلته الورقة التي أعدتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ونشرتها عام 2013 بعنوان قضايا ازدراء الأديان خلال عامين من الثورة، إذ ترصد 63 حالة لمواطنين واجهوا أحكامًا قضائية أو عرفية بتهمة اﻹساءة للدين اﻹسلامي، فيما لم تسجَّل إلا حالة واحدة لازدراء الدين المسيحي.

لكن ذلك لا يعني رغبة مكاريوس لحظي في استخدام القانون ضد منتقدي أي دين من اﻷساس، حيث إن تلك المادة من قانون العقوبات تتعارض في رأيه مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الـ19، الذي وقعت عليه مصر، ويعتبر حق التعبير من الحقوق الأساسية لحقوق الإنسان، وينص على أنه "لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود، لكن الواقع يعارض تلك المادة لأن ما يتم هو مصادرة للآراء وفرض الرقابة والوصاية عليها أيضًا".

وتظهر عدم دستورية مادة ازدراء اﻷديان وافتقادها للضوابط الموجودة في النص العقابي، من خلال حكم محكمة جنح أحداث بني مزار، عام 2016، بحبس أربعة أطفال مسيحيين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و17 سنة، لخمس سنوات مع النفاذ، بتهمة "ازدراء الدين الإسلامي عبر السخرية من شعائر صلاة المسلمين"، في القضية رقم 350 لسنة 2015 جنح بني مزار، لأنهم كانوا يجسِّدون مقطع فيديو لحادث ذبح الأقباط المصريين في ليبيا، وليس الإساءة للدين الإسلامي، وهو ما يعد، بحسب ورقة نشرتها المبادرة أيضًا في 2016 "إخلالًا بمشروعية التجريم والعقاب".


اقرأ أيضًا: أنسنة السماء: اللعب على الثيمة الدينية لفهمها لا لازدرائها

 

 


المحامي ومؤلف كتاب ازدراء الأديان في مصر حمدي الأسيوطي، الذي تعرض لهجوم أيضًا عقب صدور الكتاب قبل وفاته، يرى أن 90% من قضايا ازدراء الأديان تنتهي بإدانة المتهمين، وتعمل النيابة على إضافة تهم أخرى للمتهمين منها التعدي على الأديان، حتى تتزايد العقوبة، مشيرًا إلى أن القضاة في مصر يحكمون وفقًا للعقيدة السائدة وتماشيًا مع الرأي السائد أيضًا، مع اقتناعهم بإصدار تلك الأحكام والاتهامات للدفاع عن الدين، لكن ذلك ليس وحده ما يترتب على وجود مثل تلك القضايا وذيوعها إعلاميًا.

لكن ذلك ليس وحده ما يترتب على وجود مثل تلك القضايا وذيوعها إعلاميا، ففي عام 2013 قضى أحد المواطنين المسيحيين سنة في الحبس، بعد مثوله أمام محكمة جنح إدفو، بتهمة ازدراء الدين الإسلامي، بعد نشره بوست عبر صفحته الخاصة على فيسبوك، اعتبره زملاؤه في العمل إساءة للدين الإسلامي، وعلى الرغم من اعتذاره وحذفه، لم تنته اﻷزمة، حيث اندلعت مشاجرات بين أسرته وسكان القرية، قبضت خلالها قوات الأمن على أشقاء المتهم لإجباره بتسليم نفسه، وأضرمت النيران في منزلين من منازل شقيقيه.

المحامي الحقوقي خالد علي يرى أن الأقليات لا الأغلبية هم من يستحقون الحماية القانونية، بل يعتبر حمايتهم "حماية للمجتمع ككل، لأن الرأي السائد في المجتمع محميّ بالفعل عكس الرأي الضعيف". 

ويضيف للمنصَّة أن "تلك الاتهامات تؤكد الرغبة في فرض وصاية على العقل الجمعي.. مينفعش نخرج عن السياق العام، مع إن كل الأمور المفروض يكون فيها حرية الرأي والرد على الفكرة يكون بفكرة زيها، لكن اللي بيحصل إرهاب للفرد، وإرهاب كمان للمجتمع".