لافتة لبشار الأسد في أحد شوارع السورية. الصورة: برخصة المشاع الإبداعي- فليكر

سوريا: السلطة مقابل السلام والوطن مقابل العائلة

منشور الخميس 22 أبريل 2021

عندما هبطت طائرتي في مطار دمشق الدولي، كانت طائرة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أقلعت للتو. حدث ذلك في الثالث من مايو/ آيار 2003، بعد مرور أقل من شهرين على الغزو الأمريكي للعراق. لم تكن هذه الزيارة عادية، لا في توقيتها، ولا في طبيعتها، إذ كان هدفها الأساسي إظهار العين الحمراء الأمريكية للرئيس السوري الشاب، بشار الأسد، الذي لم تمض ثلاث سنوات على تنصيبه رئيسًا، خلفا لوالده حافظ الأسد. أدركت من الزيارة أن سوريا دخلت إلى حلة الضغط الأمريكية، وأن عليها أن تستجيب للمتغيرات في المنطقة، أو حسبما جاء في تغطية موقع الجزيرة وقتها أن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أكدَّ على "ضرورة التكيف مع المعطيات الجديدة في المنطقة بعد الحرب على العراق". كان الوضع مشتعلًا، باختصار، وكان حظي أن أكون هناك.

لم تكن الزيارة مخططة، ولم تكن تغطية زيارة كولن باول مهمتي، ولا أخالف الحقيقة إذا قلت إنني سافرت بلا مهمة محددة، وإن رئيس تحريري الأستاذ عادل حمودة أرسلني إلى هناك "علشان أغير جو، وأتفسح شوية"، وقال "لو عايز تكتب بعد ما ترجع اكتب، لكن روح اتفسح وانبسط شوية".

وفضلًا عن كونه واحدًا من أهم صناع الصحافة المصريين، في رأيي، فإن عادل حمودة من أهم المديرين الذين قابلتهم في مسيرتي المهنية طوال أكثر من ثلاثين عامًا في مهنة الصحافة. كنا نعمل في صحيفة صوت الأمة وقتها، ولم يكن رئيس تحرير بالمواصفات التقليدية، فهو صديق لأصغر الصحفيين، ولأكبرهم سنًا، ويعرف الكثير عن تفاصيل حياة من يعملون معه، بما في ذلك أمورهم العائلية، وشؤونهم العاطفية. وجدني، يومها، جالسًا وحدي في غرفة التحرير المركزي، ولاحظ أن "المود مش تمام"، فأحضر قهوته وجلس معي، ليسمعني. في وسط حديثنا، فاجأني بقوله "جهز نفسك علشان تسافر سوريا بعد بكرة".

لم تكن سوريا تحتاج إلى تأشيرة دخول من مواطني الدول العربية، ولا أعرف إذا ما كان الحال تغير الآن. في اليوم التالي، أحضرت له ورقة صغيرة كتبت فيها ما اعتبرته خطة لمهمتي، تضمنت حوارات وقصصًا محتملة، لكنه قال "روح اتفسح، ولما ترجع اكتب لو حابب. اعتبر الرحلة مكافأة". وقال بتحذير واضح "اتفسح، سمعتني؟ ما تلعبش معاهم، لأنهم ممكن يحطوك في الأسيد، ما يطلعش منك غير المشابك". كان يتحدث بجدية صارمة، قبل أن يدخل إلى مكتب مالك الصحيفة الراحل عصام إسماعيل فهمي، لينتزع 600 دولار "من فم الأسد" كتغطية لمصاريفي في الرحلة، إضافة إلى تذكرة الطيران. كنت أكتب كثيرًا في الشأن السياسي العربي، خصوصًا ما يتعلق بسوريا والسعودية والعراق وفلسطين وليبيا، لكنني أدركت، بعد هذه الرحلة، أن لا شيء يمكن أن يعادل كتابة وضع صاحبها قدميه على الأرض التي يكتب عنها، وربما كان هذا هدف عادل حمودة من الرحلة.  

استقبلني ضابط الجوازات السوري بابتسامة كبيرة محبة عندما قدمت له جواز سفري المصري، لكن ابتسامته أخذت تبهت تدريجيًا عندما قرأ مهنتي في جواز السفر. في كثير من الدول العربية التي زرتها كان الأمر نفسه يتكرر، فالسلطات العربية تعتبر الصحفي خطرًا محتملًا، أو جاسوسًا محتملًا، من الواجب إعاقة عمله. أرسلني ضابط الجوازات إلى ضابط أعلى، سألني بدوره عن سبب زيارتي، فقلت "جاي اتفسح، وأرتاح شوية من ضغوط الشغل". مرت الأمور بسلام، لكنني أدركت أن احتمالات مراقبتي لن تكون قليلة، وأن تحذير الأستاذ عادل في محله، مع أنني لم ألتزم به تمامًا.

سائق التاكسي هو مفتاح كل بلد جديد، وهو إما أن يكون مفتاحًا للمتعة، أو مفتاحًا لباب السجن. يتطوع سائقو المطارات، عمومًا، في كثير من البلدان، ذات الحكم الشمولي تحديدًا، بتقديم معلومات عن البلد، إما طمعًا في بقشيش أكبر، أو سعيًا للحصول منك على معلومات عن سبب زيارتك، من الوارد جدًا أن يقدمها لجهات أمنية. قدم لي سائق التاكسي نفسه باسم "أبو أحمد"، وقدم لي موجة ترحيب معتبرة، بمجرد أن عرف من لهجتي أنني مصري. حكى لي عن مصر التي يحبها، ويتمنى أن يزورها، وحكى لي طبعًا عن المسلسلات والأفلام والأغاني المصرية التي يحبها، ولم ينس أن يقول كم يضحكه عادل إمام. كان يتحدث كثيرًا، بمحبة وبدفء إنساني كبيرين، لكنه صمت للحظة عندنا أجبته ردًا عن سؤال حول عملي "صحفي"، قبل أن يلتفت لي أكثر من مرة، ويهمس "أستاذ، هون لا تقول لحدا إنك صحفي، ولا تتكلم كتير مع الناس أستاذ". وصمتنا صمت خائفين، قبل أن يشير بإصبعه إلى نقطة في الطريق، ويقول "هنا توفي الشهيد باسل الأسد، الله يرحمه"، فقلت "الله يرحمه".

توفي باسل الأسد في حادث سيارة على طريق المطار، في 21 يناير/ كانون الثاني 1994، في ظروف وصفت بأنها غامضة. ولد باسل في 23 مارس 1962، وكان والده يعده لوراثة حكم سوريا، خاصة بعد محاولة شقيقه رفعت الأسد الانقلاب عليه، والاستيلاء على الحكم، أثناء مرضه عام 1984. كان رفعت الأسد يقود ما يسمى "سرايا الدفاع" التي ارتكبت ما يوصف بـ"مجزرة حماة" ضد الإخوان المسلمين، عام 1982. كانت سرايا الدفاع قوة شبه عسكرية، مكونة من نحو 55 ألف جندي، تتبع رفعت الأسد مباشرة، ومهمتها الأساسية حماية الشقيق الأكبر حافظ الأسد ونظامه. لكن قرارًا صدر بضم هذه القوة إلى الجيش السوري باسم الفرقة الرابعة من الحرس الجمهوري، وحصل رفعت الأسد على "شلوت لفوق" بترقيته نائبًا لرئيس الجمهورية، دون صلاحيات، مع نفيه إلى العاصمة البريطانية لندن.

في لندن، وبعد 10 سنوات من محاولة انقلاب عمه على أبيه، كان بشار الأسد يدرس طب العيون كطالب دراسات عليا في مستشفى ويسترن للعيون، عندما تلقى مكالمة تطالبه بالعودة الفورية إلى سوريا، بدون أن يخبره أحد بوفاة شقيقه الأكبر باسل، ولتبدأ عملية إعداده ليصبح خليفة الوريث.

 

العائلة الأسدية، حافظ وبشار وباسل، في لوحة بأحد الشوارع  السورية. الصورة: فليكر- برخصة المشاع الإبداعي

عندما دخلت سوريا، كانت سنوات ثلاث مرت على صعود بشار إلى الحكم، وكان لديّ اعتقاد بأن سوريا محظوظة لأن بشار، طبيب العيون المدني، هو الذي ورث الحكم، وليس شقيقه العسكري الراحل باسل، وأن هناك إمكانية لإجراء إصلاحات في سوريا. كان هناك ما يعزز هذا الاعتقاد، فاهتمامات بشار كانت علمية أكثر من كونها سياسية، كما أن شخصيته توحي بأنه شاب هادئ، خجول، متواضع، ذو تفكير عقلاني. ولم أكن وحدي من يملك هذا الانطباع تجاه بشار الأسد، فهو انطباع تعززه رواية زملاء له في مستشفى ويسترن للعيون في لندن، تحدثوا إلى BBC في فيلم وثائقي بعنوان عائلة خطرة: بيت الأسد. شعر بشار بخجل شديد، وفق زملائه، عندما تعرفت عليه مريضة عربية في المستشفى، وأدركت أنه ابن الرئيس السوري بشار الأسد. لكن الشاب الخجول أظهر، لاحقًا، أنه ليس أقل ديكتاتورية من أبيه عندما يصل الأمر إلى تهديد الحكم الأسديّ لسوريا. 

في صباحي الدمشقي الأول، كان علي أن أستكشف المدينة، وأبحث عن فندق آخر بدلًا من ذلك الذي دلني عليه سائق التاكسي في حارة صغيرة من وسط المدينة. من مقعدي في المقهى، أخذت أراقب السوريين الماشين على الرصيف في شارع 29 أيار، في وسط دمشق، فلم ألحظ فوارق كبيرة بين أرواحهم وأرواح المصريين. ونظرت إلى المباني، فجاءني إحساس بأنني أجلس في مقهى سوق الحميدية في باب اللوق، مع فارق زمني لا يقل عن 20 عامًا بين القاهرة ودمشق. والحقيقة أنني لم أزر مدينة تشبه القاهرة كما تشبهها دمشق، ولا شعبًا يشبه المصريين كما يشبهه السوريون. 

وكما في دول عربية كثيرة، يمنحك كونك مصريًا امتيازات خاصة في المعاملة، لكن الفارق في سوريا أن السوريين لا يعاملونك باعتبارك شخصية سقطت من فيلم سينمائي أو من مسلسل تليفزيوني، كما يحدث في دول أخرى، لكنك تشعر بأنهم يحبونك لأنك جزء منهم، ولأنك تشبههم. أنا لا أجيد الفصال والمساومة عند الشراء، لكنني حصلت على خصم اختياري وصل إلى 50% في بعض المحلات، لمجرد أنني مصري، كما حصلت على هدايا صغيرة "على البيعة" للسبب نفسه. وطوال وجودي، الذي استمر أسبوعين في دمشق، كثيرًا ما راودني شعور بالذنب لأن السوريين يحبونني مجانًا، في مقابل حذر الغريب الذي أعاملهم به. وفي المقهى، حاولت دفع الحساب، لكن الجرسون أخبرني بأن ما شربته "ضيافة" من صاحب المقهى. ذهبت لأشكره، فقال "ولو أستاذ، ع راسي".

يقودك شارع 29 أيار إلى ساحة سبع بحرات، حيث يقع مبنى البنك المركزي السوري، من جهة، وإلى ساحة يوسف العظمة، التي يقع فيها مبنى محافظة دمشق، من جهة أخرى. وأعلى بابي المبنيين تستطيع أن ترى صورتين معلقتين، إحداهما لبشار الأسد "القائد"، والأخرى لحافظ الأسد "القائد الأب"، وهو أمر يذكرني بصور صدام حسين التي رأيتها في كل مكان في زيارتي لبغداد، وصور القذافي التي رأيتها في زيارتي للعاصمة الليبية طرابلس. عندما تعبر ساحة يوسف العظمة، بشكل مستقيم، سيتغير اسم الشارع إلى شارع بورسعيد، الذي يقع فيه مقهى هافانا، بعد خطوات من التقاطع مع شارع المتنبي.

تأسس مقهى هافانا عام 1945، وهو واحد من أشهر مقاهي دمشق، لارتباطه بالكثير من الأحداث الثقافية والتاريخية، حتى تستطيع أن تشبهه بمقهى ريش في القاهرة. على مقهى هافانا، جلس شعراء مثل محمد الماغوط ومظفر نواب ومحمد مهدي الجواهري وأحمد عبد المعطي حجازي، وغيرهم الكثير. وبعد عامين من تأسيسه، شهد المقهى انعقاد المؤتمر التأسيسي الأول لحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي وصل إلى الحكم بانقلاب عسكري في الستينات، وجاء بحافظ الأسد رئيسا في بداية السبعينات، ثم بابنه بشار عام 2000. 

كان لدي اعتقاد بأن سوريا محظوظة، بشكل ما، بوصول بشار إلى الحكم، بدلا من شقيقه باسل ذي التربية العسكرية. وكان لدي اعتقاد بأن طبيب العيون الشاب، الهادئ، الخجول، الذي أصبح رئيسًا لجمعية علوم الكمبيوتر السورية، وأدخل الإنترنت إلى سوريا، سيكون مصلحًا محتملًا، يقود سوريا إلى مستقبل مختلف يليق بها، لكن هذا لم يحدث، ويبدو أنه لن يحدث أبدًا. يجب أن أفتح إيميلي، لأفحص صندوق الرسائل، ولكن قوة الإنترنت في الفندق لا تكفي لتحريك نملة من مكانها، الأمر الذي دفعني للبحث عن مقهى إنترنت. كانت مقاهي الإنترنت، في ذلك الوقت، عام 2003، منتشرة بشكل فيروسي في شوارع القاهرة، وممتلئة عن آخرها، فتخيلت أن الأمر سيكون مشابها في شوارع دمشق، لكن أملي خاب.

لا أبالغ عندما أقول إنني استغرقت حوالي ست ساعات من البحث، لكي أصل أخيرًا إلى مقهى إنترنت في الطابق الثاني من مبنى سكني، في حارة صغيرة من حواري دمشق. كان تعبير "مقهى إنترنت" مدهشًا وغريبًا بالنسبة للسوريين الذين كنت أسألهم في الشوارع، فيعاملونني بود ورغبة في المساعدة، لكنهم يعجزون عن مساعدتي، لأنهم لا يعرفون ما أقصد بالضبط. 

قلت لصاحب المقهى إنني أريد أن أستخدم الإنترنت، فسألني "لشو أستاذ؟". قلت له إنني أريد أن أفتح إيميلي، فطلب مني جواز سفري، لتصويره قبل السماح لي باستخدام الإنترنت. شعرت بأنني سقطت في فجوة زمنية غير مفهومة، لكن ساعات البحث الست منحتني طاقة صبر إضافية، وقدرة على تفهم الشاب الملتحي صاحب المقهى عندما قال "التعليمات هيك أستاذ". لم يكن مقهى إنترنت، كما أعرفه على أي حال، فهو مجرد شقة تحتوي على جهازي كمبيوتر، ولم يكن فيها زبون سواي. فتحت إيميلي على "هوتميل" بصعوبة شديدة، بعد محاولات شبه يائسة، ثم خرجت منه لأحاول أن أفتح إيميلي على "ياهو"، لكنه لم يستجب إطلاقًا. قلت للشاب ذلك ففاجأني بقوله إن "ياهو" ممنوع في سوريا. وعندما سألته ببراءة عن السبب، أجابني بيقين "لأنه شركة يهودية".

 

"لا أمل"، قلت لنفسي. سأعود إلى الفندق، وأكتب شيئًا أرسله إلى الصحيفة، لعلني ألحق بالعدد التالي، وسيسامحني أستاذي عادل حمودة لأنني خالفت تعليماته بعدم الكتابة. قلت لنفسي "مش معقول أقعد أتفسح بفلوس الجورنال، وما أكتبش حاجة".  كتبت مقالًا عنوانه "سوريا تدخل حلة الضغط الأمريكية"، وارتكبت خطأ ثانيًا، عندما تركت مقالي لموظفة الريسبشن كي ترسله بالفاكس، ثم تعيد الأصل إلى غرفتي. ارتكبت موظفة الريسبشن خطأ ساذجًا، لكنه نبهني إلى ضرورة التزام الحذر الشديد فيما تبقى لي من أيام في دمشق. عندما أعيد لي المقال، لاحظت أن خطي في الورقة الأولى مكسر قليلًا، وهو ما يعني أن هذه الورقة هي نسخة مصورة من الأصل، وليست الأصل.

اتصلت بالريسبشن من تليفون الغرفة، وأعطيتهم رقم صديقي عبد الفتاح علي سكرتير التحرير ليتصلوا لي به، ويحولوا المكالمة إلى الغرفة. كان بإمكاني أن أجري الاتصال من الموبايل، لكنني قصدت أن يسمعوا المكالمة، وأن يعرفوا أنني حكيت ما حدث، وطلبت من عبد الفتاح إبلاغ رئيس التحرير الأستاذ عادل حمودة، وأن يبلغ وزارة الخارجية، ونقابة الصحفيين، وأي جهة معنية بحمايتي. وبعد إنهاء المكالمة، أرسلت رسالة إلى عبد الفتاح أخبره فيها بأنني بخير، وأن الوضع غير مقلق إلى الآن. ولكي أكمل عملية تأمين نفسي، كان علي أن أذهب إلى موظفة الريسبشن، وأتحدث بصوت عال عن الفضيحة التي اكتشفتها، وأن أخبرها بصوت عال وعصبي أنني أبلغت صحيفتي، وأن الصحيفة ستبلغ كل الجهات المعنية بحمايتي في مصر.

ثم عدت إلى الشارع.

هذه لحظة خروج التلاميذ من المدارس، وهي لحظة يجب التوقف أمامها. مثل التلاميذ المصريين، يرتدي تلاميذ سوريا زيًا موحدًا، لكنه مميز بأنه زي شبه عسكري، كاكيّ اللون، أقرب إلى ملابس الكشافة في مصر. لا يسيطر حزب البعث على الحياة السياسية في سوريا فقط، لكنه يفرض سطوته على المسيرة التعليمية كلها، بدءًا من الصف الأول الابتدائي، ويعطي حصة التربية العسكرية أهمية كبيرة. وكما يتدرج السياسيون في حزب البعث، حسب درجة الولاء وما يقدمون من خدمات، يعني التحاق الطفل بالصف الأول الابتدائي أنه أصبح عضوًا، بشكل آلي، فيما يسمى طلائع البعث، قبل أن يصعد، آليًا أيضًا، إلى شبيبة البعث بعد اجتيازه المرحلة الابتدائية. وبنهاية المراحل التعليمية، تصبح عقول أغلبية الطلاب مغسولة بأفكار الحزب، فيما تكتفي البقية بالحديث في السياسة سرًا، ولعنها علنًا، ويذهب من يعلو صوته إلى غياهب سجن أبدي، ينتهي غالبًا بالموت تحت وطأة التعذيب. في المقابل، يحظى من يظهرون ولاءً مطلقًا وثابتًا لحزب البعث بميزات عديدة، من أهمها الحصول على المناصب القيادية في المجالات المختلفة.

 ولا يفرق السجان السوري بين السوريين في السجن أو التعذيب، ما أظهروا عدم ولاء مطلق لحزب البعث، لا فرق في ذلك بين سني أو مسيحي أو شيعي أو علوي. بل قد يتضاعف تعذيب السجين العلوي عن غيره، لأنه، بالنسبة للأسرة العلوية الحاكمة، أكثر خطرا من غيره، باعتباره "خائنا لوطنه/ حزبه، وطائفته/ عائلته". وطوال زيارتي التي دامت أسبوعين لسوريا، لم ألحظ أي حس طائفي ظاهر في معاملات السوريين، بل بدا لي المجتمع السوري، كما أريد له أن يبدو، مجتمعًا علمانيًا منفتحًا، غير مشغول بالسياسة في العلن، هامسا بالنقد سرًا للفساد والفاسدين من أهل السلطة وحوارييهم.

الخطاب الأول للرئيس السوري بشار الأسد عقب اندلاع المظاهرات ضده.


أحببت سوريا والسوريين، وأشفقت عليهم مما يعيشون، ورأيت أنهم، كالمصريين، يستحقون حياة أفضل، وحكما أفضل، لكنني لم أتخيل- مطلقا- أنهم قد يثورون، ذات يوم، ضد عائلة الأسد. وعندما انطلقت الثورة السورية في مارس 2011، تفاءلت تفاؤلًا مغموسًا بالخوف، لأنني كنت أدرك أن الرئيس، الذي كان شابًا جرى تعديل الدستور على مقاسه ليرث حكم والده، لن يتنازل بسهولة عن الحكم، ليس لأنه غير راغب في ذلك، ولكن لأنه غير قادر، فهو مجرد واجهة لدولة عميقة راسخة المصالح، وغير مستعدة لتقديم تنازلات، أو لمنح رشاوى في صيغة إصلاحات.

وعندما ألقى بشار الأسد خطابه الأول بعد انطلاق المظاهرات، أدركت أنه يضع حجر الأساس لحرب أهلية طائفية. لم يرفع المتظاهرون السوريون أية شعارات طائفية، ولم ينادوا إلا بالحرية للسوريين بكل طوائفهم، لكن الأسد كان أول من وصم المظاهرات بالطائفية في خطابه، الذي كان مؤشرًا على ما ستؤول إليه الأمور في السنوات العشر التالية. عندما حاول رفعت الأسد الانقلاب على شقيقه حافظ، أثناء مرضه عام 1984، كان الهدف هو الحفاظ على الحكم داخل العائلة العلوية، وعندما استدعي طبيب العيون الشاب بشار من لندن، كان عليه أن يكون وريث الوريث لتحقيق الهدف ذاته. ولم يكن أحد يتخيل أن يتحقق الهدف ببحور من الدماء.

في طريق العودة إلى المطار، تخلصت مما أحمل من عملة سورية بشراء الكثير من الهدايا والذكريات، لكنني فوجئت بأن سوريا التي يدخلها العرب بتأشيرة مجانية، تفرض تأشيرة خروج بقيمة 20 دولارًا، تمامًا كما فعل إسماعيل ياسين وشادية، في أحد الأفلام القديمة، عندما وقفا خارج المسرح يدعوان الجمهور للدخول مجانًا، ثم وقفا بعد العرض على باب الخروج ليفرضا تذكرة خروج على الجميع.  

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.