هبة حلمي أثناء عملها في قرية تونس- الصورة: صفحتها على فيسبوك

هبة حلمي: "بكون حرة" عندما تصبح الحياة لوحة من الموزاييك

منشور الأربعاء 11 أغسطس 2021

في ورشتها بقرية الخزّافين، مرتدية المريلة، ومن حولها تتناثر قطع الفخار، والألوان والأصباغ وأدوات الحفر والرسم المختلفة: الطاولة العريضة التي تنتصب في الوسط، الدولاب، الطين، القلم، النشَّابة، الأنبوبة؛ تقف التشكيلية هبة حلمي على أُهبة الاستعداد لبدء يوم عمل شاق.

تبدأ هبة العمل على خامة الفخار، باعتبارها لحظة لا تسبقها شروط، أو خطط مسبقة تفرض نفسها على العمل. فهي تتوجه بخيالها ويدها نحو الخامة دون أن تغلق رأسها على احتمال واحد بعينه، بحيث تظل مفتوحة على احتمال تمرد الخامة على الشكل الذي بدا لها أنه يمكن أن يكون الشكل المرجو.

صحيح أنها تبدأ عملها بنية تحويل قطعة الطين إلى شيء آخر غير الطين، قطعة فنية، مثلًا، بلونٍ ما، وشكلٍ ما مختلفين. غير أن الفنان، من وجهة نظر حلمي، يجب أن يكون مرنًا بخصوص ما خَطط له، وما وجد نفسه في مواجهته فعليًا. فإذا ما تشققت قطعة من الفخار، مثلًا، أثناء مرورها بمرحلة الحرق الأولى، أو ما يُسمى بمرحلة "البسكويت"، فإنها تتركها على حالها معتبرة أن التشققات والتصدعات، في الخامة، جزءًا لا يتجزأ من العمل الفني، لا عيبًا يجب التخلص منه.

موازييك

خاضت التشكيلية هبة العديد من التجارب الفنية التي أغنت حياتها الفنية، بداية من فن التصوير الزيتي، إلى الجرافيك، مرورًا بالكتابة من خلال كتابيّ جوّايا شهيد: فن شارع الثورة المصرية، الذي يوثق لفن الشارع street art، وبنت في حقيبة، الذي يتناول سيرتها الذاتية، ثم تجربتها مع الخط العربي، وأخيرًا فن الخزف.

 

هبة حلمي- الصورة: صفحتها على فيسبوك

تجارب هبة المتنوعة التي تشبه لوحة من الموزاييك، في تجاور وتعدد ألوانها ورسوماتها تعكس ولعًا بالبدايات بما تتضمنه من مغامرة فنية جديدة، تقول للمنصة "وهج البدايات هو الذي يأسرني في كل تجربة جديدة. فكل تجربة جديدة تحمل، بقدر ما، مغامرة جديدة تُعمق من حريتي، ومن انسلاخي عن ضروريات الحياة اليومية".

تلك الضروريات، تقول هبة، هي ما أطلق عليها نجيب محفوظ "نشارة الحياة"، مضيفة "أنا لا أستطيع، أبدًا، أن أظل أسيرة تجربة واحدة، أو شكل واحد من أشكال ممارسة الفن".

مؤخرًا، عرض الفيلم الوثائقي بكون حرة للمخرج شريف فتحي سالم، ويتناول، خلال مدة لا تزيد عن نصف ساعة، سيرة قصيرة للمشوار الفني لهبة حلمي كخزّافة، اعتمد سالم على بطلة فيلمه في تقديم نفسها، وشرح علاقتها بفنها، والطريقة التي تراه بها. فالفيلم، من وجهة النظر هذه، هو بمثابة شهادة فنان على فنه. وقد لعبت الكاميرا دورًا لافتًا في إبراز نسختين متوافقتين من شخصية هبة حلمي: الأولى هي نسخة الفنانة التي تقف في ورشتها بقرية الخزّافين، في وضعية الشغل، مرتدية المريلة، وعلى أُهبة الاستعداد للبدء في تشكيل وتطويع قطعة جديدة من الطين، وتحويلها إلى قطعة فنية تضاف إلى مجموعاتها الخزفية المتعددة. أما الثانية فهبة حلمي الإنسانة التي تقترب الكاميرا من بعض ملامح حياتها الأسرية، وتركيبتها الشخصية، سواء من خلال المسح البصري لتفاصيل من بيتها، أو برصد جوانب من روتينها اليومي، أو بالاحتفال بحركتها الحرة فوق دراجة داخل قرية تونس بمدينة الفيوم.

وفيما يشبه المنولوج الداخلي، تتحدث صاحبة جوّايا شهيد عن مشوارها الفني منذ التخرج في كلية الفنون الجميلة، مرورًا بتجربتها في التدريس، ثم تجربتها في الكتابة، وصولًا إلى فن الخزف، الغريب أن هبة، حسبما كشفت للمنصة، قضت ثلاث سنوات في كلية الهندسة قبل أن تحسم بشكل نهائي قرارها بالتحول إلى الفن. مرت هبة بفترة عصيبة من الحيرة والتردد. وقتها كان السؤال عن معنى أن تدرس الهندسة، وما إذا كانت الهندسة، حقًا، هي الطريق الذي يجب أن تمضي فيه، مؤرقًا. وعندما استطاعت أن تجد إجابة عن أسئلتها سارعت بنقل أوارقها إلى كلية الفنون الجميلة. حيث أقامت أولى معارضها عام 2001.

خوفًا من العادي

تتخوف هبة من الملل الذي يُطفئ وهج التجربة الإبداعية للفنان، والذي لا علاج له سوى البحث دائمًا عن مغامرة تنقذ الفنان من التكرار، تقول للمنصة "أحيانًا كنت أقف أمام اللوحة وأنا أعرف مسبقًا ما سوف أضعه من خط ولون على سطح "التوال"، حيث تقل مساحة المغامرة والاكتشاف، وهذه الحالة تصيبني بالملل، أو بالأحرى بالشلل، أتوقف عن العمل، لأن المثير أو الدافع بدأ يخبو. هنا يصبح تغيير الوسيط هو طوق النجاة بالنسبة لي من هذا السكون أو الخفوت. لن أرسم بالفرشاة وألوان الزيت، بل سأذهب لتعلم حرفة الصياغة وأصمم حُلي. لقد فعلت هذا بالفعل بين سنتي 2009- 2010، وقد ألجأ إلى العمل المركب، فتتحول الألوان والتوال إلى قطع من الخشب، أو الحديد، والفرشاة إلى مسامير ومناشير وسنفرة وعِدد نجارة".

 

بوستر فيلم بكون حرة للمخرج شريف فتحي سالم- الصورة: صفحة هبة حلمي على فيسبوك

وتضيف "التجارب أو الممارسات الفنية المختلفة هي بمثابة إرجاء مستمر للحظة الاكتمال. فما إن يبدو لي أن تجربتي مع فن من الفنون توشك أن تكتمل حتى أجدني أفتش عن بداية أخرى، وكأنني أحاول تأجيل لحظة الاكتمال هذه بكل ما في وسعي. أو فلنقل أنني أحاول أن أملأ نقصًا لا يمتلئ أبدًا".

أما فيما يخص تجربة الكتابة فهي "بالتحديد، كانت مطلبًا ضروريًا، وقتها، بالنسبة لي. كنت أفتش في صندوق قديم يضم أوراقًا منسية تراكمت عبر سنوات مختلفة؛ جوابات وخواطر وقصص ونصوص تتضمن تصوراتي عن نفسي، وعن أحداث بعينها وعلاقات إنسانية بآخرين. عندما فتحت هذا الصندوق كانت كل ورقة أقرأها تفتح بداخلي أبوابًا، وتستفزني للكتابة من جديد، كأنني كنت أرى نفسي في مرآة قديمة، وأُدرك المسافة التي تفصلني عن صورتي في هذه المرآة. حفزني الصندوق على الكتابة، وبعد سنة وبضعة أشهر كنت أكتب خلالها بشكل يومي، تكوَّن لدي متنًا من نصوص شكّل ما يشبه الرواية، فنشرتها تحت عنوان بنت في حقيبة، 2017".

حصالة هبة

كانت تجربة حلمي الأولى في النشر الورقي في عام 2013 من خلال كتاب جوّايا شهيد ضرورة ملحة، حيث توثيق فن الجرافيتي في الشوارع وعلى الجدران، تقول للمنصة "مع اندلاع ثورة يناير، بدأت أوثق لهذا الفن الزائل، بطبيعته. فالكتابة ضرورة ملحة كما هو الحال في الرسم أو الخزف. ولاحظ أن تنوع الخبرات عمومًا يثري الخيال، كأنك تملأ حصالتك باستمرار لتسحب منها وقت أن تشاء. وبين الرسم، والتصميم والكتابة والخزف جوانب مشتركة بطبيعة الحال. فكلها سبل للتعبير عن ذات مهمومة بالتساؤل باستمرار. إن الفن يمنحك التوازن والحرية".

 

لوحة لهبة حلمي استخدمتها لاحقًا غلافًا لرواية البحث عن دينا لمحمود الورداني- الصورة: صفحتها على فيسبوك

ضمن حصالة هبة حلمي، أيضًا، تجربتها مع فن تصميم أغلفة الكتب. عملت هبة مصممة أغلفة عام 2003 بدار نشر شرقيات لصاحبها حسني سليمان. كان سليمان مثقفًا يمتلك وجهة نظر فيما ينشر أو لا ينشر. فليس العائد المادي دائمًا هو ما كان يتحكم في قراره بنشر هذا الكتاب أو ذاك. استطاع سليمان أن يقدم للحياة الثقافية المصرية والعربية العديد من الكُتَّاب الشباب الذين أصبحوا الآن كُتابًا فاعلين في حياتنا الثقافية، والعديد من الكتب التي لاتزال تحيا في ذاكرتنا.

تقول هبة عن هذه التجربة للمنصة "قدمت لي شرقيات فرصة تصميم أغلفة كتب معظمها كتب أدبية من روايات ومجموعات قصصية وشعر، حيث القراءة بابًا مفتوحًا على الخيال من أجل البحث عن معادل تشكيلي للنص. والفرق هنا أنني لست حرة تمامًا حرية أن أقف أمام توال أبيض مشدود أخط على صفحته بفرشاتي كما يتراءى لي. فالنص هنا هو الذي يبوح لي بسره، و يدفعني للبحث عن معادل تشكيلي لهذا السر أو المضمون، شريطة أن يكون هذا المعادل متميزًا عندما نضعه على رف وسط آلاف الكتب الأخرى".

في تونس

تتحدث هبة، أيضًا، عن تجربتها في تعلم فن رسم الخط العربي وبدايتها مع فن الخزف، دون أن تعرف أيهما كان الأسبق في تجربتها. فقد بدأت تعلم فن الخط العربي في نفس الوقت الذي بدأت فيه تجربتها مع الخزف. كأن الفنَّين كانا على موعد مسبق مع بعضهما البعض. وحول هذه التجربة. تقول في الفيلم "رأيت بعيني ما تركه الفنان العربي القديم في المتاحف والمساجد والقصور، وانعكس هذا كله على تجربتي الخاصة. هذا بالإضافة إلى تجربتي في قرية تونس وتعرفي إلى إيفيلين بورييه، وما كنت أطرحه عليها من أسئلة حول رأيها فيما أُنتج من خزف، وعن التقنيات التي تستخدمها في قطع من إنتاجها أعجبتني. كل هذا فتح أمامي آفاقًا جديدة من الخبرة".

بين عالمين

يبدأ فيلم بكون حرة من لحظة مغادرة الفنانة لبيتها في اتجاه ورشتها بقرية الخزّافين في مدينة الفسطاط، وفي الشارع نرى هبة وهي تَعبر بسيارتها شوارع المدينة التاريخية، التي تنتصب في القلب منها مئذنة جامع عمرو بن العاص الشهير، وصولاً إلى ورشتها في قرية الخزَّافين، وربما كان المقصود برصد خطة السير الصباحية هذه بين شوارع وأحياء متباينة تاريخيًا وحضاريًا، هو التأكيد على انتماء حلمي لهذا التنوع الحضاري المصري بمختلف درجاته وتوجهاته. لاسيما وأن بوستر الفيلم يتضمن عنوانًا ثانويًا يشير إلى هذه العلاقة بين الفن الإسلامي والفرعوني في فن هبة حلمي، إذ نقرأ هذا التعليق، اللافت، أسفل صورة البوستر "مزيج متمرد من الفنين الفرعوني والإسلامي لفنانة الخزف هبة حلمي". وواضح ما يحمله التعليق من التأكيد على التراث، في مقابل التأكيد على ضرورة التمرد عليه.

 

من أعمال هبة حلمي- الصورة: صفحتها على فيسبوك

وما أن تنتهي الكاميرا من استعراض ورشة هبة في الخزافين، حتى تنتقل إلى قرية تونس بمدينة الفيوم، التي طورتها إيفلين بورييه، وجعلت منها ورشة ضخمة علَّمت أجيالًا من فناني الخزف. هناك تُرينا الكاميرا موقعًا آخر من المواقع الذي تمارس فيه حلمي فن الخزف بمشاركة عبد الستار عبد الرحمن، أحد تلامذة بورييه. وحيث بدأت حلمي تفكر في الرسم بحروف عربية على الخامات التي تقوم بتصنيعها. تقول حلمي، في الفيلم، عن هذه التجربة، إنها وجدت عملية استثمار الحروف العربية في المجموعات التي تقوم بتشكيلها جميلاً ومعبرًا ومكملًا للتجربة العربية الإسلامية الموروثة في هذا المجال. طالما أنني وريثة الحضارة العربية الإسلامية، مثلما أنا وريثة الحضارة الفرعونية من قبلها. وكلتا الحضارتين قدمتا إسهامًا متميزًا في مجال الرسم والنقش على الخزف.

بذل المخرج شريف فتحي، بحسب هبة "جهدًا كبيرًا في الإلمام بمشواري الفني، من خلال قراءة كتبي والتعرف على تجربتي في الخزف، بل والتعرف على تاريخ الخزف عمومًا وتقنيات صناعته، وعلى تاريخ الخط العربي"، لكن الفيلم الذي تشكّل خطوة بخطوة، حسبما تشير هبة حلمي في تصريحات للمنصة، لم يملك سيناريو أُعد مسبقًا "إنما أخذت صورة الفيلم تتشكل وتتكمل خلال فترات التصوير"، ربما تأثرًا بهبة نفسه في عملها مع الفخار الذي إذا "ما تشققت قطعة منه فإنها تتركها على حالها لأنه جزءً لا يتجزأ من العمل الفني"، أو ربما كان الفيلم تأملًا ذاتيًا، في عملية تحويل شيء إلى شيء آخر فني، لأن الفنان "يجب أن يكون مرنًا بخصوص ما خَطط له، وما وجد نفسه في مواجهته فعليًا".