تصميم: يوسف أيمن- المنصة
ثمة منفذ خصب ودائم، لأن نعرف الكثير عن نساء أخريات راحلات سيتمددن بدورهن سريعًا تحت جلودنا.

النساء اللاتي يسكن ذاكرتي  

منشور السبت 25 سبتمبر 2021

أُسند رأسي فوق نافذة سيارة الأجرة، يبدو النوم رفيقًا طيبًا، حتى تلمح عيناي طفلةً تركض نحو مدخل مبنى، تاركةً أقرانها يلعبون في الشارع دون وداع، يضيق صدري، وينطلق عقلي أن الطفلة حين تصل غرفتها، تبلغها أمها أن تزيح عنها غبار اللعب وتستحم، فاليوم سيُعقد قرانها على زوج يكبرها ما يزيد عن عقدين من الزمان.

أعلم أنني أبدو شخصًا ألِفَ قصةً صادفها في دعايات الاتجار بالبشر وزواج الأطفال، لكن ذاك بالفعل ما عاشته  تيتة قدرية [1]، قبل حوالي ثمانين سنة، ورغم أنني لم أرها سوى في صورة وحيدة لعرس أمي، لكنها تمرُ بخاطري في فتراتٍ متقاربة دون سبب، أفكر فيما عاشته لحظة صعودها المنزل، وكيف مرت بها الأيام ووصلت قصتها إليّ.

في الماضي، اعتقدتُ أن حضور قدرية المتكرر في ذهني، سببه صلة القرابة بيننا، لكن حين جاورها نسوة غريبات، بدأت أبحث عن تفسيرٍ ما، لِم أتذكر نساءً لم ألتقيهن أبدًا ورحلن عن عالمنا أيضًا؟ أحاول هنا تأمل النسوة اللاتي يسكنّني، لا أفكر في رد الاعتبار لحياتهن القاسية أحيانًا، لكنني ربما أرثيهن فقط.

الحكايات المبتورة لا تفنى

تزوجت قدرية أرمل أختها المتوفاة بعد أربعين يومًا من رحيلها، لتربي أطفالها الأيتام، رغم ذلك لم يعد ذكرها متواترًا بين العائلة، لأنها بحسب رأيهم لم تكن لطيفة المعشر، وتعنِف أبناء أختها وأبناءها على حدٍ سواء.

حين قصّت أمي علينا ما حدث لخالتها، كنتُ وأختي لم نتجاوز التاسعة، لطالما فكرت حول جدوى رواية هذه القصة لنا في ذلك العمر، لكن بمرور الوقت، علمت أن هدفها هو أن ندرك كيف نحن محظوظات تغمرنا الامتيازات، لكن بالطبع ثمة خطر دائم من فقد كل ذلك، العالم غير عادل، يُفلح دومًا في قلب الحظوظ، لذا يجب أن نكون مُمتنات، ونسير وفق ما تريده لنا الأسرة، فالحذو خارج حدودها قد يفقدنا ما أخذناه دون صراع؛ التعليم، والآمان، والطفولة.

أتخيل قدرية امرأةً حزينة لكنها طيبة على عكس ما يقولون عنها، تختلط صورتها في عقلي، يشتبك رثاء المجهول مع المتخيل، وأفكر، ربما هذا سبب تعلقي بقصتها، قدرية بالنسبة لي إنسانة مجهولة، عرفت مُصابها فقط في وقتٍ ثمين بالنسبة لتكوين ذاكرتي، خلقت لها في عقلي مُجسمًا ضبابيًا، لذا يستعيدها عقلي كلما استطاع، وكأنه يسعى ليُرمم حكايتها المليئة بالفجوات، مثلًا، هل بدأت الدورة الشهرية لدى تيتة قدرية قبل أن تتزوج؟ ومتى توقفت عن مناداة زوج أختها السابق، "آبيه"؟ 

تجنبت سؤال أمي عن كل ذلك، خشية أن أعرف عنها أشياءً تدفعني لبكاءٍ أطول، وتزيد من قُبح ذاكرتي عن العائلة، ففي التسعينيات، كان سرد الحَكايا من الأهل، بالإضافة للصور، وشرائط الفيديو والكاسيت، ثم الأقراص المدمجة، هي الطريقة الوحيدة للوصول لأرشيف حياة شخصٍ ما، خاصةً إن لم يعد موجودًا بيننا، لذا الآن، ثمة منفذ خصب ودائم، لأن نعرف الكثير عن نساء أخريات راحلات سيتمددن بدورهن سريعًا تحت جلودنا.

المعرفة الوطيدة بعد الموت

في عصرنا الحالي، حين يموت شخصٌ ما، يرثيه الآخرون عبر حساباتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، قد يُضيفون لرثائهم صورًا ومقاطع فيديو، فنراه يتحدث، ويضحك، ويحدق بنا، وأحيانًا ينشرون عملًا مهمًا له أيًا كانت مهنته، فلا تنقطع صلته بعالمنا فورًا، ويبقى حيًا في خوارزميات الشبكة العنكبوتية ربما إلى الأبد. 

وهذا ما جعل حكاية علا أبو الشلاشل [2]، فريدةً في وجداني، فهي وكتابها نقط وخطوط، ظهرا لي من العدم إن كان يمكن إطلاق هذا الوصف على تايم لاين فيسبوك، كان نعيًا نشره أحد أصدقائها، مرفق إليه رابط لتحميل نسخة إلكترونية من كتابها الذي ترسم فيه مذكراتها، عبر مشاهد غير متصلة من يومياتها ومعايشتها للغضب والاكتئاب، حينها كنتُ أيضًا أصارع الاكتئاب والقلق وحدي دون معالج أو عقار يخفف وطأته على نفسي، ووجدت في كتابها ملاذًا، أتصفحه وأنتحب، رغم أن مافيه لا يدفع إلى البكاء، لكن خطوطها وصلت إلى قلبي بشكلٍ ما، إذ ثمة قصة وراء كل هذا، قصةً كانت هي خارجها، حياةً بعيدة عنها، تنظر إليها لكنها لا تنخرط فيها مثلي، وهو ربما ما شعرت أنه يمثلني. من وقتٍ لآخر، أتفقد صورة علا على حساب جوجل درايف الخاص بها، أثناء تحميل الكتاب، لذا عرفتها حين رأيتها في حُلمي مرة.

كانت عُلا في منزلنا القديم، تجلس فوق كرسي الصالون وفوق مسنده كوب شاي زجاجي، إلى جوارها جهاز التكييف الصحراوي الشهير في التسعينيات الذي يقطر خرطومه ماءً مهما حاولنا إصلاحه، كنت مدركةً في الحلم أنها عُلا، وأنني لم أعرفها في الحياة، لذا توقعت أنني ميتة، أو سأموت في وقتٍ قريب.

لكن هذا النوع من الأحلام، التي نعرف فيها أننا نحلم، تصفه عالمة النفس المختصة في علم النفس الموازي، سوزان بلاكمور، بـ"الأحلام الجلية" [3]، وفيها نفعل كل شيء مثلما كنا سنفعل حال اليقظة، ونمر بخبراتٍ عديدة كأننا نعيش في عالمٍ آخر موازٍ لكنه في عقولنا، هو واقع بالنسبة إلى أدمغتنا، لكننا بالطبع لا نفعله ونحن مُستيقظين، بشكلٍ ما، هذا يعني أنني بالفعل التقيت علا أو صورتها في عقلي، إن جاز التعبير. أن تعرف شخصًا عبر ذاكرة الآخرين، من منشور صديقٍ على فيسبوك في حالتي، ثم تحلم به/ا، حدثٌ مريب وجديدٌ بالنسبة لي، رغم إدراكي أنه إرهاصات عقلي الباطن، لكنني أفكر دومًا، ترى من يحلم بي وهو لا يعرفني؟

أُحب أن أفكر أن علا تعرفني أيضًا، ربما رأتني في حلم لها قبل موتها، أو أحلامها الآن، لكنني أُذكر نفسي أن الموت ليس نومًا، والموتى لا يحلمون. وتنتابني مشاعرٌ متناقضة حول هذه المعرفة غير العادية، الحزن أننا لم نلتق بالفعل في الواقع، والغبطة أن لا شيء مهما اعتقدناه سرمديًا يقف في طريق معرفتنا لبعضنا، أو بشكلٍ أكثر دقة، معرفتي أنا لها، ولقدرية، وأخريات. لكن، كيف يمكننا أن نصف علاقتنا بالقُرب نحو أشخاصًا نحن حقًا لا نعرفهم؟ وما أوجه المعرفة والغُربة بين الناس في العالم الآخر، أو في عقولنا على أي حال؟

إرث النجاة الثقيل

ربما أكثر ما يزيد معرفتنا بإنسانٍ ما، هو أن نمر بتجربةٍ مشابهة لما مر به، كأن نكن في المدرسة ذاتها، أو فيلق الجيش نفسه، وهو السبب الذي يجعل النساء تتناقل قصص بعضهن، وتمرِرنها لنساءٍ أخريات لاكتساب خَبرات حياتية، فنحن نعيش المصاعب ذاتها وإن اختلفت حدتها قليلًا تبعًا لحظوظنا ومكان ولادتنا، لذا ما يجمع بين راويات القصص أنهنَ ناجيات، وفي الوقت نفسه يعرفن المخاطر التي أصابت الأخريات، لم تنجو تيتة قدرية، على عكسي أنا وأمي وأختي مثلًا، إذ عشنا في المدينة وحصلنا على تعليم جامعي، ولم تنتهك طفولتنا، إذ تزوجت أمي بأبي وهي في الثلاثين من عمرها.

لذا تتراكم شخوص نساء عديدات في وعينا، يمرَّن بخاطرنا لسببٍ قد لا ندركه إلا بعد زمنٍ طويل، في حالتي، جزء من ارتباطي بعلا وقدرية، هو السير نحو المجهول، أي عدم معرفة أين سأكون في المستقبل، مثلهن ومثل نساء كثيرات، تقودنا الحياة إلى منعطفاتٍ كثيرة مفاجئة، اختارت علا موتها، أو الأصح أجبرها اكتئابها عليه، وقدرية أيضًا لم تختر موتها بالزواج إن كان يمكن تسميته زواجًا، بل سيقت إليه، وأنا مثلهما كامرأة رغم اختلاف حياتي عنهما، لا أعرف ما يخبئ لي المستقبل.

بالطبع قد تأتي المصائب على قدم وساق للجميع نساءً ورجالًا، لكن ما تمر به النساء في حياتهن وإن بدت أحيانًا مليئةً بالامتيازات هو خطرٌ وقمعٌ ممنهج، وعلى أغلب الأحوال تغيب فيه الفرص للنجاة، ولا يصمد كثيرٌ منا، ربما هذا ما يجمعني بهنّ في وعي، أنني قد أكون ضحيةً مستقبلية، وأحاول إدراك تلك الحقيقة وسط كل القصص المعبأة في رأسي.

صورة برخصة المشاع الإبداعي. maxpixel

 و تلك النقطة من الإدراك هي الغرض من الحكايات في الأساس، فهي الصلة بين الحكاية، والراوي، والمتلقي، تقول الطبيبة والمحللة النفسية كلاريسا بنكولا، في كتابها نساء يركضن مع الذئاب: الاتصال بقوى المرأة الوحشية، إن القصة هي توجيه مسار، للعقل والروح، والمستقبل في آنٍ واحد، لذا حين أرى فتاة تلعب مع أقرانها تزورني تيتة قدرية لحظيًا، لتذكرني بما سُلب منها وما نجت منه الفتاة، أُهدي لها أمانًا رغم يقيني أنه لا يصل، أعتقد هنا أن هذا سببٌ آخر لتلك الزيارات المفاجئة، تزورني علا وقدرية كي لا يفنيا أبدًا، هما في عقلي حيَّتان، وفي هذا النص، وسراديب دماغ من يقرأه. ببساطة، القصة هي النسخة البدائية للطاقة [4]، قصة واحدة  لفردٌ واحد بإمكانها إحراق قبيلة، و تلويث مدينة، وتبجيل شائعة، إذ تعود مشاعر القصة في ذهني إلى أسلافي في مكانٍ ما، هُنّ خائفاتٌ مثلي، وأمي من قبلي، ثِقلٌ في قلبي، يزيد مع كل حكاية، وهذا تمريرٌ حَذِق لأداة السلطة المجتمعية، ثقل الترهيب، كي نصبح نساءً أفضل من وجهة نظر المنظومة، والخائفون الآخرون.

وكالمعتاد حققت  الحكايات نتيجتها المرجوة، تنمو رواية القصة من تجربة الراوي الجديد [5]، نمت أمي من القصة ونموت أنا بالتبعية منها، ناجيات ربما، ولكن النتيجة النهائية للقصة منقوصة، أين قدرية وعلا مثلًا الآن؟ متى تعود  النسوة الحزينات حقًا إلى الحياة؟

هن قد تخفت ذكراهن وتفنى، رغم أنهن سيعشن طويلًا، بسبب حفيداتهن النسوة شبه السعيدات، مثلًا في عائلتي، وأزعم أنه في معظم العائلات، النساء لديهن ولع بالنسوة الحزينات، وبعضٌ من نشوة لتكرار حكاياتهن بالقول والفعل أحيانًا، كأنهن يستنكرن؛ كيف حياتهن أفضل حالًا من حياة من رحلوا، ثمة خطأ بالتأكيد إذ من الواجب أن تصيبهن اللعنة أيضًا، لا يواسيهن  مصائبهن المختلفة، والإرث المهيب للأذى الذي تأملن التحرر منه، والتعافي الذي تحاولن عيشه، يجلدن أنفسهن لأنهن نجوا حينما مات الجميع، و بدا لي الآن أنني أيضًا أجلد نفسي لنجاتي عبر كتابة هذا النص. 

تضامن الناجيات معًا يظهر في بقاء حياة الراحلات في عقولنا، وهو ما يشرحه لنا الدكتور نادر كاظم في كتابه [6] استعمالات الذاكرة في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ، أن الناجين، يشعرون بالامتنان أنهم لا يزالوا على وجه البسيطة لكنهم أيضًا يشعرون بالذنب، وهو ما يجعلنا نحاول الإبقاء على وجودنا فقط، والاحتفاء بتلك المعجزة، والسير في الطرق التي تضمن بقاءها  وإتمامها، رغم إدراكنا بأن محاولة الاستمرار في الحياة فقط ليست حياةً من الأساس، لكننا مثل كل الناجين، بعد الحوادث على شتى اختلافها، نؤمن أن ثمة معجزة أخرى كالتي أنقذتنا قد تتم لا محالة لضمان النجاة من شبه الحياة تلك، وهي دائرة محكمة لا رحيل منها. الثقل الخارجي المتمثل في النجاة التي قد تكون جماعية، يتحول إلى داخلي ويصبح فرديًا موحشًا بمرور الوقت، ويضيف وسوسةً دائمة إلى حياتنا، ثمة صوتٌ داخلك يريد أن يجعلك مُستحِقًا لتلك النجاة ويؤنبك إن حِدت عن توقعات الصلاح والجد ولو قليلًا.

 رغم أن الجميع يستحق النجاة ينظر عقلك إليك بحدة أن لا، النجاة مسؤولية، هذه الوسوسة الناتجة عن الذنب ربما من تلقي بقدرية وعلا في لحظات حياتي بشكلٍ مستمر كنت أراه عشوائيًا في الماضي، لكنه أبعد ما يكون عن ذلك.

نفوذ الذاكرة على عقولنا

يبدو فعل التذكر وسكون الأشخاص الذين نجهلهم على أرض الوقع في وعينا لا إراديًا، وعشوائيًا، وربما وهميًا، لكن ما نتذكره هو نسخة عما نعتقد أننا نعرفه، وفي حالتي هي نسخةٌ ربما أصيلة أكثر من الأصل ذاته لأنها غير مقترنة به بشكلٍ مباشر، فأنا لم ألتقِ أيًا من علا وقدرية من قبل.

 وحين نحاول تفكيك الذاكرة فلسفيًا، نجد فلاسفة المدرسة التجريبية [7] يصفون تجربة التذكر أنها نسخة أولى عن الإحساس، ويشبّهون الذكريات بضيوف نستدعي نحن بعضهم، أما الآخرين فيدعون أنفسهم رغمًا عنّا، ونحن من عليه القبول أو الرفض، أعتقد هنا أنني رحَّبت بدعوة علا وقدرية، واستضفتهما في خزانة عقلي أمدًا طويلًا دون أن يكون بيننا معرفة كافية، لا شيء سوى الثقة والرغبة في القبول والسُكنى.

ومثلما قد يتساءل أحدهم الآن، لم لا يكون وجودهما مجرد خيالات في عقلي؟  وكيف نعرف الفرق بين الخيال والذاكرة؟ [8] حسنًا ثمة فرقٌ طفيف، رغم أن كلاهما وجهين لعملةٍ واحدة، فحين نتذكر الماضي نحن نراه بعين الخيال، ها أنت تشُم عطر عناق أمك، ويُشكل عقلك صورة وجهها وعينيها، تندمج الذكرى والخيال معًا، الفيصل في ذلك كله قدرتك القوية على الشعور، والإدراك لكل ما هو حسي رغم غيابه، و فارق الزمن بالطبع.

أي أن سبب فعل التذكر، هو كينونتك أنت وعقلك على وجه الخصوص، بكل تاريخك الشخصي، ربما تبدأ تشكك في نفسك، وفي ذاكرتك، لكن بحسب برنارد راسل [9] هذه ليست هلوسة، أو محض خيالات، فمن الحتمي  وجود شروط الذكرى، وهي الألفة نحو ما ترى في عقلك، والإحساس بفقده وانقضائه، وتلك العناصر تتوفر في مشاعري نحو ذكرياتي مع قدرية وعلا ونسوة أخريات أيضًا.

أعتقد أن وجود تلك المشاعر عن الذاكرة لدى أخريات، هي اللبنة الأولى للذاكرة الجمعية نحو الأحداث والشخصيات المؤثرة في عقولنا، يقول الفيلسوف الفرنسي موريس هالبفاكس [10] إن ذاكرتنا الفردية هي وجهة نظر حول الذاكرة الجمعية، وتتغير بحسب موقعنا في الحياة، لهذا السبب لم تتغير نظرتي إلى حكاية قدرية، منذ كنت طفلة حتى الآن، فأنا لا زلت في الموقع ذاته، أخشى مصائب الحياة وإن تقدم بي العمر، أرى نفسي أندمج معها وهي تلعب أمام المنزل، أتلقى الصدمة معها وهي تدخله وتعرف أنها ستتزوج اليوم، بذلك تسكن تلك الذكرى عقلي، وعقول أفراد العائلة، والمجتمع أيضًا الذي اعتاد زواج الاطفال بشكلٍ ما في أفراده السابقين الذين رحلوا كما رحلت قدرية واختفت ذكراها وذكراهن من الواجهة، لكنها لا زالت في واجهة عقلي أنا ومن حكيت لهم حكايتها وأصبحت ضمن ذاكرتنا الجمعية في العائلة سواء اعترفنا بذلك أم أنكرناه.

لكن، لنفترض أننا يمكننا التواصل مع علا وقدرية الآن، ترى هل ستشعران بالسعادة حول الطريقة التي نتذكرهما بها؟ أم لن تكترثا بالتفاصيل سيكفيهما أنهما لم تموتا في عقولنا بعد؟ 

حول عدالة الذاكرة

يشير المؤرخ الهندي، راناجيت غُها [11] إلى أن ما يبعث قدرية وعلا وحكايتهما الى الحياة هو اتصالهما بي، بتجربة حية، وشخص حي، يصبح ماضيهما ماضيَّ أنا أيضا فأنا أتذكرهما وأسترجع حياتهما، لكنني حين أُفكر أين موقعهما بالضبط من حكايتي، أدرك أنهما أصبحا جزءًا من سرديتي، لكن بشكلٍ حزين، أو في قائمة التوعية والتحذير في عقلي أن لا يصيبني ما أصابهن، وهو أمرٌ أراه غير أخلاقي، جُريمةَ يغفل عنها الجميع، ولا أرضاها لنفسي حين أصبح مكانهن يومًا ما.

فبالطبع لم تكن علا فقط فتاة كتاب نقط وخطوط، ورغم أنني عرفت عنها الكثير عن نشاطها الحقوقي والنسوي، لكن لا زال كتابها هو ما يتصدر ركنها في ذاكرتي، وقدرية ليست مجرد الطفلة التي تزوجت أرمل أختها، هما أكثر من ذلك في حياتهما وعلاقاتهما وأثرهما على العالم، لكن ذكراهما وصلت لي منقوصة ومحددة بخطوطٍ عريضة صادفت أن تكون المصائب، فما هو المباح في تذكره عنهما؟  وكيف يمكنني أن أحمي هوية علا وقدرية في عقلي؟ ولا أعرفهم فقط بتلك السردية التي وصلت لي؟ لا توجد إجاباتٌ لتلك الأسئلة، لذا أحاول بتروٍ ألا أحسم هويتهما في عقلي، أن أمنعه التلاعب بسردية وإرث شخصيات غير موجودة الآن، لا يمكنهن الدفاع عن تاريخهن و تثبيت صورتهن التي يريدون في أدمغة الآخرين. لكن، أليست  تلك هي الذاكرة الفردية، النقطة التي يتقاطع فيها العام مع الخاص ويصبح كيانًا جديدًا خاصًا بصانعه لا بأصله؟ ترى أيعد هذا شرفٌ أم امتهان؟ أن تعطي لإرث الأشخاص في عقلك غرفة؟


اقرأ أيضًا: الأحلام الواضحة: عندما تكون أنت الراوي

 


يبدو لي أن الأمر هنا أكثر من مجرد إرث، ثمة مشاعر حدادٍ أيضًا نحوهن، حول تاريخهن رغم أن أكثره غائبٌ ومجهول بالنسبة لي، وهذا ما يتحدث عنه عالم الإنسانيات، بول ريكور [12] عن الفرق بين الأحداث التي تنتمي إلى تاريخنا وتاريخ الآخرين، حياة الآخرين التي وصلت لي عبر القصص والتعايش معها، تنتمي إلى تاريخي، أما قصتي الشخصية سيغيب الكثير منها في عقلي بسبب نسيان ذاكرة الطفولة والشيخوخة مثلًا، فتصبح حياتي من البداية للموت، لا تنتمي لتاريخي أنا بل لتاريخ الآخرين، من سيموت بعدي، وبالطبع ستكون فصلًا منقوصًا في هويتي وسرديتي أنا، إذ ليس بالضرورة أن يأخذ الآخرين بعين الاعتبار الأحداث التي تحب عن نفسك أو تراها مصيرية لتكون مايتذكره عنك، ويبدو هذا لوهلة قصاصًا عادلًا لكل من لم يُنصف في ذاكرتي، فها أنا أيضًا لا أُنصَف في ذاكرة الآخرين.

 كنت أتمنى أن نلتقي يومًا ما أنا وقدرية وعلا وبقية النساء في عقلي، على أرضٍ خضراء، نتبادل كل تلك الخبرات وجهًا لوجه، ونتسامر، لكنني أدرك أننا نلتقي فقط داخل وعي الباقيات المحظوظات منا، من تستثير الحكايات أوجاعهن، وصدماتهن، من تدربهن القصص على شقاء الحياة، وتساعدهن في تأويل وفهم وتنظيم حياتهن الحالية.

ها نحن نحاول التنفس [13]، ونبحث عن المعنى في حكاياتٍ أخرى، نستجير بها استدعاءً للمساندة، تلك المعونة تخفف من قلق السير نحو المجهول، والموت الذي نترصده، وهو عزاء كبير لي، ولأخريات، أن علا وقدرية، حاولا صنع السعادة، والكفاح، والعيش، رغم الصعاب التي لا نعرفها عنهما بالكامل، وربما لهذا السبب قررت أن أشارك جزءًا من حكايتيهما لآخرين، لتبقيا في الذاكرة لأطول وقتٍ ممكن، ويتعرف إليهما كثيرون عن قرب، لربما تزوركم إحداهما في منامكم ليلةً ما.


1- قدرية، اسم مستعار حماية لخصوصية جدتي الراحلة. 2-علا أبو الشلاشل، فنانة بصرية، وناشطة نسوية وحقوقية، ومحررة مصرية، رحلت عن عالمنا في 25 سبتمبر، عام 2017. 3- كتاب الوعي، سوزان بلاكمور. 4،5- كما تصفها كلاريسا بنكولا في المصدر السابق ذاته. 6-د.نادر كاظم، كتاب استعمالا الذاكرة في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ، الفصل السادس: الناجون والشعور المزمن بالهشاشة. 7-كتاب الذاكرة في الفلسفة والأدب - ميري ورنوك. 8،9-المصدر السابق. 10-كتاب سوسيولوجيا الدين مقاربات كلاسيكية- دراسة الذاكرة الجمعية. 11-كتاب التاريخ عند نهاية التاريخ العالمي. 12، 13-كتاب  الذات عينها كآخر.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.