تصميم: يوسف أيمن- المنصة

الموسيقى السينمائية: عندما تعزف صوت الريح

منشور الاثنين 29 نوفمبر 2021

في لقاء تلفزيوني؛ يحكي المؤلف الموسيقي راجح داوود أنه واجه اتهامات من النقاد مع بداية عرض فيلم الكيت كات، لأنه استخدم آلات لا تشبه المكان والبطل، تحديدًا آلة الأرغن. عن ذلك يقول الموسيقار "كانت الناس معتادة عند مشاهدة حارة شعبية على سماع أكورديون وناى، وعندما يشاهدون منزلًا أرستقراطيًا يسمعون صوت بيانو".

يحاول راجح دائما كسر القاعدة، بالبحث عن بُعد ثالث داخل الأعمال التي يصنع موسيقاها. هناك شيء أعمق من الحوار والتمثيل على الموسيقى أن تظهره لتكتمل الصورة والحكاية، أو كما يشرحها راجح "إذا كان المخرج جعل الأعمى يقود موتوسيكل، هل هناك فى الواقع أمر كهذا؟ بطل يتحدى عجزه وينتصر عليه، فلماذا لا أتحدى الجميع وأستخدم الأرغن فى الموسيقى؟".

أدركت السينما منذ البداية أهمية الموسيقى داخل عوالمها، وأدركت الموسيقى أهمية اثبات حضورها وفرض تأثيرها، وبدأ اتفاق غير رسمي وغير محدد البنود، لأن ما يمنحه كلاهما للآخر لا يلتزم بحدود. أفقٌ واسع، وسهم منطلق في مسارات عدة، فلا مجال لتفسير واحد وتعريف وحيد للعلاقة والمساحة التي يعبرا عنها معا، أبعد حتى من مقاصد الرواد، لأن كل فرد يمنحها تفسيرا من وجهة نظره ورؤيته وأحاسيسه الخاصة.

يقول بيكاسو "إذا كانت هناك حقيقة واحدة فقط، فلن تستطيع رسم مائة لوحة فنية على نفس المنظر"، ويستكمل داوود حكايته "في مشهد الشيخ حسني وهو يقود الموتوسيكل في الحارة، يقهقه الناس، وعندما تدخل الموسيقى تحدث صدمة. يصل المعنى ويكف الضحك". ثم يعود بيكاسو ليحكي أن في صباه باع لوحة لمتعهد ضمها لمعرض جماعي، وعندما حضره وجد خمسة يحيطون باللوحة، يتبادلون الرأي فيها والتحليل، كلٌ يناقش مضمونها من وجهة نظره بعمق وإصرار، حتى نشب خلاف. وقتها، اخترقهم بيكاسو بهدوء ووقف جوار اللوحة، وأخبرهم بابتسامة خفيفة "هذه لوحتي.. وفي الحقيقة رسمتها هكذا" وأدارها 180 درجة، بحسب كتاب أينشتاين - بيكاسو (المكان والزمان والجمال الذي ينشر الفوضى) لـ آرثر آي. ميللر.

 

اختصرت الموسيقى طريقًا طويلًا على السينما لشرح وتبرير كل شيء، ويؤكد على ذلك مارسيل مارتن، المنظّر السينمائي وصاحب كتاب اللغة السينمائية أحد أهم الكتب التي تناقش أدبيات السينما، قائلًا "الموسيقى هي أبرز هدية للسينما، لأنها تؤثر على الحواس وتخلق جوا سيكولوجيا قادرًا على مضاعفة قابلية المتفرج لتلقي الإحساسات عشرات المرات".

على الجانب الآخر، انتصرت السينما للموسيقيين والعازفين والأوركسترا بتجاوز حدود المثقفين والعارفين بها، والوصول إلى الجميع، لأنها من وجهة نظر برنارد هيرمان ي، أحد مشاهير مؤلفي الموسيقى للسينما، في قوله الذي يذكره أحمد الحضري في مقالته (موسيقى الأفلام السينمائية) بمجلة الفنون العدد 58، عام 1995 صفحة 66: "إن الموسيقى باتت تصل إلى الناس عاطفيًا وتربطهم بطريقة غامضة بما يحدث على الشاشة، إنه الرباط الذي يجمع البلاغة والجمهور ويمتد ليحيط بكل شيء في تجربة واحدة".

علاقة تكاملية، متعددة الاتجاهات، لدرجة تدفع الجميع الآن لتأكيد استحالة تصور فيلم بلا موسيقى تصويرية تعبر عنه، لكي تصل المشاعر كاملة والتعبيرات مكتملة، حتى في لحظات الصمت، لأن الموسيقى بإمكانها أن تنقل شيئا إلى المتفرجين بسرعة لا يمكن أن تعبر عنه الحركة ولا الحوار.

يصف الموسيقار هاني شنودة، في أحد البرامج التلفزيونية، كيف يمكن للموسيقى أن تخلق حوارا مع المشاهد دون أن تنطق بكلمة، ويضرب مثلًا بسيمفونية موتسارت رقم 40، بأنها من وجهة نظره ليست مجرد مقطوعة، إنما تجسيد لنقاش جدلي بين فردين "واحد بيسأل سؤال، والتاني بيرد عليه" بما يتناسب تماما مع حركة وإيقاع الموسيقى، مؤكدًا "إحنا بنتكلم على فكرة" قاصدًا لغة الموسيقى، في تعبير يشبه كثيرًا جملة قالها جون ويليامز، أحد أعظم مؤلفي الموسيقى التصويرية، بحسب الجارديان "أعتبر نفسي مؤلف أفلام"، لذلك حينما قرر أن يضع موسيقى لـ فيلم ET لم يكتف بالحوار المكتوب، وتعامل بشكل أساسي مع "الجانب الإنساني غير اللفظي" في عالم كائن لا ينتمي إلى كوكب الأرض، لا يتحدث لغة معروفة، ولا يمتلك قدرة تعبيرنا البشري، وبالتالي "الأمر لا يتعلق بحركات الجسد، ولا يتعلق بتعبير اللغة، بل يتعلق بشيء روحي". وكانت النتيجة واحدة من أعظم مؤلفات الموسيقى السينمائية، والتي نال عنها جائزة الأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية.

 

حاول شنودة تقمص شخصية موتسارت في موسيقى فيلم المشبوه، مؤكدًا "أنا عملت التساؤلات اللي شوفتها في الفيلم بلا إجابة "الراجل ده هل هايتوب؟ هل الحب هايغيره؟ هل الضابط هايعتقه؟". وفي فيلم شمس الزناتي ارتدى عباءة ويليامز وبدأ موسيقاه بجملة لحنية "استعجابية"، على حد تعبيره، تلخص فكرة الفيلم من وجهة نظره "كيف يمكن لسبعة أشخاص أن ينتصروا على جيش كامل".

 

يؤكد أيضًا على هذه العلاقة بين الموسيقى والسينما، تزاوجهما منذ عصر الأفلام الصامتة. وقتها، كانت الموسيقى عنصرًا أساسيًا في كل فيلم قبل الصوت والكلمة، حيث كانت دور العرض في البداية تستأجر بعض العازفين على الآلات المختلفة والبيانو ليعزفوا أثناء العرض موسيقى تناسب المشاهد، تترجم مختلف الأحاسيس وتعمق الخط الدرامي "الصامت" الذي تدور على محوره الرواية.

يقول أرنست لندجرن، في كتابه فن الفيلم "على الرغم من أننا قد اعتدنا أن نطلق على الأفلام التي أنتجت قبل عام 1927 اسم الأفلام الصامتة، فإن هذه الأفلام في الواقع لم تكن أبدًا صامتة بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، فمنذ البداية اعتبرت الموسيقى عنصرًا جوهريًا لابد وأن يصاحب هذه الأفلام، ومن الثابت أنه عندما عرضت أفلام لوميير لأول مرة في إنجلترا، فبراير 1896، كان يصاحبها عزف لأنغام شائعة على البيانو، وفي البداية لم تكن هناك صلة ما بين الموسيقى التي تعزف والأفلام التي تعرض، وكان يكتفى بأن يصحب العرض موسيقى من أي نوع كان. إلا أنه لم يكد يمضي وقت قصير حتى بدا واضحًا أنه لا يمكن أن ينسجم عزف موسيقى حية صاخبة مع فيلم هادئ رزين؛ ومن هنا بدأ عازفو البيانو يهتمون باختيار المقطوعات الموسيقية المناسبة لجو الفيلم".

في مصر، لم يختلف الوضع كثيرًا، إذ كان تاريخ دخول الموسيقى إلى السينما متزامنا مع تاريخ أول عرض سينمائي في مقهى زاوني بالإسكندرية، أوائل عام 1896، ثم توالت المحاولات بعد ذلك بعمل الأفلام القصيرة، وكانت هذه العروض تصاحب أحيانًا بعزف على البيانو، إلى أن ظهر أول فيلم صامت طويل، باسم ليلى من إنتاج عزيزة أمير عام 1927، وكانت الموسيقى المصاحبة مختارة من أسطوانات، بحسب كتاب قصة السينما في مصر الصادر عن دار الهلال، تأليف سعد الدين توفيق.

وفي عام 1930، عرض فيلم زينب بطولة بهيجة حافظ، التي وضعت أيضًا موسيقى الفيلم، وكانت مكونة من اثنتي عشرة مقطوعة لآلة البيانو، كل مقطوعة تصف مشهدا معينا، وقد قام بتوزيعها المؤلف والموزع الموسيقي الإيطالي بورجيزي، كما قاد بنفسه الأوركسترا المصاحب للعرض الأول في سينما أولمبيا، وتسجيل الموسيقى على أسطوانة بعد ذلك، للاستعانة بها في العروض التالية، بحسب إشارة دكتور إيهاب صبري، في كتابه فن الموسيقى السينمائية، والذي يؤكد أن "هذه أول محاولة لوضع موسيقى مؤلفة خصيصا لفيلم مصري طويل"، وتوالت بعدها الأعمال والتجارب المشتركة.

 

هكذا؛ نشأت لغة جديدة، عرفت بعد ذلك بالموسيقى السينمائية أو التصويرية، والتي لم تكتف فقط بالآلات والنغمات لتشكيل مفردات لغتها، بل بدأت تتأثر بمفردات الصورة، ولغة السينما، وحولت كل شيء في المكان والزمان إلى آلة يمكن أن تخرج منها موسيقى، لتكون جزءا من مقطوعة. صخب الزحام، أبواق السيارات، طرق الأبواب، إيقاع الخطوات وغيرها. كل شيء دون مبالغة، حتى صوت الريح، على طريقة هانز زيمر، الذي يؤكد دائما أن "أي شيء يمكن أن يصبح صوتًا موسيقيًا"، ففي موسيقى فيلم Dune الأخيرة التي استغرق عاما كاملا في تحضيرها، قضى أسبوعًا في ولاية يوتا من أجل ضبط صوت الصحراء، قائلا بحسب صحيفة نيويورك تايمز "أردت أن أسمع صوت الريح".

 

كتابة الموسيقى لأي فيلم، لم تعد مجرد عملية تدوين لنوتة موسيقية تعزفها آلات، بل تجسيد كامل لعالم مليء بالأحداث والمشاعر والحركة، ورغم أن ذلك ما تمارسه الموسيقى بالفعل منذ اختراعها في خيال مستمعيها، إلا أن السينما جعلته مرئيًا ومجسمًا، ولأسباب كتلك، وغيرها، يمكن أن تستنج لماذا اختار الموسيقار الراحل عمار الشريعي، لبرنامجه سهرة شريعي شعار "إزاي تشوف الموسيقى"، ولماذا يؤكد الممثل الأمريكي ديف أتيل، أن "الموسيقى التصويرية تشبه مشاهدة الفيلم مرة أخرى، ولكن بأذني" ولماذا يتجه الموسيقيون الآن، وبعض شركات إنتاج الأسطوانات إلى تسجيل موسيقى الأفلام، سواء كانت من النوع السيمفوني أو الغنائي وغيرها، لبيعها في أنحاء العالم.