حكايات الغريب- رسم: هشام عبد الحميد المنصة

عين شمس 1995| البحث عن البطولة (2)

منشور الاثنين 24 يناير 2022

هذا هو المقال الثاني من ثلاثية تستعيد بعضًا من التاريخ السياسي والثقافي الذي شكل وعي اليسار من جيل التسعينات.


تعرفت في مدريد نهايات 2002 على أحد أعضاء البرلمان الأوروبي من حزب الخضر، خلال عشاء في منزل ابن سياسي اشتراكي شهير. بعد العشاء، ومع بداية استرخاء الأجواء، في هذه المرحلة التي يبدأ فيها الحاضرون بالبوح وفقدان التحكم الكامل في المعلومات التي يقدمونها أمام الغرباء، حكى البرلماني الأوروبي أنه يكسب أموالًا مما أسماه حرفيًا "بيع الأكسجين للكرة الأرضية".

استوقفنا التعبير، سألناه، فحكى أنه مشروع تابع للبرلمان الأوروبي، يستهدف تشجيع البرلمانيين على شراء مساحات من غابات الأمازون، ويدفع لهم الاتحاد الأوروبي ما يشبه الراتب الشهري الإضافي؛ المقابل الوحيد المطلوب من البرلماني هو ألا يبيع هذه الأرض أو يستثمرها، هو بهذا المعني، وبمجرد احتفاظه بها مقابل الراتب الشهري، يبيع أكسجين للكرة الأرضية.

كانت على وجهه ابتسامة رضا عن نفسه لم أعرف سببها. لكننا كنا نعرف ليلتها أنه ينوي الترشح في الانتخابات البرلمانية الإسبانية، وأن يعود للاستقرار في مدريد بعيدًا عن بروكسل وطقسها البارد، وكنا نعرف أيضًا أن هدف العشاء المبهم، أو الذي ظل مبهما، هو أن نصطف معه في معركته الانتخابية.

بعد هذا اللقاء بشهور قليلة، تقدم فعلا للترشح وبدأ حملته بمعاونة بعض من كانوا حاضرين للعشاء، كان حريصًا في أغلب الصور التي تلتقط له أن يظهر متكئًا على جذوع أشجار في أماكن عامة، ساحات وشوارع مدريدية، وستجده دائمًا يترك مكانًا في خلفية الصورة ليقف وراءه شخص إفريقي أسود البشرة. خسر الانتخابات.

استدعت ذاكرتي فيلم موسم الحرق، وبطله شيكو ميندز ليلة العشاء. لم تحدث هذه الاستعادة بسبب منطق التداعي البسيط المتمثل في اقتحام غابات الأمازون للحوار، بل لأنها كانت المرة الأولى التي أجلس فيها مع سياسي أوروبي "معارض" من داخل المؤسسات الرسمية. فتذكرت الحملة الانتخابية لشيكو ميندز في الفيلم، وحملات بعض السياسيين اليساريين المصريين ممن كنا نخوض إلى جوارهم معاركهم الانتخابية السياسية في النصف الأول من التسعينات.

كان بعضهم يشبه هذا السياسي، وهؤلاء كان فوزهم محتملًا، وكان بعضهم الأخر، لحسن الحظ، يشبه شيكو ميندز. وهؤلاء من ذلك النوع الأخير كانوا يخسرون غالبًا الانتخابات مثلما خسرها النقابي البرازيلي المقتول، وليس كما خسرها البرلماني الأوروبي.

***

كان السؤال التقليدي، الذي ظلل كسحابة، وخلال عقود طويلة، كل الاجتماعات الأولى التي يجريها المرشح من اليسار المصري مع داعميه الأقرب، هو هل نخوض الانتخابات للفوز؟ أم نخوضها كفرصة لتحويلها إلى معركة سياسية في الشارع؟

لم تحسم أبدًا الإجابة في تلك الاجتماعات، ولم تمطر هذه السحابة طرقًا جديدة لحل المعضلة، بل بقيت حاضرة على الدوام خلال المعارك الانتخابية كمحور للصراع الأساسي بين المشاركين فيها، فيحاول كل طرف أن تكون الإجابة العملية لصالح تصوراته.

من يقرأ هذا النص الآن سيستنتج بسهولة إجابة ذلك المرشح اليساري التي ستتراوح بين المنطقين، منطق الفوز ومنطق خوض المعركة السياسية، وسيعلم جيدًا أن الطلاب والشباب اليساريين من أمثالنا وقتها، لا يمكن أن يكونوا شعروا أبدًا بالارتياح تجاه إجابات المرشحين، وسينحازون بوضوح لطريق خوض المعركة السياسية، التي كلما سخنت وأصبحت أكثر صدامية، كلما انتصرنا سياسيًا، ولو في منطقة مجازية يتم تلخيصها بجملة "قلنا كلامنا في الشارع والناس سمعتنا"، وهي الحالة نفسها التي يقاربها فيلم موسم الحرق، ما بين طموح شيكو ميندز للفوز، حتى يستطيع إحداث التغيير كسياسي من داخل المؤسسات، وراديكالية بعض الشباب المحيطين به، وعدم مبالاتهم بالنتيجة التي ستخرج من صناديق الاقتراع. ودون أن نقوم بأي قفزات زمنية مستقبلية، لكن من يقرأ هذا النص الآن لابد وأن يتذكر أيضًا جملًا من نوعية "الثورة في الشوارع وليست في اللجان الانتخابية" لعام 2011.

***

يجتمع شيكو ميندز ورفاقه وداعميه في غرف فقيرة، دون دعم مالي، وبجهودهم الذاتية يوقفون الناس في الشوارع والأسواق للحديث معهم، لإقناعهم، ولتوزيع أوراقهم المطبوعة طباعة سيئة ورخيصة، وهي نفسها أجواء المعارك السياسية التي شارك فيها جيلي من اليساريين، خلال النصف الأول من التسعينات.

كنا ننفر من الحملة الانتخابية التي تظهر فيها مصادر للتمويل، نشعر بأنها معركة مريحة، ستتنازل عن السياسة لصالح ما يسمي بـ"التربيطات السياسية"، وإن أتت الأموال من حزب التجمع فهناك أسباب إضافية للقلق من الثمن السياسي الذي ينبغي دفعه، نبحث عن أجواء الدفء والتقشف، والتعب المكثف طيلة أسابيع، محاولين استعادة أجواء لم نعشها.

لم يكن وعينا مؤسسًا بوضوح على السلمية، ولم يكن في المقابل مؤسسًا على عنف الثورة التي كنا نتطلع إليها. كانت خيالاتنا عما نطمح إليه مضببة بدرجة كبيرة. كانت تشغلنا هذه الأسئلة المتعلقة بالعنف الجماعي والسلمية، لكنها كانت مؤجلة الحل، تتراوح وتتغير أحيانًا وفقًا لسخونة اللحظات التي نعيشها، وليس بناء على الوعي الذي يتطور.

 

فاروق الشرنوبي بصحبة عوده- الصورة: أرشيف الإنترنت

جاء فيلم شيكو ميندز ليحل المعضلة مؤقتًا، فبينما ننجذب لقصة حبه مع فتاة تصغره بأعوام كثيرة، وتنتمي إلى أعمارنا تقريبًا وقتها، ننجذب أكثر لما يحيط بهذه القصة من أجواء دفء نضالي لمن اختاروا السلمية، لأجواء تستدعي لدينا بعض الحكايات العابرة عن جيل السبعينات، عن فترات الهرب من ملاحقات الشرطة ودفء الحركة اليسارية حينها، عن التنظيم الذي أسس شبكة واسعة من الشقق السرية ليتمكن أعضاءه المطاردون من الهرب لفترات طويلة بانتظار "اللحظة الثورية الحاسمة" بألف لام التعريف، عن الحفلات السرية التي يغني فيها الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وتسجيلات لفاروق الشرنوبي تنسب لتنظيم شيوعي سري، وهو يغني علي العود "لكن بكرة.. أكيد بكرة.. أكيد ليكي وهانغني.. لكل الناس.. بكل حماس.. ونزرع في القلوب زهرة.. ونجزر رقبة الحراس". وبينما يتحول المغني أول التسعينات لملحن شهير لأعمال تجارية، كنا نتمسك بزمنه الأقدم، بتسجيلات يخاطب فيها عادة الناس مباشرة، أو البلد بأكمله، محملًا بوعود لا يمكن أن يتضمنها أي برنامج سياسي.. "يا مصر يا أم الغلابة.. سجن الديابة ورق.. زي القصور المهابة.. في الثورة راح تنحرق". بينما في الجامعة، إن احتشد مجرد العشرات ممن يأخذون المصروف اليومي من أهاليهم حول مجلة حائط ليستمعوا لأحدنا لمدة دقائق، كنا نشعر بالانتصار.

حتى الإشارة المبهمة في فيلم موسم الحرق للاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، الذي كان يمثل لنا نموذجًا يصلح كطريق دون أن نتمكن من تحصيل معرفة حقيقية عنه، مست وترًا آخر لمشروع تم إجهاضه قبلها بسنوات، قبل دخولنا للجامعة، وتتحدث عنه الأجيال الأقدم باقتضاب وتكتم، وهو التنظيم الشيوعي المسلح لأحمد التوني وأحمد سيف.

***

المزاج الساخن في واقع رتيب، الذي يسعي لاستدعاء أجواء حقبة انتهت قبلها بعقد ونصف، هو ما يفسر تفضيلاتنا السينمائية المصرية المشار إليها سريعًا في الحلقة السابقة، فسنجد أن عبد الرحمن الأبنودي يقول في أغنية من أغاني فيلم البريء "الدم اللي في إيديا.. بالليل ينده عليا.. ويقوللي قتلت مين؟".

كانت للأبنودي سطوة على بعض أفراد جيلنا بسبب بعض مفرداته المباشرة، التي تعكس أجواءً بعيدةً عن حياتنا اليومية وقتها، مثل تعبير الدم الذي بين يدي البطل أحمد سبع الليل، هذه السطوة "الأبنودية" كانت تتبدي أكثر خلال التظاهرات في الجامعة، حيث تقرأ دائمًا أحد قصائده المباشرة، وبالذات قصيدة المتهم "حبيبتي وإن يسألوكي/ قولي مسافر بعيد/ رايح يقابل العيد/ على قلعة فوق الجبل/ ولا في سجن جديد". والصدفة الملفتة للانتباه الآن أن هذه القصيدة تحديدًا كتبت عند مقتل السادات، تمجيدا لـ"البطل" الذي قتله، وهي اللحظة نفسها التي شكلت بداية رحلة الختام لدى الجيل الذي نحاول استرجاع أجواءه.. جيل السبعينات اليساري.

الدم المشار إليه في أغنية فيلم البريء، والقلعة اللي فوق الجبل، والسجن، والموت داخله مثلما يرد في قصيدة المتهم، هي مفردات أليفة بشكل غريب تتكرر في هذا النوع من الأفلام والأشعار والأغاني التي شكلت أحد أوجه ما يمكن تسميته بـ"نغمتنا النفسية" وقتها. فالواقع الحقيقي كان واقعًا فاترًا، ليس ببارد حقيقة، ولم يكن ساخنًا؛ كان واقعًا لا ينبأ بأي شيء سوى أن الملل قادم، وأتى فعلًا في السنوات العشر اللاحقة، أكثر سنوات حكم مبارك مللًا ورتابة وتصحر، بداية من 1995 وصولًا لـ2005.

ولأننا كنا نستشرف هذا الملل دون أن نعي ملامحه القادمة، ودون أن نملك وسائل فعالة لمقاومته أو تأخير وصوله، كانت سطوة الأبنودي تتراجع إن لم نكن في المظاهرات، لتحتل مكانه أغاني محمد منير، ونجم والشيخ إمام، ومارسيل خليفة، وأشعار محمود درويش وأمل دنقل، دون تجاهل غضب مظفر النواب في قصائده الأكثر مباشرة، فجميعنا حفظ قصيدته القدس عروس عروبتكم، وكنا نرددها بنشوة ممزوجة بألم عذب، وبالذات مقطعها الذي يتضمن سباب "أولاد القحبة". وكانت السينما التي نختارها هي المناسبة أيضا لذلك "التون" النفسي، بكل تناقضاته.

***

 

بوستر فيلم ديك البرابر- الصورة: موقع السينما

سيكون من قبيل الاستسهال أن نأخذ فيلم محمد عبد العزيز آه وآه من شربات المنتج عام 1991، والمعروض في بدايات عام 1992، كعنوان للسينما المصرية المنتجة خلال مرحلتنا الجامعية. فالسينما المصرية وقتها كانت تعيش مرحلة تنوع، وهذه الميلودراما للأب الذي يكتشف الحقيقة عبر الصدف لم يمكن لها أن تستهوينا، مثلما لم نكن لنهتم بمشاهدة المشاغبون في نويبع 1992 لناصر حسين، أو ديك البرابر لحسين كمال من إنتاج العام نفسه.

لم تكن لتستهوينا كذلك أفلام عادل إمام حتى وإن تجملت ببعض الجدية على يدي شريف عرفة ووحيد حامد، بل كنا ننظر إليها بريبة، وكنا واعين وقتها بأن بداية الحديث عن الإرهاب في سينما عادل إمام التجارية، مع بعض النقد السطحي للفساد الفردي، هو من احتياجات المرحلة المباركية، بينما تتم تصفية الإرهابيين والمنتمين للجماعات الإسلامية والمتعاطفين معهم دون محاكمات، ودون أن تسمح الدولة بحركة سياسية وثقافية تنويرية تستطيع مواجهتهم مجتمعيًا، وتكتفي بنوع من الاستعراضات السياسية/الفنية في المناسبات، مثلما حدث في ميدان التحرير لإعادة افتتاح مقهى وادي النيل الذي فجره الإسلاميون بقنبلة، فيتصدر "الزعيم" عادل إمام الحشد الميداني بصحبة بعض اليساريين السابقين من جيل السبعينات، وكأنها غمزة أخيرة من عين الدولة الحمراء للمثقفين للاحتشاد ورائها في معركتها مع الإسلاميين بشروطها هي، بينما تسمح للمتطرفين بملاحقة دكتور نصر حامد أبو زيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس، وجر يوسف شاهين وفيلمه المهاجر إلى المحاكم.

***

المفارقة هي أننا لم نلتفت في المقابل إلى منتجات سينمائية أخرى ظهرت في الحقبة ذاتها، وكانت ستقدم لنا بعض النضج الوجداني والثقافي إن كنا توقفنا أمامها بانتباه. شاهد بعضنا هذه الأفلام، لكنها لم تأخذ مكانة الأفلام الأخرى الموصوفة بالجوهرية لدى جيلنا. فعلى سبيل المثال قدم داود عبد السيد أربعة أفلام خلال مرحلتنا الجامعية، كانت بالترتيب البحث عن سيد مرزوق، الكيت كات، أرض الأحلام، وسارق الفرح. وقدم محمد خان سوبر ماركت وفارس المدينة، وقبل أن يبدأ شريف عرفة رحلته "الدولتية" بصحبة عادل إمام، قدم سمع هس عام 1991، العام نفسه الذي قدم فيه عاطف الطيب الهروب.

لا أتذكر أن أيا من هذه الأفلام تحول لمادة نقاش حقيقي بيننا تعبيرًا عن أهمية مضامينها السياسية والاجتماعية أثناء الساعات الطويلة التي كنا نقضيها في ممر الصحافة أو جالسين في مربع العشب الأخضر الملاصق له، مثلما حدث مع أفلام أخري، فبعد أن تجاوزت هذه المجموعة الصغيرة التي أسميها جيلي، مرحلة فيلم البريء،جاءت مرحلة فيلمي ناجي العلي وحكايات الغريب.

 

ناجي العلي- الصورة: أرشيف الإنترنت

كان الرسام الفلسطيني ناجي العلي فنان الكاريكاتير المفضل لدينا. تحول إلى أسطورة قبل دخولنا للجامعة مع حادثة اغتياله في لندن صيف 1987. وأصبحت رسوماته العنصر الأكثر حضورًا في كل المعارض والمجلات السياسية التي كنا ننفذها في الجامعة خلال النصف الأول من التسعينات، فكان كافيًا أن يأتي نجم نحبه مثل نور الشريف ليلعب دور ناجي العلي، وينتج فيلمًا عنه وعن لحظة التحدي الكبرى الفلسطينية واللبنانية للجيش الإسرائيلي في بيروت 1982، ومع بعض أغاني الثورة الفلسطينية واليسار اللبناني التي تعبر سريعًا خلال الفيلم، كي يتحول إلى فيلم من أفلامنا المفضلة.

***

ارتبط تعلق أغلب أفراد مجموعتنا بالأفلام بحجم الضجيج السياسي الذي تثيره، وكان تحول أحدها لمادة للهجوم من قبل السلطة كاف كي تحظي بإعجابنا، وأن تلهمنا، فما بالك إذا كان الفيلم يتناول القضية الفلسطينية المحورية لأجيال من الطلاب اليساريين في الجامعات المصرية.

ارتبطنا أكثر بفيلم ناجي العلي مع بدء إعلام مبارك حملة التحريض ضده، ومحاولة منعه، وتشويه فريقه، وتشويه شخصية ناجي العلي الحقيقية، على اعتبار أنه كان رسامًا محدود الموهبة، يكره مصر ويسبها، فيمنحنا ذلك سببًا جديدًا للفاعلية والصدام مع الأمن الجامعي، وبالذات الطلاب الناصريين، الذين اكتشفوا قبلها بسنوات قليلة أكذوبة شائعة أطلقها بعض قياداتهم أن مبارك ينتمي للفكر الناصري لكنه متخفٍّ.

بقفزة صغيرة لشهور سابقة، سنجد يوسف شاهين آتيًا بفيلمه التسجيلي القاهرة منورة بأهلها 1991 للمقر الرئيسي لحزب التجمع خلال حملة التضامن مع الفيلم ضد الحملة الحكومية لتشويهه، كان من المعروف وقتها أن شاهين عضوًا بالحزب، وبعد أن بكى الحضور وصفق مع مشاهد مظاهرات طلاب جامعة القاهرة احتجاجًا على حرب تدمير العراق فبراير/شباط 1991، يشق شاهين طريقه بثقة بين الزحام، يمسك بالميكروفون القديم ليتحدث. ينقطع الصوت عدة مرات، يحاول أحد العاملين تدارك المشكلة التقنية باللعب في بعض الأزرار، لكن شاهين لم يكن ليصبر، ألقي بالميكروفون فوق المنضدة، جلس فوقها، وسخر في جملة عابرة من هذا الحزب الذي يريد أن يقوم بثورة وليس لديه ميكروفونا صالحا للاستخدام، لم يجرؤ قادة الحزب المتواجدين أن يصححوا لشاهين أنهم لا يستهدفون القيام بأية ثورة.

تمتلئ القاعة نفسها من جديد للتضامن مع صناع فيلم ناجي العلي، ويكون الصوت الأعلى كمفتتح هو صوت كمال أبو عيطة، المناضل النقابي وقتها، والوزير بعد 3 يوليو/ تموز 2013، واقفًا على كرسي بين الزحام بالقرب من المنصة، ليكرر هاتفًا جملة واحدة.. "اوعى تخاف م الضلمة يا نور"، ونور الشريف يقترب من المنضدة التي جلس عليها سابقًا يوسف شاهين، فاتحا بصعوبة طريقًا له ولمحمود الجندي بين أجساد الكثيرين، ليمسك بالميكروفون، وبابتسامته الخجولة يرد على الهتاف "مش هاخاف"، ويغني بعده محمود الجندي بصوته العذب أغنية لا أتذكرها.

كتب صحفيو السلطة كثيرًا عن تشويه الفيلم لشخصية المصري، حيث لم يروا في الشخصية التي أداها محمود الجندي سوى أنه سكير، متجاهلين سؤاله المقلق عن الجيوش العربية وتوقيت مجيئها لإنقاذ شعب بيروت، ومتجاهلين موته بشجاعة برصاص الإسرائيليين على شاطئ مدينة صيدا، لكن كون المصري هو السكير، كان غالبًا أحد الأسباب الإضافية لانجذابنا لشخصيته وللفيلم، وإن لم نع ذلك.

***

تقف عربة صغيرة في منطقة هادئة عند طريق المطار، يصدر منها صوت محمد منير يغني واحدة من أغاني شريطه الجديد افتح قلبك، الصادر حديثًا في عام 1994. الأغنية المقصودة هي لو بطلنا نحلم نموت، بداخل العربة وحولها بعض من جيلي، نشرب من زجاجة للمياه تم ملئها بعرق البلح السوداني الرخيص، المصنوع في بيت من بيوت السودانيين في منطقة ابن سندر، يتحرك أحدنا وكأنه يرقص، مكررًا فقرة من الأغنية بعد تحويرها "لو بطلنا نسكر نموت".


اقرأ أيضًا| محمد منير: ملاحظة دخيلة على السياق

 

منير في حفل خاص على سفح أهرام الجيزة. الصورة: Carlos Affonso - فليكر. برخصة المشاع الإبداعي

حظيت أشياء قليلة على الإجماع بيننا، مزاج سياسي صدامي لا يتلاءم مع اللحظة، محمد منير الذي يرث حبه اليساريين منذ نهايات السبعينات، والبحث عن المتعة، كنا نستشعر الدفء بالاقتراب من أحد هذه المناطق الثلاثة. تجسد اختلافنا الأساسي عن الأجيال الشيوعية الأسبق، في اهتمامنا بالمرح والمتعة، على عكس ما يمكن وصفه تجاوزًا بالجدية المفرطة، وربما بعض "التزمت" المرتبط بالصورة الذهنية لبعض من انتموا إلى أجيال سابقة.

تأتي إنعام محمد علي في حكايات الغريب، بحالة دفء بين الصحاب في الحي الشعبي، وبنجمنا الغنائي المفضل محمد منير ليبحث عن الغريب/محمود الجندي الذي اختفى في السويس خلال حصارها في حرب 1973، مستعيدة حالة إشهار مفتقدة أيامها بأن إسرائيل عدو، وتطعم قصتها وخطابها بأغاني فرقة الكابتن غزالي أولاد الأرض، وبتنويعة من بعض المقاطع من أغاني وطنية تنتمي لزمن عبد الناصر، وبأجواء المقاومة والحرب والصمود السويسي، والأهم، ولجذبنا تمامًا، أوجدت بطلا مجهولًا، مواطن عادي متردد، وربما يكون قليل الحيلة، يعمل سائق لتاكسي لا يملكه، ومفقود في السويس، لكنه في أحد وجوهه الأخرى بطل يفعل ويواجه، ليس فقط في السويس، بل في الحارة القاهرية، فينصب جرسة/فضيحة غنائية في الشارع ليواجه بها الفاسدين "مهلباتي في شروة عيش.. ومقلباتي صابون وياميش.. وتاكسجي وعجله مايمشيش.. غير بالضلال ابن الضالة.. من برة هلا هلا.. من جوة يعلم الله.. وحد الله ما بيننا.. وبينه يفتح الله".

تلمس كلمات جرسة محمود الجندي ومحمد منير في حكايات الغريب مباشرة مع وتر إضافي لدى الأقدم من جيلنا، من بدؤوا الاشتباك السياسي في الجامعة قبل فبراير 1991 احتجاجًا علي حرب تدمير العراق والمشاركة المصرية فيها. تغضب جامعة القاهرة بمظاهرات كبيرة، تقدم شهيدها "خالد عبد العزيز الوقاد"، لتتبعها جامعة عين شمس، وحين تخفت المظاهرات وتهدأ، يبدع عز الفيومي شكلًا جديدًا، جرسة شعبية للحكام العرب، تغني وتلقى مسرحيًا في ساحات الجامعة. تنجح في جامعة القاهرة فينقلونها إلينا في عين شمس، لتشكل الفعل السياسي والفني الوحيد القادر على جذب الطلاب المنهكون من المظاهرات، والذين بدؤوا في الانشغال بالامتحانات التي تقترب.


لقراءة الجزء الأول: عين شمس 1995| مقتل شيكو ميندز (1)

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.