تصميم: المنصة

"رعاية مصر": تأمين صحي هادف للربح

 

في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وافق مجلس إدارة هيئة الرعاية الصحية وهي الهيئة المنبثقة عن تنفيذ قانون التأمين الصحي الشامل الجديد الصادر عام 2018، على إنشاء شركة قابضة تحت مسمى "رعاية مصر" والتي ستؤول تبعيتها للهيئة، فيما يبدو كخطوة لخصخصة الخدمات الصحية في مصر.

وبحسب بيان مجلس إدارة هيئة الرعاية الصحية، فإن الشركة الجديدة ستعمل في كلٍّ من؛ إدارة المستشفيات، وإدارة الكيانات الصحية، وإنشاء المستشفيات وصيانتها، والتحول الرقمي والحلول التكنولوجية في الصحة، وحاضنات الأفكار التكنولوجية الصحية.

هذه الخطوة من إنشاء الشركات داخل هيئة الرعاية الصحية، لم تكن الأولى من نوعها، إذ سبقها قرار بتأسيس شركة تسمى إي هيلث "e-Health" بالشراكة بين الهيئة العامة للتأمين الصحي وشركة إي فينانس للاستثمارات المالية والرقمية، حسب القرار رقم 2118 لسنة 2021. 

لكن الأمر الأكثر خطورة، حسبما أوضح خبراء للمنصة، أنه بهذه الخطوة ستُنقل تبعية المستشفيات الحكومية والوحدات، من كونها أملاكًا للدولة أو منشآت تابعة لمديريات الصحة في المحافظات، إلى الشركة القابضة الجديدة للمرة الأولى في التاريخ المصري. 

كما أن ذلك سيكون بمثابة خصخصة للخدمة الصحية، والتفافًا على قانون التأمين الصحي الشامل الجديد الصادر بالقرار رقم 2 لسنة 2018. وأخيرًا فإن ذلك قد يكون إعادة إحياء لقرار رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف (2004- 2010) بتحويل هيئة التأمين الصحي إلى شركة قابضة، الصادر عام 2007.  

الخطوة الأولى: التحول لهيئة اقتصادية

البداية كانت بتحويل هيئة التأمين الصحي إلى هيئة اقتصادية تحت اسم "الهيئة العامة للتأمين الصحي الشامل"، بحسب نص المادة الرابعة من قانون التأمين الصحي الشامل الجديد، رقم 2 لعام 2018.

 الخطوة التالية كانت إنهاء العمل بقرار رئيس الجمهورية رقم 1209 لسنة 1964 الخاص بإنشاء الهيئة العامة للتأمين الصحي، الذي نص في مادته الأولى على كون هيئة التأمين الصحي "هيئة عامة خدمية".

وتُفرق الباحثة المتخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة سلمى حسين، بين الهيئات العامة الخدمية والاقتصادية، إذ توضح بأن الأولى تكون ميزانيتها مدرجة داخل الموازنة العامة للدولة، وفي الأغلب تكون تابعة لإحدى الوزارات وغير هادفة للربح، وتتوافر فرص كثيرة للرقابة عليها، أما الهيئات الاقتصادية فهي على العكس، لها موازنة مستقلة خارج الموازنة العامة، وهادفة للربح مثل هيئة قناة السويس والهيئة العامة للبترول. 

في حديث هاتفي، قالت حسين للمنصة إن النص على وجود ثلاث هيئات بمشروع التأمين الصحي الشامل الجديد جاء لفصل الخدمة الصحية عن التمويل، والذي أُنشأت له هيئة قائمة بذاتها ستتولى مسؤولية التأكد من جودة الوحدات الصحية والمستشفيات التي ستقدم الخدمة للمريض.

موقع مدى مصر نشر مقالًا للباحث الاقتصادي محمد جاد أشار إلى التفرقة ذاتها بين الهيئات الخدمية والاقتصادية، قائلًا إن "الهيئات نوعان، خدمي يقوم بأعمال يُفترض أنها لا تُدر عوائد مالية كبيرة عليه، وآخر ترى الدولة أنه هجين بين الهيئات الخدمية، لما تمثله من أهمية في حياة المواطنين، والكيانات الاقتصادية التي تقوم بنشاط يحقق لها إيرادات لا بأس بها، وهذه الهيئات الهجينة سمّتها الدولة هيئات اقتصادية، وهي الهيئات التي بترتها عن الموازنة العامة، أما الهيئات الخدمية فظلت جزءًا من الموازنة.

وبناء على هذا، فُصِلت موازنة هيئة التأمين الصحي الشامل عن الموازنة العامة للدولة، بدءًا من العام المالي 2018/ 2019، والتي صدرت بقانون الربط رقم 140 لسنة 2018، وفيها بلغ إجمالي موازنة الهيئة 23 مليارًا و925 مليونًا و133 ألف جنيه، بينما قُدرت التكاليف والمصروفات بمليار و519 مليونًا و545 ألف جنيه، وفقًا لمراجعات أجريناها على موازنة الهيئة.

فيما بلغت إيرادات الهيئة، 11 مليارًا و202 ملايين و794 ألف جنيه، كلها فائض مالي تم ترحيلها للعام المالي القادم وهي نفسها الاستخدامات الرأسمالية، بحسب موازنة الهيئة.

وفي مايو/ أيار 2021، صدرت الموازنة العامة الثانية لهيئة التأمين الصحي الشامل، وبلغ إجماليها 24 مليارًا و90 ألف جنيهًا، حيث وصلت التكاليف والمصروفات إلى 523 مليونًا و946 ألف جنيه، والإيرادات 12 مليارًا و138 مليونًا و587 ألف جنيه؛ فيما بلغ صافي الأرباح 11 مليارًا و614 مليونًا و641 ألف جنيه، بحسب قانون الربط رقم 52. 

أعداد المستشفيات والأسرّة بكل محافظة


الخطوة الثانية: إنشاء شركة 

عند صدور قانون نظام التأمين الصحي الشامل في 2018، سُمح لها بإنشاء كيانات استثمارية "شركات" ضمن اختصاصاتها ومهامها لاستثمار مواردها الذاتية وتعظيم مركزها المالي بما يضمن استمرارية الارتقاء بالخدمات والرعاية الصحية المقدمة للمواطنين واستدامة جودتها، وفقًا لنص المادة 23 من القانون. 

وهذا ما قاله رئيس هيئة الرعاية الصحية، أحمد السبكي، من إنشاء الشركة القابضة الجديدة جاء متوافقًا مع نصوص القانون، مشيرًا إلى أن الشركة ستعمل في أهم مجالات الرعاية الصحية بشكل تكاملي مع هيئات منظومة التأمين الصحي الشامل والجهات المعنية بالشأن الصحي في مصر، فضلًا عن جذب الشراكات الأجنبية مع المستثمرين، وتأهيل مناخ الاستثمار في القطاع الصحي بما يحقق قيمة مضافة للناتج المحلي الإجمالي وجذب رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية للقطاع الصحي إحدى ركائز برنامج الإصلاح الصحي في مصر، وفقًا لرئيس هيئة الرعاية الصحية.

وتوجهت المنصّة بأسئلة حول طبيعة عمل هذه الشركة، وحجم رأسمالها، إلى رئيس مجلس إدارة هيئة الرعاية الصحية الدكتور أحمد السبكي، والمتحدث باسم وزارة الصحة الدكتور حسام عبد الغفار، سواء عبر الهاتف أو تطبيق واتساب، لكنهما رفضا الإجابة أو التعليق. 

بحسب المادة 23، تأسست شركة إي هيلث في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بموجب شراكة بين الهيئة العامة للتأمين الصحي الشامل وإي فاينانس للاستثمارات المالية والرقمية برأسمال مدفوع 100 مليون جنيه، تساهم فيها الهيئة بنسبة 50% + سهم واحد، وإي فاينانس بنسبة 35% إلا سهم واحد، فيما لم تذكر شركة إي فاينانس في إفصاح مرسل للبورصة المصرية من يملك النسبة الباقية من أسهم الشركة. 

الشركة متخصصة في تطوير وإدارة وتشغيل الخدمات التكنولوجية والرقمية لقطاع التأمين الصحي على مستوى البلاد، وفقًا لبيان الشركة للبورصة. 

الخطوة الثالثة: إمكانية طرحها في البورصة

إلى ذلك، تقول سلمى حسين إن إنشاء شركة قابضة يعني أنها هادفة للربح، مع إمكانية طرحها في البورصة، مضيفةً أن هذا يعد خصخصة للتأمين الصحي الشامل الجديد، متسائلةً عن جدوى بناء الحكومة مستشفى خاص، إذ إن الحكومة يجب أن تكون مشغولة ببناء وحدات صحية في القرى أو الأماكن النائية لخدمة المواطنين.

وتُضيف للمنصة، أنه بهذه الشركة الجديدة سيكون هدف الحكومة تقديم خدمات ذات عائد مادي، وليس بناء مستشفى عام، متابعةً أن هذا القرار سيبقي الوضع كما هو عليه، فمن يمتلك القدرة على الدفع سيحظى بأولوية العلاج، أما الفقراء فلن يكون أمامهم إلا العلاج في المستشفيات رديئة الخدمة أو التي لا تتوافر فيها الخدمة الصحية بصورة جيدة. 

وتعتقد حسين، أن في النهاية قرار تأسيس الشركة يُفرغ القانون من محتواه. 

إعادة إحياء شركة "نظيف"

من جهته، يقول مسؤول ملف الصحة في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وعضو لجنة إعداد مشروع قانون التأمين الصحي الجديد، الدكتور علاء غنام، إن هيئة الرعاية الصحية كفيلة بإدارة المستشفيات المصرية. 

ويُضيف متسائلًا في حديث هاتفي مع المنصة "أنا مش فاهم ليه تأسيس شركة قابضة لإدارة المستشفيات؟". ويشير إلى أنه في عام 2007، كان هناك قرار بتحويل هيئة التأمين الصحي إلى شركة قابضة، أيام حكومة رجال الأعمال في نهاية عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك.

وكان رئيس الوزراء أحمد نظيف، أصدر قرار برقم 637 لعام 2007، بتحويل هيئة التأمين الصحي إلى شركة قابضة مع نقل كافة أصول المستشفيات والعيادات التابعة للتأمين الصحي للشركة الجديدة أو الشركات التابعة لها.

كما نصّ قرار نظيف حينها على أن يكون للشركة القابضة والشركات التابعة لها الشخصية الاعتبارية وتعتبر من أشخاص القانون الخاص ويسرى عليها أحكام قوانين الشركات، إضافة لإتاحة المساحة أمام الشركة لاستثمار الأموال والأصول التي آلت إليها.  


اقرأ أيضًا: حيث يعلو صوت الناس على الدعاية: تقييم تجربة التأمين الصحي الشامل

 

مستشفى الرمد في بورسعيد في شراكة مع القطاع الخاص. الصورة: محمد الخولي- المنصة

ويُتابع غنام، أن عددًا من المهتمين بالعمل الحقوقي أقاموا عددًا من الدعاوى القضائية حملت أرقام 21550، و2212، و25752، و25857 لسنة 61 قضائية، أمام محاكم مجلس الدولة، ضد قرار أحمد نظيف، تطالب بإلغائه. 

وفي سبتمبر/ أيلول 2008، رفضت محكمة القضاء الإداري قرار رئيس مجلس الوزراء، وأنهت قرار تحويل هيئة التأمين لشركة قابضة؛ وعللت ذلك إلى أنه حين تؤدي الدولة الخدمة فهي إما تؤديها عبر الوزارات والمصالح الحكومية مباشرةً، وإما عن طريق هيئات عامة تكون الغلبة فيها لتأدية خدمات تأمينية واجتماعية، على أن تُحرر الدولة تلك الهيئات من بعض القواعد الجامدة لمواجهة حاجة المجتمع لهذه الخدمات.

وفي هاتين الحالتين، تكون تلك الأموال عامة لا يرد عليها البيع ويكون استعمالها فيما أعدت له، وهي خارج إطار التعامل ويد الدولة عليها أقرب للأمانة والرعاية منها إلى التصرف والاستغلال، وفقًا لأوراق الدعوى القضائية.

واعتبر القضاء الإداري، أن الخدمات الصحية التي تقوم بها المستشفيات العامة والخاصة والتأمين الصحي، تعد من الخدمات المباشرة التي لا يجوز للحكومة العدول عنها، وأدائها عن طريق المرافق الاقتصادية، التي أقرّ فيها القضاء الإداري بكونها خاصة بإدارة النشاط الاقتصادي لاستثمار أموال الدولة الخاصة.

إلى ذلك، يشير مسؤول ملف الصحة في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إلى أن قانون التأمين الصحي الشامل يُؤسس لثلاث هيئات عامة؛ وهي الهيئة العامة للرعاية الصحية المسؤولة عن تقديم الخدمات الصحية، والهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية المسؤولة عن الرقابة، والهيئة العامة للتأمين الصحي الشامل المسؤولة عن التمويل".

ويتساءل غنام "من سيتحمل تكلفة تأسيس هذه الشركة؟"، معتبرًا أن تأسيس شركة قابضة بمثابة التفاف على قانون التأمين الصحي الشامل، خاصة مع عدم وجود ضمان لطريقة عمل الشركة. 

ويعتقد غنام، أن هذا اتجاه لخصخصة الخدمة الصحية. ويختم حديثه قائلًا إنه ليس ثمة مشكلة في تأسيس هيئة التأمين الصحي لشركات، بشرط أن تقتصر عملياتها على الخدمات الخاصة مثل النظافة أو الأمن، وأن تظل بعيدة عن الخدمات الصحية. 

مخالف للدستور والاتفاقيات الدولية

كما يعتقد الدكتور محمد حسن خليل، منسق لجنة الدفاع عن الحق في الصحة، أن مشكلة القرار تكمن في كونه ربط تقديم الخدمة الصحية بالتوازن المالي، بمعنى وجوبية تحقيق الربح.  

ويُضيف للمنصة في مداخلة هاتفية، أن القرار مُخالف لمضمون وروح المادة 18 من الدستور المصري الصادر عام 2014، التي تُلزم الحكومة بتقديم الخدمة الصحية لكل المواطنين.

ونصت المادة 18، على حق كل مواطن في الرعاية الصحية، مع كفالة الدولة لذلك، إضافة لتخصيص نسبة لاتقل عن 3% من الناتج القومي للإنفاق على الصحة، مع إلزام الدولة بإقامة نظام تأمين صحي لكل المصريين يغطي كل الأمراض. 

حجم الإنفاق الحكومي على الصحة


ويقول خليل، إن توفير الخدمة الصحية ليست مسألة للربح، متابعًا أنه وفقًا للمعلومات المتاحة حتى الآن، فإن كل المستشفيات التابعة لوزارة الصحة بالقطاع العلاجي ومستشفيات التأمين الصحي الحكومية سيتم نقل تبعيتها للشركة الجديدة.

ووفقًا لهذا، فإن كل المستشفيات والوحدات الصحية التي ستؤول لهيئة التأمين الصحي ستؤول بالتبعية للشركة القابضة المزمع إنشاؤها. وبحسب المراجعات التي أجريناها، فإنه حتى الآن آلت لهيئة التأمين الصحي 77 مستشفى ووحدة صحية، منهم 25 منشأة ما بين وحدة طب أسرة ورعاية أساسية، و9 مستشفيات بمحافظة بورسعيد، وفي الأقصر 39 منشأة ما بين وحدة طب أسرة ومركز رعاية أساسية و4 مستشفيات.

ويلفت منسق لجنة الدفاع عن الحق في الصحة، إلى مخالفة قرار إنشاء الشركة لقرار رئيس الجمهورية رقم 537 لسنة 1981، والذي وافق على الاتفاقيات الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966.

ونصّت هذه الاتفاقيات في المادة 12 منها على إقرار الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية بحق كل فرد في المجتمع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية، وتشمل الخطوات التي تتخذها الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية للوصول إلى تحقيق كلى لهذا الحق ما هو ضروري من أجل العمل على خفض نسبة الوفيات في المواليد وفي وفيات الأطفال ومن أجل التنمية الصحية للطفل، وتحسين شتى الجوانب البيئية والصناعية، والوقاية من الأمراض المعدية والمتفشية والمهنية ومعالجتها وحصرها، وخلف ظروف من شأنها أن تؤمن الخدمات الطبية والعناية الطبية في حالة المرض.

ويختم خليل حديثه، واصفًا قرار إنشاء شركة قابضة بأنه اتجاه بالغ السوء من الحكومة.