لقطة من مسلسل جزيرة غمام.

واقع يصنعه الخيال: "جزيرة غمام" أو مصر التي على هوى الرئيس

منشور الأحد 1 مايو 2022

 

لا تبدو العبارة التي يفتتح بها الكاتب عبد الرحيم كمال مسلسله الجديد جزيرة غمام، والمعروض ضمن الموسم الرمضاني 2022، "واقع يصنعه الخيال" عفوية. فالمسلسل، الذي لا نفصله عن مكالمة أجراها الرئيس عبد الفتاح السيسي مع السيناريست خلال لقائه على إحدى القنوات الفضائية قبل شهور، يضعنا أمام مقاربة مع الواقع المصري كما يراه النظام، حيث الأطماع الخارجية التي تُحدق بالدولة، والعدو الداخلي ممثلًا في قوى الظلام أو جماعات الإسلام السياسي، والتصوف أو الروحانيات والزهد كمخلص. 

المسلسل رغم اعتماده على الرمزية، لكنه لم قفز فوق شرك المباشرة، فهو لا يخرج عن الثيمة المعهودة من الطمع في السلطة، والخطر الذي يحدق بالجزيرة، والتقريب الشديد بين الرمز وما يشير إليه، ما يجعله على ما فيه من إبداع، وحبكة في الشخصيات، وقوة في التصوير والإخراج وتميز في اللقطات، ضمن "كاتالوج الدولة" أو "الأعمال الوطنية" و"المسيسة".

 السيسي لكمال: جهز وأنا معاك

قبل ثمانية أشهر، تحديدًا في 23 أغسطس/ آب الماضي، كان السيناريست عبد الرحيم كمال ضيفًا على الإعلامية عزة مصطفى في قناة صدى البلد، وتحدث معها عن أن الدعوة لتجديد الخطاب الديني كان يلزمها دعوة لتجديد الخطاب الروحي أولًا، لأن تجديد الخطاب الديني "على مستوى الشكل والورقة اللي بتتقري في خطبة الجمعة مش هيجيب ثماره، الناس الشكل لسه عندها مقدس".

وأضاف "ندخل جوا روح الناس، ونجدد المفاهيم ونقول إن المقدس مش هو اللي انتوا مفكرينه مقدس، المقدس مقدس، لكن الخطاب في ذاته مش مقدس، ودا محتاج وعي".

ثم تطرق كمال لصعود الإسلام السياسي قائلًا إن ذلك أحدث ارتباكًا عند الناس "طيب نلبس إيه؟ طيب نصبح على بعض إزاي؟ أنا أنتمي لأي بلد؟ أنا أنتمي لأي ثقافة؟ ودا محتاج تجديد الخطاب الروحي، عاوزين نتكلم في صلب الأشياء أكثر من شكلها". وهنا تدخل الرئيس على نحو غير مسبوق، بأن أجرى مداخلة مع أحد المبدعين على الهواء.

 

مداخلة الرئيس الهاتفية مع السيناريست عبد الرحيم كمال


قال السيسي لكمال "جهز اللي إنت عاوزه وأنا معاك.. لفت نظري كلامك عن تجديد الخطاب الروحي، ودمج التاريخ بفكرة معينة.. أنا داعم لك في عمل على مستوى الدولة.. الناس تستهدف الربح ودا طبيعي، ولكن أحيانًا لو فيه قضية قد تتوارى فكرة الربح شوية. إذا كانت التكلفة المالية عائق أمام عمل زي كدا، فأنا باقولك: أنا معاك".

وأضاف "قضيتنا قضية وعي، حتى في الوعي الديني.. بيلبسوا لبسنا وبيتكلموا كلامنا، وهما أعادي، واحنا ناس بساط بنحب ربنا وأي حد ممكن ياخدنا. لو فيه كُتاب تصدوا لدا، الدعم لهذا الموضوع سيكون ضخم جدا، وأنا مجهزله كويس".

وتابع الرئيس"عاوز عمل تحشد فيه كل الموهبة وكل الفهم، وتشوف كمان زمايلك في المجالات المختلفة، والعمل دا يخرج في أسرع وقت ممكن".

وبعد هذه المكالمة، كتب كمال جزيرة غمام الذي تدور أحداثه منذ قرن مضى، وتحديدًا في 1914، في استخدامٍ لتكنيك إسقاط الواقع على أحداث متخيلة في زمان آخر، وهو التكنيك عادة ما يستخدمه صناع الأعمال الدرامية.

مسلسل يلبي طلبات الرئيس

المتأمل في أحداث المسلسل وتفاصيله سيجد فيه ما طلبه السيسي من كمال، فنحن أمام إسقاط واضح على مصر وما جرى فيها بعد العام 2011، ولكن ما أضافه عبدالرحيم للأحداث هو تقديمه الحل الروحي لهذا الواقع، وهو حل يتسق مع أفكاره الصوفية المعروفة، مثلما يتوافق مع هوى الرئيس.

 

في السطور التالية نقدم قراءة للمسلسل، و كيف يتماهى مع الواقع المصري، ومع أفكار النظام السياسي، بحرفية فنية وضع فيها كمال مجهودًا وحبًا عميقًا للفكرة. ونجح المخرج حسين المنباوي ومجموعة الممثلين المشاركين في تحويلها لصورة جذابة، ووفرت لها شركة سينرجي، ومن خلفها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية المقربة من الدولة، والمهيمنة على السوق الفني والإعلامي عمومًا، كل ما يلزم.

مجتمع جزيرة غمام

العمل ليس له بطل مطلق، حتى أن تتر المسلسل لم يكتب أسماء الممثلين من الأساس، واكتفى بصورة جماعية للأبطال الرئيسيين، وربما رتب ظهورهم على الأفيش وفقًا للقيمة السوقية لكل منهم، وليس وفقا لمساحات أدوارهم.

تمثلت السلطة خلال المسلسل في العمدة الحاج عجمي (رياض الخولي). وهو عمدة صعيدي كلاسيكي، شديد وقاسٍ حتى على أقرب الناس إليه، ولكن ذلك في سبيل العدل، مع مراعاة الهموم الملقاة على عاتقه التي تضطره لهذه القسوة. وبجوار السلطة شريك طامع في الوثوب عليها وهو البطلان (محمود البزاوي).

إما الإسلام السياسي، فمجسد في الشيخ محارب (فتحي عبد الوهاب)، وهو بالأساس تربية الشيخ مدين الصوفي، وهذا الطرح يربطه أكثر بالواقع الذي أخرج من قبل نموذج حسن البنا، وكان عضوًا بالطريقة الصوفية الحصافية في شبابه قبل تأسيسه لجماعة الإخوان حسبما يذكر في مذكرات الدعوة والداعية، وبالتالي فلا بأس أن يتتلمذ رجل ذو أفكار حركية على يد صوفي.

أما التدين الشعبي أو التصوف، ممثلًا في عرفات (أحمد أمين). وكما هو معروف أن المتصوفين دائمًا مسالمون، لا ينافسون على سلطة، بل كثير منهم داعمين لها. ورغم التوتر الذي اعترى علاقة عرفات بالعمدة عجمي، حد حبسه مرتين، إلا أن عجمي كان داعمًا لعرفات، كما أن عرفات داعم له.

 

أما الخطر الخارجي المحدق بالدولة فيمثلهم في جزيرة غمام الغجر بزعامة خلدون (طارق لطفي)، ومعه العايقة (مي عز الدين). وهم رُحل، يتنقلون بين بلد وآخر، قدموا عبر البحر إلى الجزيرة ليقيموا بها، كما عادة الغجر في مصر والعالم عمومًا.

هؤلاء هم أصحاب الأدوار المحورية الأساسية والأطراف الفاعلة في الصراع، وإن كان بجانبهم آخرون أصحاب أدوار مؤثرة مثل المعلمة هلالة (وفاء عامر)، والشيخ يسري (محمد جمعة)، وقبل هؤلاء جميعا الشيخ مدين (عبد العزيز مخيون)، فرغم ظهوره في الحلقة الأولى فقط، إلا أن دوره في الحبكة الدرامية كبير.

السلطة "الطيبة" في مواجهة قوى الشر

فكرة العمل تقوم على أن جزيرة غمام وهي مكان خيالي، تتبع وفق أحداث المسلسل مركز القصير بمحافظة البحر الأحمر، قرية صغيرة يعيش أهلها على الصيد، ويحكمها عمدة وإلى جواره شيخ صوفي له نبوءات وهو الشيخ مدين، يموت في الحلقة الأولى، وفي يوم وفاته يفد على القرية الغجر، بزعامة خلدون الذي يريد الاستيلاء على حكم الجزيرة بوسائله الشيطانية.

وخلال احتضار  الشيخ مدين، يقسم إرثه بين تلاميذه الثلاثة، فيعطى يسري بيته، ومحارب مشيخة المسجد، وعرفات العلم وأسرار القرية مجمعة في كتاب، يحمل أفعال أهل القرية دون أسماء، ومسبحته ومحبته ورضاه.

احترف يسري الدجل والشعوذة فمثل رجل الدين حال انحرافه وتربحه، وطمع محارب في حكم الجزيرة من خلال سعيه لتطبيق الشريعة بقوة السلاح عليها، باعتباره شيخ المسجد وصاحب التأثير، أما عرفات فهام في الخلوات، سريره الأرض وغطاؤه السماء، بلا أهل يرعونه ولا بيت يستره، وكوارِثٍ للتصوف عن شيخه مدين يواجه بؤسه بابتسامة مطمئنة راضية، بنفس لا تطمع في شيء، ويكفيها الأنس بخالقها، في شخصية لا تخلو من الرسائل أيضًا، أو "تقييم الزهد".

تواجه القرية في هذا الوقت مشكلتين أولهما أزمة اقتصادية، تتمثل في قلة محصول الصيادين من السمك الذي تعيش القرية على الاتجار به، في مقاربة مع الأزمة الاقتصادية التي عاشتها مصر بعد 2011 وتزال آثارها إلى الآن، أما المشكلة الثانية فهي جريمة قتل فتاة فقيرة من القرية تسمى سندس.

هذه الأزمات تنبأ بها الشيخ مدين وأوصى عرفات بتنبيه الناس لها، حيث قال له "هتيجي زوبعة ع الجزيرة، ومن علاماتها شح الرزق، ولن ينجو منها إلا أصحاب القلوب السليمة".

 

مشهد من مسلسل جزيرة غمام


بالفعل تأتي الزوبعة في هيئة تحالف بين ثلاثة أطراف، وهم الشيخ محارب، والبطلان الطامع في السلطة، وأخيرًا خلدون زعيم الغجر الذي يبحث عن وطن ويحلم بالاستقرار في القرية وحكمها. وفي مواجهة كل ذلك يقف العمدة الحاج عجمي وعرفات، وعموم أهل الجزيرة، في معسكر الخير.

قوى الشر يقسمون مجتمع الجزيرة

تبدأ مخالب الشيخ محارب في النمو لدرجة مكنته من فرض بعض سلطاته في الجزيرة، فنجد أنصاره يمشون بالعصي في الشوارع ويأمرون النساء بالحجاب، ويضربون من يرونه سكرانًا، كنوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مشاهد تعيد للأذهان سلطة الإسلام السياسي التي ظهرت في بلدان أخرى، أو طمحت في فعله داخل مصر، ونجحت في بعض مظاهرها.

وفي المقابل يسيطر خلدون الطامع بدهائه وأساليبه على البطلان مساعد العمدة، وعلى كثير من شباب الجزيرة. وبطلان هذا  يستخدم أساليب غير مشروعة في تجارة الأسماك،  كشفها عجمي (العمدة)، في تجسيد يعكس رسالة أن فساد البطانة أمر يعقد مهمة الحاكم، لكنه عادل ويحاول مواجهة تلك البطانة.

خضع البطلان لغواية خلدون الذي أقنعه بأنه أولى بالسلطة من العجمي، بالتزامن مع قرار الأخير إزاحة محارب من مشيخة المسجد وتنصيب عرفات بدلًا منه، ثم  ضموا إليهم يسري والتفوا جميعهم ظاهريًا حول فكرة تطبيق الشريعة التي ينادي بها محارب ويتزعمها.

تؤدي هذه الفتنة إلى تقسيم الجزيرة إلى نصفين (قبلي وبحري)، وبناء سور بينهما، كل جزء يحكمه فريق، جزء مع عجمي وعرفات، وجزء مع محارب والبطلان.

ينهار هذا السور بعد معجزة قام بها عرفات، حيث أخذ الأطفال وجعلهم ينادون على أصدقائهم في الجزء القابع خلف السور، وخلال ذلك انشق الجدار بمعجزة ليعبروا منه.

 

 والخلاص الذي يتبناه عبد الرحيم كمال في المسلسل متسق تمامًا مع ما اعتاد تقديمه في أعماله، فعرفات هو توليفة الأفكار الدينية الصوفية التي تدعو للحب، والبعد عن الصراع والتشدد الديني، وهو اتجاه مغاير عما يدعو إليه محارب، فالدين بالنسبة له مسألة ذاتية تخصه وحده، وليست قانونًا يطبقه على الناس فـ"الشرع قانون، لكن إرادة صاحب القانون فوق القانون" كما يقول عرفات.

عرفات لا يخوض منافسة، كما وصية شيخه مدين له، لا يطمع في شيء، هو نسخة مثالية للدين الإسلامي، خاصة لمن يعادون فكرة الإسلام السياسي، سواء من القوى التقليدية السلطوية، أو من القوى المدنية العلمانية.

قد يكون كمال أراد أن يقدم بعرفات نفسه، في جانب منه، إسقاطًا على السيسي، الذي وضعته الظروف في قمة التأثير السياسي دون أن يتنافس في 30 يونيو، فمشهد عبور عرفات للجدار بمعجزة، ثم هدم هذا الجدار، ومن ثم إعادة توحيد الجزيرة على يديه، هو التصور الذي يروج له إعلام النظام السياسي المصري عن السيسي كمنقذ وموحد لمصر من التفرقة والانقسام، في مقابل تصور آخر يتحدث عنه الإخوان وحلفائهم، وتصورات ثالثة تتحدث عنها القوى المدنية والعلمانية.

وسواء تلقى المشاهد تلك الإسقاطات أو رأى غيرها في ظل حالة من تعدد التأويلات حول العمل، والتي تعد مؤشر على نجاحه، فإن مشاهده في مواجهة عدة رسائل قد يقبلها وتترسخ في وجدانه، أو يتلقفها بشيء من الحذر.

وتتمثل تلك الرسائل في أن الإسلام السياسي شرير (الشيخ محارب وأنصاره)، رغم أن زمن الأحداث يعود لعام 1914، أي قبل وجود هذا المصطلح، ومن قبل تأسيس جماعة كالإخوان، وأن الهموم كبيرة على السلطة (العمدة: الحاج عجمي) ما يجعلها تتعسف أحيانًا وقد تظلم بعض أبنائها دون قصد، لكنها تهدف إلى العدل، وأن القادمين من الخارج (الغجر) خطر ، وعلى المجتمع أن يحافظ على تقاليده تجاه الأغراب، ويتعامل بحذر مع كل ما هو مستورد وغريب عنه، وأخيرًا أن التصوف هو النسخة الأنقى والأفضل لمواجهة هموم الحياة ومواجهة الشر، وهو الداعم للحاكم ومرشده إلى تطبيق العدالة ونشر قيم الخير والجمال.

هل أُملي المسلسل على عبد الرحيم كمال؟

قال عبد الرحيم  في حوار صحفي مع موقع الدستور إن فكرة جزيرة غمام كانت قديمة في ذهنه، وكتب منها "شبه حلقة"، لكنه لم يكتبها إلا مؤخرًا، ولفت إلى إنه كان يكتب مسلسلًا آخر للعرض في رمضان الحالي، وتراجع عنه لصالح الجزيرة، وهو ما عزز فرضية أثر  مكالمة السيسي.

قد تكون مكالمة السيسي سببًا في تحريك جزيرة غمام في ذهنه، ولكن هذا لا يعني أن الرجل كان يُملَى عليه ما كتبه، لأنه لم يكتب شيئًا من خارج قناعاته، فمن يتأمل أعماله السابقة سيجد صدى لها في الجزيرة، مسلسل شيخ العرب همام مثلًا، به عناصر شبيهة جدًا بجزيرة غمام، به التاريخ، وبه مجتمع الصعيد، وبه أيضًا التصوف متمثلا في شخصية الشيخ سلاّم.

 

نفس الأمر نجده في مسلسل الخواجة عبدالقادر الذي كان جرعة صوفية دسمة، مختلطة أيضًا بمجتمع الصعيد، ومن الناحية الفنية، يصعب أن نجد كاتبًا يكتب تحت ضغط السلطة بهذه اللغة الشعرية الفلسفية العذبة التي تخللت المسلسل. هذه كتابة مطبوعة بالحب.

ولكن يمكن أن نقول إن قناعات الكاتب، هي بالفعل متأثرة بالواقع الحالي لمصر، وبتأييده للنظام السياسي القائم، فاشتبكت أفكاره الصوفية ومخزون خبراته عن الصعيد بالواقع العام لمصر فخرج العمل به إسقاطات تصب في صالح ما يريد النظام السياسي ترويجه.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.