تصميم: يوسف أيمن - المنصة

دون نقابات ولا ديمقراطية: كتب عليكم الحوار

منشور الخميس 9 يونيو 2022

 

تداول السلطة والتعددية السياسية وحق الاقتراع وحرية الرأي والتعبير وغيرها، وبالتأكيد الحوار، من المظاهر الأساسية لأي حياة ديموقراطية، ولكن كل هذه المظاهر وغيرها يمكن أن تتوافر بدرجات مختلفة في ظل أنظمة سلطوية، دون الاقتراب حتى من الديمقراطية. هذا ما تعلمناه في مصر في عهود مختلفة شهدت أحزاب سياسية وانتخابات وبرلمانات واستفتاءات واختيار رئيس للجمهورية بين أكثر من مرشح وصحف ووسائل إعلام مستقلة، جنبًا إلى جنب مع أنظمة حكم قمعية ومستبدة وغير قابلة للتغيير عبر آليات الديمقراطية.

من هنا تأتي أهمية المنظمات ذات الطابع الاجتماعي، والتي تنظم قطاعات من المجتمع على أساس المصالح الجماعية المشتركة، مثل النقابات العمالية والمهنية، واتحادات الفلاحين واتحادات الطلاب والروابط الاجتماعية المختلفة.

رغم عدم اتصال تلك المنظمات على نحو مباشر بالعمل السياسي، فإنها تمثل المجال الأكثر اتساعًا لممارسة العمل العام لقطاعات واسعة من المجتمع، بما يتضمن اختيار ممثلين ومراجعتهم في ممارسة هذا التمثيل، ومناقشة القضايا المتعلقة بأوضاعهم المعيشية المباشرة، والمتصلة بالضرورة بالسياسات العامة، وبالطبع التفاوض مع المسؤولين من درجات مختلفة، وممارسة أشكال من التعبير الجماعي والاحتجاج عند الضرورة.

تبدو آليات العمل تلك أكثر عمقًا في ديمقراطيتها، من تفويض ممثلين على فترات في المؤسسات التشريعية والتنفيذية في انتخابات دورية، دون ممارسة أية أدوار رقابية أو حتى مساندة من الناخبين.

"الديمقراطية من أسفل"

هكذا يبدو مفهوم "الديمقراطية من أسفل" أكثر وضوحًا، فهو يرتبط بقوة بتوسيع قاعدة المشاركة في العمل العام بأنواعه بشكل يومي، في مقابل "الديمقراطية من أعلى" والتي تقتصر المشاركة فيها على استدعاء الناخبين على فترات متباعدة لاختيار ممثليهم في المؤسسات المختلفة، دون ارتباط بمشاركة مباشرة وواضحة بين كل اقتراعين.

والنقابات العمالية هي المنظمات الأكثر تعبيرًا عن فكرة الديمقراطية من أسفل، في حال بنائها بطريقة ديمقراطية ودون إخضاعها لجهات الإدارة ومؤسسات الدولة.

من ناحية حجم النقابات العمالية، فإن أعضاءها يقدّرون بأكثر من أربعة ملايين عضو موزعين على أكثر من ألفي لجنة نقابية، ينتشرون في كافة أنحاء الجمهورية، وبالتأكيد لا يعني ذلك أن كافة الأعضاء نشطين في العمل النقابي، ولكن هيكلًا مكونًا من أربعة ملايين عضو يعني درجة من الانتشار قد لا تتوافر في أي تنظيم آخر.

وإذا كان أعضاء التنظيم النقابي أربعة ملايين، فإن دور هذا التنظيم ونشاطه يتعلق على نحو مباشر بأوضاع ما يقرب من 20 مليون عامل بأجر في مصر، فالتنظيم المنوط به التفاوض على الأجور وساعات العمل والتأمين الاجتماعي والصحي، وغيرها من ظروف وعلاقات العمل، تنعكس نتائج عمله ليس فقط على أعضائه ولكن على كافة العاملين بأجر.

تجريم الاحتجاجات العمالية

وزن الحركة النقابية في الحياة العامة في مصر، وتأثير وجود حركة نقابية ديمقراطية وجماهيرية ومستقلة عن السلطة، تدركه جيدًا أجهزة الدولة. لذا بدت بصمات السلطة واضحة للغاية على الانتخابات النقابية الجارية، ابتداءً من التدخل السافر للجهات الإدارية في كل مراحل الانتخابات، وحتى تدخل الأجهزة الأمنية في استبعاد مرشحين بشكل مباشر، وفق ما ورد في تقارير دار الخدمات النقابية عن الانتخابات التي لم تنته بعد.

ولم تلق الانتخابات النقابية نفس الاهتمام من القوى السياسية المعنية بالديمقراطية والمدافعة عنها، إذ تبدو أصداء الانتخابات النقابية العمالية بين تلك القوى خافتة إلى حد بعيد، مقارنة بأي حدث انتخابي آخر، فيما تحولت مجرد تلميحات الحوار الوطني إلى عنوان المرحلة منذ بدأت في أبريل/ نيسان الماضي.

ليس هذا بالأمر الجديد في الحياة السياسية في مصر، فعادة ما تجتذب العناوين السياسية المتعلقة بالديمقراطية والحريات، الاهتمام أكثر كثيرًا. في أعقاب 11 فبراير/ شباط 2011، انصرفت كافة القوى السياسية إلى تغيير الدستور والانتخابات التشريعية والرئاسية، وغيرها من القضايا، والتي لا نقلل من أهميتها أبدا، بينما اعتبرت الاحتجاجات العمالية التي انتشرت وقتها عبئًا على عملية التحول الديمقراطي، ولم تتكبد تلك القوى عناء معارضة التشريع الذي أصدره المجلس العسكري لمنع الإضرابات العمالية وإحالة العمال المضربين إلى القضاء العسكري، وظهر وقتها الاصطلاح الشهير (الاحتجاجات الفئوية) لوصف، أو وصم، الاحتجاجات العمالية، والتي نظرت النخب السياسية كتعبير عن مصالح فئات ضيقة وليست جزءًا من الحالة الثورية وقتها.

 

من مظاهرات ضد تجريم الإضرابات (19 سبتمبر، 2011). برخصة المشاع الإبداعي: حسام الحملاوي- فليكر 

كانت الاحتجاجات العمالية موجهة ليس فقط لتحسين أوضاع العمال الاجتماعية والاقتصادية، وهو جزء لا يتجزأ من أي نضال ثوري، بل وواجب، لكنها توجهت أيضًا لمحاسبة رموز النظام المخلوع في المؤسسات الاقتصادية، وفضح الآثار الاقتصادية لسياسات مبارك وكشف فساد عمليات الخصخصة، وهو ما لم ينبه القوى السياسية وقتها إلى أن تلك الحركة جزء أساسي في أي عملية تحول ديمقراطي تسعى للقطيعة مع النظام المخلوع.

يمكن الحديث مطولًا بشكل نظري لإثبات دور الحركة النقابية والاجتماعية في أي تحسن ديمقراطي محتمل، واستحالة تحقق هذا التحسن، ولكن متابعة وملاحظة نشأة وتطور الحركة النقابية والعمالية في مصر، تبين تلك العلاقة المتينة بين وجود منظمات نقابية والمسار الديمقراطي والسياسي عمومًا.

جذور الحركة النقابية

ترجع نشأة الحركة النقابية في مصر إلى مطلع القرن العشرين، إذ بدأت تتأسس التنظيمات النقابية على خلفية الإضرابات التي انتشرت في تلك الفترة، الحركة العمالية والنقابية الوليدة وقتها خاضت صراعًا مريرًا من أجل تحسين أوضاع العمل، خاصة ما يتعلق بساعات العمل والأجور، ولكنها في نفس الوقت شكلت رافدًا هامًا للعمل العام والمشاركة في الحياة السياسية، خاصة حركة التحرر الوطني، وهو ما نضجت ثماره بوضوح خلال ثورة 1919.

لا يرد ذكر دور الحركة العمالية كثيرًا في ثورة 1919، وكما توضح الأكاديمية دينا حشمت في كتابها ثورة 1919 في الأدب والفن جرى رسم صورة ثورة 1919 كما تظهر في فيلم بين القصرين كثورة لشباب المدينة المتعلم (الأفندية)، مع أنهم كانوا يمثلون أقلية في المجتمع المصري وقتها، بينما عبرت الحشود التي شهدتها الثورة عن مشاركة اجتماعية واسعة، كان في قلبها الحركة العمالية التي شاركت في الثورة عبر تنظيم الإضرابات في مختلف مواقع العمل، وفي الكثير من المرافق والخدمات وقتها.

 

من مظاهرات ثورة 1919. برخصة المشاع الإبداعي- ويكيبيديا

ورغم دور الحركة العمالية والنقابات في ثورة 1919، لم تتردد حكومة الوفد بقيادة سعد زغلول في الإقدام على حل أول اتحاد أسسه العمال المصريون في 1924، وحل الحزب الشيوعي المساند للحركة العمالية، لم تدرك حكومة الوفد وقتها أن سحق الحركة النقابية يترك الديمقراطية الوليدة مكشوفة أما قوى الاستبداد، والتي مثلتها حكومة أحمد زيور في نفس العام، ولم تستثنِ أحدًا من القمع. كانت حكومة سعد زغلول قد مهدت الطريق أمام استبداد زيور بقمع الحركة العمالية والنقابات فأضعفت أي مقاومة محتملة أمام الاستبداد.

استمر مسار الحركة النقابية والعمالية في مصر مرتبط بقوة بالحياة السياسية، فصاحب دائمًا صعود الحركة النقابية انفتاح في المجال العام واندماج قطاعات أكبر من المجتمع في المشاركة السياسية بما يضمن حماية الديمقراطية والحريات، بينما كان ينعكس كل انكماش في الحركة النقابية تراجعًا في المشاركة في السياسة والعمل العام عمومًا.

لسنا بصدد سرد تاريخي لمسار الحركة النقابية المصرية وعلاقته بالديمقراطية، ولكن هناك محطات رئيسية في ذلك المسار تؤكد تلك العلاقة.

 

جمال عبد الناصر ومحمد نجيب. برخصة المشاع الإبداعي- ويكيبيديا

من أبرز تلك المحطات المرحلة الناصرية، فرغم أن الحركة النقابية المصرية كانت في أعلى مراحل نضجها عشية 1952، فإن عبد الناصر تمكن من السيطرة عليها عبر تأسيس اتحاد عمال خاضع بالكامل للسلطة في 1957. كان ذلك بعد أن تمكن عبد الناصر من استخدام بعض النقابات العمالية لحسم صراعه مع محمد نجيب.

كان بناء نظام سلطوي يستدعي بالتأكيد السيطرة على التنظيمات الجماهيرية وخاصة النقابات العمالية والتي شكلت مركز ثقل في الحركة الجماهيرية وقتها. اللافت هنا أن الأنظمة الحاكمة التي أعقبت عبد الناصر حتى الآن عمدت إلى تصفية كل ما أسسه عبد الناصر من مؤسسات سواء سياسية أو اقتصادية، ولكن عدا اتحاد العمال، والتي أدركت كافة الأنظمة السلطوية أهمية بقائه تحت هيمنة السلطة، وقطع الطريق على بناء تنظيم عمالي مستقل عن الدولة.

النقابات والديمقراطية

الماضي القريب يحمل صورة أوضح عن علاقة الحركة العمالية والنقابية بالديمقراطية والحياة السياسية. في عام 2006 كانت حركة الإصلاح الديمقراطي في مصر تراجعت على نحو ملحوظ، فبعد تعديل الدستور والتجديد لمبارك وتراجع حركة استقلال القضاء بدا أن سيناريو توريث السلطة ماض في طريقه، وحركة الإصلاح الديمقراطي لن توقفه.

سرعان ما تبدلت الحالة مع صعود الحركة العمالية، والتي بدأت في صعودها تدريجيًا من عام 2004، إلا أنها تفجرت على نحو غير مسبوق في ديسمبر/ كانون الأول 2006، مع إضراب شركة غزل المحلة، وما تلاها من احتجاجات عمالية في مختلف مواقع العمل.

دخول مئات الآلاف من العمال في احتجاجات في تلك الفترة أحيا آمال التغير ومنح حركة الإصلاح الديمقراطي مساحات جديدة لحركتها، وهو ما تجسد في 6 أبريل/ نيسان 2008 والذي شهد انتفاضة المحلة.

تأثير الحركة العمالية في ذلك الوقت كان أبعد كثيرا من مواقع العمل. فالحركة الصاعدة نجحت لأول مرة في تأسيس نقابات خارج اتحاد العمال الرسمي، ما يعني أن أحد أهم مؤسسات السلطة، والتي هيمنت بها على الحركة العمالية كانت تهتز تحت ضربات الحركة العمالية.

 

من إضراب عمال طنطا للكتان. أغسطس 2008. برخصة المشاع الإبداعي: حسام الحملاوي- ويكيبيديا

استمرت الحركة العمالية وقتها في منحناها الصاعد حتى ثورة يناير، وخلال الثورة كانت الحركة العمالية أحد الروافد الرئيسية لها، ويمكن بسهولة ملاحظة أن مدن مثل السويس والمحلة والتي كانت مراكز للحركة العمالية كانت الأكثر مبادرة خلال الثورة، فضلًا عن موجة الإضرابات التي شهدتها الأيام الأخيرة قبل 11 فبراير والتي وصلت لاحتلال منشآت ومواقع عمل.

عكست الحركة العمالية في الفترة السابقة على ثورة يناير أرقى أشكال الممارسة الديمقراطية، شهدت ساحات الإضرابات والاعتصامات العمالية في المحلة والضرائب العقارية والبريد والسكة الحديد والنقل العام، ومختلف المواقع التي شهدت احتجاجات عمالية، آليات اختيار الممثلين بشكل مباشر من بين المضربين، واستبدالهم بآخرين إذا لم يكونوا مناسبين.

كما شهدت تلك الاحتجاجات تقسيمًا راقيًا للعمل بين الآلاف، بحيث تشكلت لجان للتفاوض ومجموعات للإعاشة، ولجان للتنظيم وفرق لحراسة المنشآت والمعدات، بطريقة ضمنت استمرار تلك الاحتجاجات لأسابيع أحيانًا. اللافت أيضًا بروز دور العاملات القياديات بقوة في تلك الفترة، فبالإضافة لمبادرات النساء في الاحتجاجات ومشاركتهن الواسعة، كانت بعض الاحتجاجات تحت قيادة النساء بالكامل.

وربما يجب هنا النظر للحركة العمالية والاجتماعية في السنوات الأخيرة، والتي تميزت بالانسداد الكامل للمجال العام واختفاء أشكال العمل السياسي بأنواعها، لتبقى الاحتجاجات العمالية والاجتماعية المظهر الوحيد تقريبا للعمل العام والحركة الجماعية.

هذا ما توضحه إحصاءات منصة العدالة الاجتماعية، والتي رصدت معدلات الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية والعمالية في مصر، لتظهر أن الركود الذي عانى منه المجال العام لم يكن شاملًا كما يبدو. ووفقًا لتقارير منصة العدالة الاجتماعية شهد عام 2017، وهو العام الذي ظهرت فيه آثار الإصلاح الاقتصادي، 1518 احتجاجًا اجتماعيًا وعماليًا واقتصاديًا، ارتفعت إلى 2502 احتجاجًا في عام 2018، فيما كانت 2792 احتجاج عام 2019، وحتى عام كورونا 2020 شهد 3832 احتجاجًا، بينما تراجعت الاحتجاجات التي رصدتها المنصة إلى 1177 احتجاجًا ما بين اجتماعي وعمالي واقتصادي في العام الماضي. 

تجدر الإشارة هنا إلى أمرين؛ أولهما أن التقارير ترصد كافة أشكال الاحتجاج حتى الفردية منها والتي تقتصر على تقديم الشكاوي، ولكن تبقى آليات الاحتجاج الجماعية مثل الإضراب والتظاهر وزنًا بارزًا في إجمالي الاحتجاجات. والثانية أن تلك الاحتجاجات هي ما أمكن رصده بالفعل حيث يصعب وجود حصر كافة الاحتجاجات نظرا لطابع أغلبها العفوي واللامركزي.

مع وضع ذلك في الاعتبار، تبدو الحركة العمالية والاجتماعية هي الوحيدة القادرة على مقاومة هذا النضوب في العمل الجماعي والانغلاق في المجال العام.

ليس الهدف من تلك الأمثلة وغيرها إثبات أهمية الحركة النقابية والعمالية، فحتى خصوم الحركة العمالية لا يختلفون على أهميتها ودورها، ناهيك عن حلفائها، الهدف هو توضيح هذا الفارق الحاسم بين الديمقراطية من أسفل والديمقراطية من أعلى. إن تجربة عقود من السلطوية والاستبداد أوضحت أن الديمقراطية لن تهبط من أعلى بقرارات من السلطة، مثلما فعل السادات قبل نصف قرن، ولا بدعوة من السلطة للحوار، وتوسيع هامش الديمقراطية.

ما اصطلح عليه هامش الديمقراطية في مصر، والذي تحكمت فيه الأنظمة المتتالية، لا يهدف بالمرة إلى تحسين أوضاع الديمقراطية، بل على العكس، كان الهدف منه دائما تحسين وضع السلطة وإطالة عمرها. الديمقراطية كنظام سياسي لا تأتي إلا من أسفل، لا تأتي إلا عبر مشاركة واسعة في العمل العام تضم أوسع قطاعات ممكنة من المجتمع.

هذه المشاركة لا توفرها إلا المنظمات المستقلة في المجتمع، نقابات العمال والنقابات المهنية واتحادات الفلاحين واتحادات الطلاب، وكل أشكال الروابط والجمعيات والتي تنظمها قطاعات اجتماعية للتفاعل مع قضايا المشتركة والدفاع عن مصالحها الجماعية، بداية من سعر الكتاب الجامعي وساعات العمل وأسعار السماد وحتى الموازنة العامة للدولة. ديمقراطية تضمن المشاركة اليومية في العمل العام، وليس التفويض لممثلين على فترات دون مراجعة أو محاسبة. واليوم حين تجري انتخابات النقابات العمالية تحت هيمنة كاملة من أجهزة السلطة، وعدم اكتراث من قبل القوى السياسية، فإن الحوار الذي شغل الجميع قبل أن يبدأ، طاولته ستكون بلا قوائم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.