المعرفة والوجبات السريعة

منشور الخميس 22 مارس 2018

-ما هي البنيوية؟

تخيل أن معك آلة زمن، واطرح نفس السؤال على مائتي شخص في عام 1998، واعطهم ساعة، وليستعينوا بكل ما يودون الاستعانة به، كم منهم تتوقع أن يجيب على هذا السؤال؟

5؟ 10؟ 20؟

اطرح نفس السؤال على مائتي شخص في هذه الأيام، و اعطهم فقط 5 دقائق، كم فردًا منهم سيجيب؟

100؟ 150؟ أكثر؟

طبعا تعرف الفرق، ولا تحتاج لكلماتي لتدلك، فالتقنية ومحركات البحث المختلفة، سهلت كل شيء على الجميع.

لكن هل هي معرفة حقيقية؟


1

عندما أُسْأَل في أية لحظة عن أي آية قرآنية، أتذكرها، وغالبا أسمعها عن ظهر غيب، وإن لم أستطع تذكرها بشكل كامل، فلا تتوه عني سورتها، وحزبها، وسبب تنزيلها.  

صدمت منذ أسبوع عندما وجدت نفسي أدندن أغنية سمعتها منذ 25 سنةً، ومازلت أتذكر معظمها و لحنها تقريبا.  

لكني حاولت أن أتذكر رقم هاتف، حفظته أمس الأول، ووجدتني لا أستطيع ترتيب الأرقام، ونسيت 3 أرقام منه.

حاولت تذكر أي طابق يسكن فيه صديق لي، ولم أستطع التيقن، وهاتفته لأتأكد.

حاولت تذكر أي شهر تركت فيه عملي القديم، ولم أكن متيقنًا أيضًا.


2

كنت أقرأ مقالًا، عبارة عن متسلسلة من المصطلحات الأكاديمية والنظرية، تكررت كلمات مثل "تفكيك"، "بناء"، "تحليل"، "سلطة" بشكل استفزني بشدة، لدرجة أنني تساءلت، أليس بدلا من حشو المقال بكل تلك المصطلحات، ألم يكن من الأفضل للكاتبة تطبيقهم بشكل عملي، فتفكك، وتحلل؟  

في البداية، اعتقدت أنها كما كثيرين ممن يحبون أن يظهروا بمظهر المثقف والأكاديمي، يحبون حشو المصطلحات، كي ينالوا الإعجاب، لكن بعد قليل من التفكير، توصلت لنتيجة بسيطة، أن كل مصطلحاتها، هي تعرف معناها لكن لا تفهم فحواها، ولم تبذل أي مجهود، ككثيرين، في تحصيلها، مجرد طباعة المصطلح في محرك البحث، فيظهر لها المرادف، فتحشره في وسط المقال، وانتهى، وستنال كغيرها الكثير من التصفيق والاحترام.


اقرأ أيضًا: السَحَرة الجدد 


3

ما الذي قدمته لنا التقنية ؟

مع بدايات ظهور الإنترنت ومحركات البحث، ومن بعدهم ويكيبيديا، تحمسنا كثيرًا، لقد تيسّرت المعرفة التي كنا نلتقطها من أفواه من هم أكثر معرفة وخبرة ودراسة منا، ومن ثم نبحث عن الكتب التي تؤصل لتلك المعرفة، سواء بالشراء، أو الاستعارة، والتي كنا نصيب مرة ونخطأ مرات في فهمها، ونعيد من البداية كل شيء من جديد، كي تصبح الفكرة متماسكة، أو نهدمها بشكل كامل ونرفضها، ونبحث عن ماهو أكثر إقناعا ومنطقية.

تلك العملية التي كانت تستغرق شهورًا من القراءة والبحث والفهم/ عدم الفهم، لم تعد موجودة بشكل كبير الآن، فأي فكرة، أو أطروحة-نظرية، لن يستغرق الوصول إليها أكثر من الثواني المستغرقة لطباعة الحروف على محرك البحث لا أكثر، وستظهر كل الروابط التي تشرح-تفند-تهدم تلك النظرية-الفكرة، ستعرف معنى الكلمات، سترى من أين بدأت وإلى أين انتهت، لكن مثل أي شيء جاهز ومتاح وسريع التوصيل، ستنمحي الفكرة، والفهم، أو ستصبح مجرد كلمة ترطن بها الألسنة.

لم تعد هناك رحلة شاقة للوصول للمعرفة، أصبحت المعرفة مثل أي وجبة سريعة، تتصل بالهاتف، كي تصلك في دقائق.

أعتقد أن غالبية البشر، تستغرق فترة أقصر بكثير حتى من الزمن المستغرق كي تصل إليك وجبتك الجاهزة والمعلبة.

لم تعد هناك رحلة للمعرفة، لم يعد هناك مجهود نتذكره، فترتبط به معرفتنا، لم يعد هناك شوق للوصول، ولا قدسية للمعرفة.

أصبحت المعرفة مجرد سلعة معلبة.


4

و أنا أطبع هذه الكلمات، تذكرت قصة كليشيهية عن رجل منع الأموال عن ابنه المدلل، وطلب منه أن يعمل، لكن أمه شق عليها ذلك، وقررت أن تعطي ابنها المال، كل يوم يعود الرجل، ويأخذ من ابنه النقود، ويلقيها من النافذة، والابن لا يهتم، حتى جاء اليوم الذي لم تستطع أمه إعطاءه المال، فقرر الابن أن يعمل، وعندما عاد الأب، أخذ النقود، وعندما هم بإلقاءها، جرى عليه الابن، ومنعه وهو يشعر بالقهر من ضياع مجهوده، هنا تأكد الأب أن ابنه قد اكتسب رزقه من كد عمله.

من لم يتعب ويجتهد، لن يشعر بقيمة ما اكتسبه، سواء كان ذلك نقودًا، أم معرفة، روحية أو مادية أو نفسية.


5

ما يحدث الآن، يحول معرفة البشر إلى معرفة سطحية، مجرد قشرة هشة، لا تصمد أمام التغيرات، ولا تنير الطريق لمن يطلبها، عطلنا أدمغتنا، لم نعد نقرأ، ونستغرق عشرات الساعات في محاولة الفهم وبناء تلك المعرفة داخلنا.

تحويل المعرفة من عملية معقدة ومجهدة، نشعر بثمارها في نهاية رحلة التحصيل، بالضبط كمن يحضر وجبة طعام من الصفر، ويقضي فيها الساعات، محاولا إتقان الطبخ، وسعادته المتناهية، حينما ينجح ويخرج طعاما زكيا، يشعر بالرضى عنه، وإن فشل، يتعلم من أخطائه ولا يكررها مرة أخرى.

لا كمن يتوقف أمام محل ويأخذ طعاما معلبا، يأكله في دقائق، ولا يشعر سوى بسعادة زائفة مضرة، بسبب مكسبات الطعم والنكهة، والتي سرعان ما تنتهي نشوتها، لتتحول إلى كابوس لمعدتنا وأمعائنا.


6

عندما تتحول كلمات مثل "ضحية"، و"نسوية"، و"أبوية"، و"وجودية"، و"عدمية"، و"عبثية"، و"حداثية" أو "ما بعد حداثية" إلى مجرد علكة تلوكها الألسن، وتبتذل إلى أقصى حد يمكن أن تبتذل فيه، تنتهي معانيها، وتصبح (كما هي الآن) مادة للسخرية والتندر، وتصبح أي قضية جوهرية مجرد أداة لجلب الاعجابات والمشاركات على الشبكات الاجتماعية، والتي سرعان ما تنسى، وتنتهي، ولا يعود لها أي صدى و معنى.

لا تقرأوا عن الأفكار والنظريات والكتب، أقرأوا الأفكار والنظريات والكتب، حتى لا نتحول إلى مجرد قطعان، تستهلك معرفتها كما تستهلك طعامها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.