تعرفت على إحدى مواهبي صدفة، عن طريق أحد أصدقاء المراهقة، كان صاحب تجارب تفوق عمرنا، وأعمارًا فوقها. على الرغم من أنه لم يكن يكبرني إلا بأربع سنوات، فإن وسامته وجرأته، أتاحا له خوض مواجهات وفَتْح طرقٍ جانبية، غير تقليدية، لإنضاج عمره. الوسامة في تلك السن كانت إحدى العملات النادرة التي لا يحوزها إلا القلة.
أسمع صافرته المتفق عليها بين أعضاء شلتنا، في حديقة بيتنا، فأخرج إليه لأسمع منه إحدى هذه التجارب أو المغامرات الجديدة، التي كانت تزيدني حسرة على حياتي وقلة تجاربي. ولكنه، ولحسن الحظ، كان ينظر لي بعين أخرى؛ لا يقارنني بنفسه، وبتجاربه، بل كآخر له عالم وحياة مستقلة عنه. ربما من آفات الطفولة توحيد العوالم والذوات، حتى تصبح جميعها ذاتًا واحدة تسكن عالمًا واحدًا، وأي خروج عنه لا يُلتفت إليه.
كانت تجاربه تدور حول تمرده على العائلة، وعلاقته بالفتيات، المصريات والأجنبيات، بينما لا يعرف أي لغة أخرى غير العربية، وعلاقته المفتوحة مع الليل، الذي كان أحد التابوهات بالنسبة لعائلاتنا. كان لأغلبنا مواعيد محددة للعودة إلى البيت. داخل هذا الليل احتك هو بمجتمعات ليلية، وليست نهارية مثلنا، تعيش داخل النوادي في الفنادق والكازينوهات، وتصل الليل بالنهار. ليل معبأ بالمفاجآت، في مدينة ليس بها مفاجآت، أشبه بليل "كمال" في فيلم البحث عن سيد مرزوق لداود عبد السيد، أو ليل "نرجس" في فيلم أرض الأحلام.
في حاجة إلى مستمع جيد
كانت تلك التجارب، التي امتلأ بها صدره وعقله، في حاجة إلى مستمع جيد، حتى يكتمل حضورها وتأثيرها بداخله. كنت أنا ذلك المستمع الذي ينصت دون مقاطعة، أو تذكر مواز، وهو يستمع إلى التجارب السحرية، لأفسح له الطريق كاملًا ليتقدم.
كنت صافيًا في إنصاتي، دون دراية، رغم كل الخلفيات والترسبات النفسية التي كانت تسم علاقتنا. كان صديقي هدفًا دائمًا لانتقادي، وربما بجانب موهبة الإنصات كنت أملك موهبة أخرى، عاطلة، وهي "المثالية"، التي كانت عكس موهبة الإنصات تمامًا، كونها تسير في طريق واحد بلا عودة. ربما كنت أستخدم هذه المثالية، التي لم أملك غيرها آنذاك، كي أساوي بين كفتينا، أنا وصديقي، في ميزان الحياة المختل.
أخبرني في إحدى المرات بما معناه أنه يشعر بالراحة عندما يتحدث معي، وأنني أجيد الاستماع للآخرين. لم يكن لهذه الجملة تفسير في قاموسي الفقير، في تلك السن المبكرة، سوى قوة الصداقة التي تجمعنا، ولكن تحتها كان هناك تفسير آخر؛ دقة الإنصات، وتعبيرات وجهي التي كانت تشجعه على الاسترسال والفضفضة، دون خوف من مثاليتي الجارحة وانتقاداتها.
ربما بداخل تلك المثالية كان هناك شيء حقيقي وصافٍ، لم يعطل التبادل الإنساني مع الآخرين.
يعلمنا الإنصات الصبر
كانت موهبتي كامنة في أذني التي تشبه أذن أي إنسان آخر، داخل أذني كان يرقد هذا "المستمع الجيد"، ربما تعود خبرة الإنصات لحكايات والدتي وتفاصيلها الكثيرة التي لم أكن أقفز خلالها لأمسك بذروة الحدث، كنت مشدودًا للتفاصيل المملة التي تحكيها بين تثاؤب وآخر. وكانت أذني تقوم مقام لساني المتلعثم، الذي يتوه ويفقد القدرة على مواصلة تدفق الكلام بانتظام، وبوضوح. ربما لأنني لم أكن أملك بعد حكاية يمكن أن أرويها للآخرين.
يعلمنا الانصات الصبر على ملل أي حكاية، حتى اكتشاف ما يربط ذلك الملل بالجوهري، عندها ينفتح النص بكامله كإيقاع متماوج، ولكنه متماسك في حميميته، فكل كلمة أو تفصيلة، تتحول إلى عضو نابض.
لقد تعلمت من طريقة أمي في إعادة سرد الأفلام التي نمتُ في نهايتها، ومحاولتها، في اليوم التالي، تكثيف أحداث الفيلم كله داخل ذلك الجزء الأخير. ربما كنت أعيد ترتيب حكايتها الشخصية، بهذه التدريبات اليومية، كانت هي أيضًا مستفيدة من إنصاتي لها، وبحرفة ذلك المونتاج الذي تقوم به، وتعيد به ترتيب الزمن.
أعيد ترتيب حكاية الآخر
الإنصات بطبيعته قد يبدو فعلًا صامتًا، من جانب واحد، لمن يقوم به، ولكنه صمت ظاهري، فهناك داخل العقل، والأذن، مستودعات للتذكر، وللتشفير، لتتلقى تلك الهدية، وذلك المعنى الصافي والمقطر الذي نتج عن الإنصات. كنت أستمتع بالسماع للآخرين، ربما ليس فقط لشكواهم التي يبثونها، ولكن لهذا الدفق من الزوايا والثنيات التي لا تروى بشكل مباشر، ولكني أكتشفها في حكاياتهم، كصدى مجسم لها داخل عقلي.
كأني بإنصاتي أعيد ترتيب حكاية الآخر، داخل عقلي، فعند هذه النقطة المفصلية أصبحت حكاياتهم جزءًا مني، وأنا شريك فيها، مثلما هم شركاء في إنصاتي. هناك تبادل رؤية ومواقع عبر رحلة الإنصات.
الصمت الرحب
ربما هناك أنواع من الصمت التي تصاحب فعل الإنصات، منها المتسامح، الذي يشجع الآخر على الكلام، ويجعله يسير بحرية في ممرات الصمت الرحب، دون أي عوائق ترده إلى عالمه.
هناك أيضًا صمت عدائي، يحمل بركانًا تحته على وشك الانفجار، كما في فيلم جنيات إينيشيرين للمخرج الإنجليزي مارتن ماكدونا، عندما يتعلق البطل بصديقه، ولكن الصديق يلفظه مرة واحدة لملله من تلك الصداقة، ومن الجزيرة الضيقة التي يعيشان عليها، لأنه صار يرى أفقًا آخر للحياة خارج الجزيرة.
يحاول البطل أن يجعل صديقه يتكلم ليسترده، بينما يستسمحه أن يحافظ على صداقته، ويعودان ليشربا البيرة معًا. ولكن الصديق يلتزم الصمت تمامًا، الذي يتحول إلى رسالة، أن لا فائدة من كل تلك العواطف المسكوبة. كان الصمت العدائي علامة انتهاء الصداقة.
ربما أهمية أي حوار، أو إنصات جيد، في الفردانية والاستقلال اللذين يوفرا الندية، التي تؤدي بدورها إلى سريان التواصل الحميم، بين المرسل والمرسل إليه، خارج أي علاقة تملكية، أو دونية يتم داخها التواصل، كما في الفيلم.
لسان يتحدث باسم الجماعة
هناك نص كبير نتشارك جميعًا في كتابته. أحد وسائل كتابته ليست الحروف، ولكن الإنصات واحترام ذلك اللسان الذي يتحدث أمامنا باسم الجماعة، فعندما أنصت لأحدهم، ليس هو فقط من يتكلم، ولكنه رمز لجماعة تحتشد داخل لسانه. الإنصات شكل من أشكال الاتصال بالجماعة الإنسانية، داخل هذا الصمت، وداخل تلافيف الخيال، والاستطرادات المتخيلة التي يبتدعها ذلك الإنصات ليتعمق.
لا يحمل الإنصات إجابات، ولكنه يحمل وعدًا مستقبليًا بالمصالحة بين الصمت والكلام، للمرسِل والمستقبِل معًا، حتى يصير الصمت كلامًا، ويصير الكلام صمتًا، يلبس كل منهما ثوب الآخر، دون غيرة، أو ندية، بل لأنهما خرجا من منبت واحد.
وربما من يتحدث يرى في تعابير وعين المنصت إليه، ما يغنيه عن انتظار الإجابات، حتى وإن وُجِدت فإنها ليست من الجنس نفسه الذي خلق الحياة بكل المتناقضات التي تحملها وبكل الجمال الذي يحتويها والآلام التي تتفرع في شرايينها المفتوحة.
الاتصال بأنفسنا عبر الآخر
تطورت موهبة الإنصات وتحولت فيما بعد إلى موهبة الكتابة. ربما أمارس في كتابتي ونصوصي الطريقة نفسها التي أستمع فيها لآخر يسترسل، بدقة وبهدوء، وبيننا فجوات من الصمت تعيد ترتيب الكلام والنص بشكل عام. ومن حاصل كل ذلك يخرج النص كناتج حوار يتم بأكثر من طريقة، بالصمت والكلام والابتسام، وبحركات الأصابع، وإغماضات العيون، بالفراغات الوجودية التي تتخلل كل ذلك، وبوعود المستقبل أيضًا: أن الاتصال بأنفسنا عبر الآخر فعل قابل للتحقق.
ربما أهم ما في الإنصات، ألا تكون هناك حواجز تمنع مرور الحكايات حتى لا ترتد الكرة سريعًا إلى صاحبها وتخمد الحكاية، والكلام من بعدها. هذا الانسياب والحواجز المرفوعة، داخل المنصت الجيد، يقابله بالتأكيد انسياب داخل الحكاء لذا ما سماه صديقي شعوره بالراحة عندما يتحدث إليّ، هي حالة الطفو فوق الحواجز والتقاليد، والسلطة التي تتسرب في اللغة وفي الحكاية، أي حكاية.
هناك إنصات يتم بدون آخر يجلس أمامك، ويتحدث معك، بل داخليًا بينك وبين الآخر الداخلي، الذي نحمله معنا. تلك الكلمات الصامتة التي لن تلفظها أبدًا، ونسمعها مضخمة داخل عقولنا، تلك الحوارات الداخلية التي تبزغ من العدم وتذوب في العدم، تلك الأحلام والأفكار التي لم ولن تأخذ طريقها في الحياة، تلك الخطايا والتطهرات التي لم تخرج للنور، كل هذا أصبح ميتًا، بعد أن فقد تجسده فور لحظة انبعاثه. هنا يظهر الوجه الآخر للإنصات، هو صوت صرير ذلك الباب الخلفي للحياة، الذي سيخرج منه كل هذا الإرث الصامت.
القراء الأوفياء
أعود لصديقي الذي كان يدرب أذني على حمل أثقال كبيرة من التجارب والخيال. مات منذ سنتين في أوروبا. افترقنا مبكرًا، في نهاية مرحلة الجامعة، بعد أن اختفت ظاهرة شلل الشوارع الهادئة، بعد أن غاضت هذه الشوارع وتهتكت كتلتها وخيوطها.
لم أره طوال حياتي سوى عدة مرات قليلة، بسبب سفره الدائم. ولكنه كان حاضرًا داخل أذني بهذا الصوت البعيد الذي كان يهمس لي، وأستعيده كلما انعقد لساني، وانخفضت ثقتي في نفسي إلى مستواها الأدنى. تلقيت خبر وفاته في هدوء، كان واحدًا من شلة المراهقة من أبناء الحي، وهي الشلة العضوية التي تنتفض غريزيًا لغياب أحد أعضائها.
ولكني لم أشعر بفقده، بل أحسبه حاضرًا دومًا بصوته، وداخل لساني، وداخل كل ما جنيته من هذه الموهبة التي اكتشفها داخلي. كان بشكل ما مشاركا في فائض القيمة الذي جنيته منها.
في كل مرحلة من حياتي كان هناك مكتشف جديد وصوت جديد يضاف للأصوات التي تنمو في أذني وتذوب في لساني. جميعهم لهم حق في فائض القيمة الذي جنيته من اكتشافاتهم، وأتمنى أن تكون موهبتي في الإنصات، وما نتج عنها تليق بهذه الاكتشافات التي دفعوا من أجلها حياتهم كلها ليكونوا مكتشفين للمواهب في الظل، وبدون أي تثمين اجتماعي لمواهبهم الشخصية، هؤلاء هم القراء الأوفياء للحياة.