
تركة الخراب| صورة غزة في مرآة شاطئ الإسكندرية
صباح التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، استيقظنا نحن سكان وسط البلد في مدريد، على ملصقات ملونة فاخرة، تشغل حيزًا من جدران حيِّنا، لصور بعض الإسرائيليين الذين أسرتهم المقاومة قبل أقل من 48 ساعة، في طوفان الأقصى. تناشد الملصقات الشعب الإسباني التضامن مع إسرائيل الضحية، والتحرك ضد الإرهاب.
لا أعرف ردود أفعال جيراني على هذه الملصقات، أو مشاعرهم أمامها. لكنني أعرف أن البعض؛ ممن يتابعون ولو بشكل سطحي تاريخ وتطورات الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، انتبهوا إلى أن هذه الملصقات، وخطابات أغلب وسائل الإعلام الإسبانية والأوروبية، خلال أيام الحرب الأولى، افتتحت عملية دعائية عالمية، مستمرة حتى اليوم، لتسييد سردية مجتزئة لمجمل الصراع، ولتاريخ الاحتلال.
تعتمد هذه المروية على أن كل شيء بدأ صباح السابع من أكتوبر، بتلك الهجمة الوحشية والبربرية التي شنَّها "الإرهابيون الفلسطينيون" على دولة إسرائيل الآمنة، لقتل واختطاف مواطنيها من بيوتهم بالمستوطنات أو من حفل موسيقي، وجنودها ومجنداتها في الثكنات عسكرية، وهم كأي جنود في أي ثكنة عسكرية في العالم، لم يعتدوا على أحد. كان لا بد من رد فعل إسرائيلي على هذه الهجمة الإرهابية، رد فعل مناسب، أو مبالغ فيه، بناء على رؤية كل متابع على حدة.
في كل الحالات، افتتحت "الهجمة الإرهابية" الفلسطينية تاريخًا جديدًا، منفصلًا تمامًا عن كل ما سبقه، عنوانه الرئيسي أن دولة الديمقراطية الغربية في الشرق الهمجي مهددة، تعاني من الإرهاب الإسلامي، لكنها تواجهه بشجاعة.
حنين لما لم يوجد
في عام 2002 أُنتج فيلم عن تفجير برجي التجارة في نيويورك، المعروف بأحداث 11 سبتمبر. يتكون الفيلم الجماعي من 11 فيلمًا قصيرًا لـ11 مخرجًا من كل أنحاء العالم. من ضمنها، قدَّم المخرج الإسرائيلي العالمي "المرموق"، عاموس جيتاي، ما لم يخرج عن مستنقع الدعاية الصهيونية التقليدية، التي تنتهز أي فرصة لتُذكِّر الأمريكيين بالتماهي الواقعي، والضروري، مع الإسرائيليين، باعتبار أن كليهما ضحايا كارهي جهود الرجل/المستوطن الأبيض في بناء دولتين متقدمتين وديمقراطيتين على أرضٍ بِكرٍ لا يملكها أحد. فظهر فيلمه في هيئة مشهد طويل للفوضى الناتجة عن عملية "إرهابية" فلسطينية ضد مواطني إسرائيل في القدس الآمنة.
إنه أحد الجوانب الأساسية للبروباجاندا الصهيوأمريكية؛ كلانا ضحية. القدس هي نيويورك. وفي الحالتين يبدأ التاريخ الآن، في هذه اللحظة تحديدًا التي لم يسبقها أي شيء يمكننا بمعرفته أن نفهم أبعاد العمليتين الإرهابيتين، في القدس ونيويورك.
لا جديد في ما أرويه الآن عن منهج الدعاية الإسرائيلية. فأي متابع جاد، من غير أغلب جيراني ممن يصوتون لليمين المتحالف مع إسرائيل، والذين ربما رسموا علامة الصليب على صدورهم عند مرورهم من أمام هذه الملصقات، يعلم أن دولة الاحتلال، اتبعت دائمًا هذه الاستراتيجية مع كل ضربة توجه إليها، أو لراعيها الأكبر؛ الولايات المتحدة. فكل ضربة جديدة هي بداية التاريخ، لم يسبقها أي شيء. فتظل إسرائيل للأبد في صورة الضحية التي تتلقى ضربات بلا مبرر، وتضطر للرد عليها لحماية الشعب اليهودي، الضحية المطلقة، والمهدد دائمًا وأبدًا.
تحدثت في المقال السابق عن الاستقطاب العربي، وغير العربي، فيما يخص طوفان الأقصى وعملية إبادة الشعب الفلسطيني. الجديد هو أن قطاعات من المثقفين المصريين والعرب، المنحازين للحق الفلسطيني، بدؤوا خلال الأيام الماضية، وتحت وطأة وثقل الإبادة المذهلة، للوقوف، دون أن ينتبهوا، على أرضية دعائية شبيهة، وكأن 7 أكتوبر مفتتحُ التاريخ ونهايته. لا أقول نفس الأرضية لدواعي الموضوعية. بل وأرى أن اتهامهم الرائج بالصهينة مجحف وأحمق. وبالذات حين يطال أفرادًا لهم مواقف ثابته ضد إسرائيل، وستتجذر في المستقبل.
يتورط بعض هؤلاء، وتحت وطأة الغضب من الإبادة، ومن حماس، والشعور العميق بالعجز تجاه ما يحدث، في الحديث عن غزة قبل 7 أكتوبر بنفس الطريقة السطحية التي تُستدعى بها من حين لآخر مصر المَلكيَّة قبل حركة الضباط 1952، أو مصر مطلع سبعينيات القرن الماضي، قبل الصعود الإسلامي.
في الحالتين، مصر قبل 1952، وفي مطلع السبعينيات، تبدو كبلد نظيف ومتمدين، متحرر، نساؤه يرتدين ملابس جميلة، وجُنيهُه أقوى من الدولار، إلى آخر كل هذه الخيالات. وفي الحالتين، جلب الخرابَ فاعلٌ ما، نسف الواقع وغيَّر مسار التاريخ، ليبدأه من الصفر؛ انقلاب الضباط في الحالة الأولى، والوهابية في الثانية.
يعتمد هذا الخطاب على تلك الصور التي تنتشر من حين لآخر على السوشيال ميديا، منزوعةً من سياقها الحقيقي الأكثر اتساعًا، في تجاهل لأن قطاعات واسعة من الشعب المصري كانت حافية وجائعة عشية 1952، حتى ولو كانت شوارع وسط البلد لامعة قبل هذا التاريخ. يتجاهل هذا الخطاب أيضًا أن مصر في مطلع السبعينيات، كانت مأزومة سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا ودينيًا، حتى ولو كانت بعض النساء يلبسن البكيني على شواطئ الإسكندرية في أفلام التغييب السبعيناتي.
إنها خطابات تفتت التاريخ، ثم تلتقط إحدى هذه الفتات وتجعل منها التاريخ بأكمله، متجاهلة كل القطع الباقية الناتجة عن عملية التفتيت. وهو ما يصل لمستويات أكثر خطورة بكثير، حين يتعلق الأمر بالحديث عن الاحتلال وغزة، مستندين لصور طالها الفوتوشوب لبيوت وشوارع لامعة، توصف بأنها غزة قبل 7 أكتوبر 2023.
هذا الخطاب حسن النية، والنابع من شعور عميق بالحزن والحسرة والعجز، والحنين لواقع لم يوجد من قبل، يلتقي في جوهره مع الدعاية الإسرائيلية المعتمدة على أن صباح السابع من أكتوبر هو بداية الخراب. لكنه هذه المرة خطاب بلغة عربية، وكأن ماضي غزة قبل حماس كان ورديًا، "احتلال طبيعي"، تواجهه "مقاومة طبيعية"، غير متطرفة ولا مغامرة، تتناسب مع وطأته. وكأن هناك احتلالًا أو مقاومة طبيعيان! وكأن كليهما ليسا استثناءً! وهو ما تتضخم كارثيته حين يكون الاحتلال من نوعية المشروع الاستيطاني الصهيوني، الذي لا يمكنه الاكتفاء بسلب الحرية من الفلسطينيين، بل يحتاج ليستمر أن يسلبهم الحياة.
خيال الخائفين
تُدعم مقولات أن الحياة كانت أقرب للطبيعية في غزة قبل حكم حماس، بوجود مطار، وحكومة، وفلسطينيين يدخلون ويخرجون من وإلى إسرائيل للعمل فيها، ونساء بلا حجاب، وفنادق على بحر غزة تقدم المشروبات الروحية. ثم جاءت حماس لتنقلب على كل ذلك، فتُدخل الفلسطينيين معها في نفق انتحاري مظلم. وهي تصورات غالبًا ما تنبع من نفس الفوبيا من جماعة الإخوان المسلمين المصرية في عامي 2012/ 2013. وكأن حماس مجرد امتداد إخواني علينا ملاحقته ونقده وتحميله كل المسؤوليات.
عدسة فوبيا الإخوان المسلمين المصرية تقصر النظر على غزة بعد حكم حماس ولا تراها قبل هذا الحكم
عدسات ومازورة القياس المستعارة من مصر 2013 عمياء ومعطوبة حين نستخدمها لرؤية واقع فلسطيني شديد الاختلاف. وبالذات حين تتجاهل أن المقاومة ذات الصبغة الدينية تواجه مشروع دولة احتلال دينية، بمجرد بدايته في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ومع ظهور المستوطنات اليهودية الأولى في فلسطين، منح طاقة الوجود الهائلة لنقيضه الإسلامي، في كل المنطقة.
لا يمكن إنكار أن معاناة فلسطينيي غزة الحالية استثنائية في درجة توحشها ودمويتها، وتُقابل بصمت كارثي واعتياد لم يتوقعه أحد. ومن دون إنكار أن حماس وكل فصائل المقاومة تقع عليها مهام المراجعة والنقد الذاتي ومحاولة الإجابة بجدية عن سؤال "كيف وصل بنا الحال لهنا؟"، لم تبدأ هذه المعاناة الغزاوية في يوم 7 أكتوبر الصفري. فغزة ومجمل الأراضي الفلسطينية تعرضت لكل أنواع الاعتداءات والجرائم الإسرائيلية العنصرية، للدرجة التي يصعب حصرها، منذ ما قبل 1948. وما يحدث الآن هو مجرد فصل جديد من أطول عملية إبادة في التاريخ الحديث.
إنها الإبادة السابقة لإدارة حماس للقطاع بعد فوزها في انتخابات ديمقراطية بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، مطلع 2006، وتولي إسماعيل هنية لمنصب رئيس الوزراء. وهي الإبادة نفسها السابقة لاحتلال غزة في 1967. بل إن الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة لم تتوقف خلال الإدارة العسكرية المصرية للقطاع.
عدسة الفوبيا من جماعة الإخوان المسلمين المصرية تقصر النظر على غزة بعد حكم حماس، ولا تراها قبله. لا ترى الإبادة الممتدة، وبوتيرة يومية، في الضفة الغربية التي لا تخضع لحكم أو سيطرة حماس، وفي الداخل المحتل عام 1948 نحو فلسطينيي الداخل، حاملي أوراق الهوية الإسرائيلية. فكل الفلسطينيين، بمن فيهم اللاجئين خارج فلسطين، لم يسلموا من مذابح الاحتلال وجرائمه، ومنذ عقود، قبل أن توجد حماس. مثلما لا ترى عدسة كثير من الأوروبيين؛ ومن بينهم جيراني المدريديين الذين يصوتون لليمين؛ الجانب الديني والفاشي من دولة إسرائيل.
نسمع عن مخيم الشاطئ. مجرد وجود كلمة الشاطئ الجميلة في الاسم، تنتعش في أذهاننا خيالات المصطافين، والبحر بكل ما يحمله من أسرار وحكايات وشوق للعالم الموجود وراءه. في 2006، في بداية حكم حماس، وبداية الحصار الدولي والعربي على غزة، لعقاب ناسها على تصويتهم لحماس في الانتخابات، زرت غزة في مهمة عمل، وذهبت لمخيم الشاطئ.
في مخيم الشاطئ تنهار كل خيالات المصطافين والحالمين. فالبحر محاصر بالطرادات الحربية الإسرائيلية. والشاطئ هو بيوت اللاجئين الفقيرة، المتهالكة، التي دُمِّرت أجزاء كبيرة منها بفعل الاعتداءات التي لم تتوقف أبدًا. وأهل المكان المحمل بالخيالات، في أغلبهم لاجئين، يحملون منذ عام 1948 في أرواحهم وذكرياتهم وأجسادهم، جروحًا لا تلتئم، سببتها دولة الاحتلال، وليس المقاومة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.