مدونة حرب السادس من أكتوبر- برخصة المشاع الإبداعي
الرئيس السادات بالزي العسكري خلال تفقد للقوات المسلحة قبل حرب 1973

حرب أكتوبر: خمسون عامًا على انتصار عبد الودود

منشور الأحد 8 أكتوبر 2023 - آخر تحديث الأحد 8 أكتوبر 2023

خمسون عامًا مرت على اليوم الذي عبر فيه ثلاثة وثلاثين ألف جندي مصري من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، حيث "بارليف" الذي كان يعده الإسرائيليون خط دفاعهم الأول في شبه جزيرة سيناء.

خمسون عامًا من الاحتفالات السنوية بانتصارات أكتوبر، التي اعتدنا فيها مشاهدة لقطات من الغارات الجوية التي نفذتها المقاتلات والقاذفات المصرية على أهداف إسرائيلية في سيناء، متبوعةً بمشاهد لمئات قطع المدفعية وهي تمطر أرضها بالقذائف، ثم عبور الموجات الأولى من الجنود المصريين في القوارب المطاطية، لتختتم تلك الملحمة البصرية بعبور الدبابات والمدرعات إلى شبه الجزيرة، فوق الجسور العائمة الممتدة بين ضفتي القناة.

خلال سنوات حكم مبارك كان الحديث عن حرب أكتوبر أمرًا "سياديًا". لم يكن من المستساغ حكوميًا أن يجري نقاشٌ جاد بشأن نتيجة الحرب النهائية بعد وقف إطلاق النار في 28 أكتوبر/تشرين الأول، خلال مباحثات الكيلو 101 على طريق القاهرة السويس، أو ما جرى بين الرئيس السادات ووزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر من اتفاقات في أسوان في يناير/كانون الثاني 1974.

لم يكن الإعلام المصري يتحدث عن ثغرة الدفرسوار إلا بشكلٍ مقتضب، كما جرى مثلًا خلال حديث لمبارك مع عماد الدين أديب داخل غرفة عمليات القوات الجوية قبل انتخابات 2005 الرئاسية، أو في حوار أجراه المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، وزير الدفاع الأسبق وقائد مدفعية الجيش الثاني الميداني خلال حرب أكتوبر، مع مجموعة من الصحفيين عام 1982.

في مرحلة ما بعد 2011 بدأ نقاش على السوشيال ميديا عن حرب أكتوبر ونتيجتها النهائية، خاصةً في ضوء محاولات إسرائيلية مستمرة لإظهارها كنصر عسكري لهم "لأنهم نجحوا في صد هجومين متزامنين على إسرائيل"، أو لأنهم "استطاعوا أن يحاصروا الجيش الثالث بعد عبورهم لغرب القناة"، أو لأنهم استعادوا تقريبًا كل مناطق هضبة الجولان التي حررتها القوات السورية في الأيام الأولى من الحرب.

انتصار أكتوبر وشرعية النظام

تعتبر السردية المصرية الرسمية والشعبية حرب أكتوبر انتصارًا كاملًا وشاملًا لمصر، ومشهده الأعظم هو العبور والسيطرة على خط بارليف. وتتجاهل ما جرى على الجبهة السورية، مثلما تتجاهل ما حدث بعد 14 أكتوبر، وثغرة الدفرسوار، وحصار الجيش الثالث.

وخلال العقود الماضية، وتحديدًا خلال سنوات حكم مبارك، تجاهلت السردية الرسمية قبول السادات وقف إطلاق النار في 21 أكتوبر، بعدما أيقن أنه بات يحارب الولايات المتحدة وليس إسرائيل، وذلك في أعقاب الجسر الجوي الذي أقامته إدارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيسكون من أجل دعم القوات الإسرائيلية على الجبهتين المصرية والسورية.

كما تجاهلت السردية الرسمية تفاصيل مراحل التفاوض، التي جرت بين السادات وإسرائيل في أعقاب الحرب، من أجل استعادة باقي أراضي سيناء، التي ظلت تحت الاحتلال الإسرائيلي، حيث ضمت 12 مستوطنة ومطارين. وبالتالي لم يتم تحرير سيناء بالكامل خلال العمليات العسكرية في حرب 1973، كما بات شائعًا في السردية الشعبية خلال سنوات حكم مبارك.

وبالطبع ركزت السردية الرسمية خلال سنوات مبارك على دور سلاح الطيران في افتتاح المعركة، واعتبرت أن "أول ضربة جوية فتحت باب الحرية". وفي الأوبريتات التي كانت تقام كل عام في ذكرى الحرب، كان قائد الطيران السابق والرئيس الحالي، آنذاك، حسني مبارك، هو صاحب "الضربة الجوية الأولى" التي ضمنت "النصر لمصر".

جنود إسرائيليون في غزة خلال حرب 1967

اعتبر السادات حرب أكتوبر تجديدًا لشرعية النظام بعد هزيمته في حرب 1967. تحدث السادات في أعقاب الحرب عن "شرعية أكتوبر"، ورأى أنه حان الوقت لجيلها كي يستلم الراية من جيله. لكن في السنوات الأخيرة من حكمه، عاد فدافع عن شرعية ثورة يوليو، وعدَّ التشكيك فيها تشكيكًا في شرعيته كرئيس، وهو ما ذكره في خطابه الأخير في مجلس الشعب في سبتمبر/أيلول 1981.

لكن مبارك جاء للحكم؛ وفي ذهنه شرعية حرب أكتوبر فقط. كان احتفاله بالثالث والعشرين من يوليو جزءًا من واجباته كرئيس لنظام جمهوري أنتجته ثورتها. بينما حرص على أن يكون احتفاله بالسادس من أكتوبر احتفالًا شخصيًا، لإدراكه أن تلك الحرب هي التي أنتجت شرعية نظامه السياسي.

ولهذا السبب تم ربط إنجازه كقائد للطيران في الحرب بكل إنجازاته كرئيس. خططه للتنمية أو الاستثمار أصبحت عبورًا ثانيًا بعد العبور الأول. رفع سقف الحريات في الصحافة، المسيطر عليها أمنيًا، أصبح رمزًا لمعنى الحرية التي فتحت بابها الضربة الجوية.

كما تم التحكم في أسماء الأشخاص الذين سوف يُنسب إليهم النصر. فخلال سنوات السادات ومبارك، خلت قائمة "صناع النصر" من اسم رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي. بينما حصل السادات ومبارك على النصيب الأكبر من الاحتفاء. وفي المرتبة الثانية جاء اسم القائد العام ووزير الحربية خلال الحرب المشير أحمد إسماعيل، ورئيس هيئة العمليات المشير محمد عبد الغني الجمسي، ومعه قادة الأفرع الرئيسية الآخرين مثل قائد الدفاع الجوي محمد علي فهمي.

عالم ما بعد أكتوبر

لم يقتصر دور حرب أكتوبر على منح الشرعية لنظام سياسي بقيادة مبارك فحسب. وإنما صنعت تلك الحرب عالمًا جديدًا من التفاعلات في إقليم الشرق الأوسط. فبسبب القيود التي وضعتها الدول العربية النفطية على إنتاج الخام وبيعه خلال الحرب، ارتفعت أسعاره في العالم، وقفزت إلى مستوى سعري جديد بعد الحرب لم يكن متحققًا قبلها.

ارتفاع الأرصدة المالية للدول العربية النفطية بعد حرب أكتوبر، أدى إلى انتقال جزء كبير من الثقل السياسي إلى عواصمها، وبدأت بعض الدول العربية النفطية في عقد تحالفات أعمق مع الدول الغربية، أو في دعم حركات وجماعات حول العالم لتحقيق رؤاها السياسية.

كما مهدت الحرب لعقد اتفاق للسلام بين مصر وإسرائيل، وهو الأمر الذي تعود محاولات عقده إلى بداية الخمسينيات، عندما أرسلت إسرائيل عدة رسائل إلى عبد الناصر من أجل الوصول إلى تفاهم بشأن السلام. أولى تلك الرسائل كانت من بن جوريون إلى عبد الناصر، وحملها النائب في مجلس العموم البريطاني ريتشارد جروسمان. رفض عبد الناصر الرسائل الإسرائيلية، وقال لحامليها من المسؤولين البريطانيين والأمريكيين إن الأولوية بالنسبة إليه هو جلاء القوات البريطانية عن مصر. 

كما جرت محاولة أخرى عبر العالم اليهودي ألبرت أينشتاين، الذي تواصل مع عضو الوفد المصري لدى الأمم المتحدة محمود عزمي، ومن خلاله التقى محمد حسنين هيكل في ديسمبر/كانون الثاني 1952، حيث طلب منه إخطار عبد الناصر برغبته في العمل كوسيط لعملية السلام بين مصر وإسرائيل. قام هيكل بتسليم الرسالة إلى عبد الناصر الذي لم يقبل مبادرة أينشتاين. لكن الأخير لم يستسلم وحاول أن ينقل الرسالة نفسها عبر رئيس وزراء الهند، جواهر لال نهرو، وهي المحاولة التي لم تنل نصيبًا من النجاح.

رغم ذلك تواصل الدبلوماسي المصري عبد الرحمن صادق عام 1953 مع الملحق العسكري في السفارة الإسرائيلية في باريس. بعض المصادر أشارت إلى أن المحاولة كانت تهدف إلى التوصل لاتفاق سلام بين مصر وإسرائيل. لكن مصادر إسرائيلية قالت إن المباحثات كانت محاولة لمنع إعدام المتورطين في عملية "سوزانا"، التي تضمنت قيام يهود مصريين بتنفيذ عمليات إرهابية وتخريبية، شملت محاولات تفجير مصالح بريطانية وأمريكية ودور للسينما، من أجل الإضرار بالعلاقات الجيدة بين القاهرة وواشنطن ولندن آنذاك، وعرقلة جلاء القوات البريطانية عن قناة السويس.

حتى بعد حرب 1967، عرض موشيه ديان اتفاقًا للسلام مع مصر مقابل انسحاب إسرائيل من سيناء. حملت العرض فدوى طوقان، التي كتبت في مذكراتها أنها حملت عرضًا للسلام من ديان إلى عبد الناصر، حيث قابلته في القدس في أكتوبر 1968، ثم زارت القاهرة بعدها وقابلت جيهان السادات في منزل الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين، وعبر أنور السادات، التقت فدوى عبد الناصر ونقلت إليه الرسالة التي رفضها.

تم ذكر ذلك في كتاب أحمد بهاء الدين محاوراتي مع السادات، وفي مذكرات فدوى طوقان الرحلة الأصعب. كما ذكر المبادرة موشيه نفسه، في لقائه مع السادات في اليوم العاشر من مفاوضات منتجع كامب ديفيد عام 1978.

وفق كتاب لورانس رايت 13 يومًا في سبتمبر، هاجم السادات تعنت الإسرائيليين في تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في سيناء. كان ديان وعد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر قبل اللقاء بأنه لن يتحدث مع السادات في تفاصيل المفاوضات، كي لا ينسحب الأخير من كامب ديفيد.

لكن ديان نسيَّ وعده وذكّر السادات برفض عبد الناصر لعرض إسرائيل بإعادة سيناء بعد حرب 1967 مقابل السلام، وقال "ماذا كان ردكم؟ ما أخذ بالقوة سوف يسترد بالقوة. ماذا كنتم تعتقدون أننا فاعلون؟ أن نجلس مكتوفي الأيدي بينما تعلنون أنكم غير مستعدين للتصالح مع وجود إسرائيل؟".

بعد حرب 1973، استطاع السادات أن يمهد للرأي العام في الداخل خطواته نحو عقد اتفاق للسلام مع إسرائيل. فالضغوط الشعبية التي كانت قائمة قبل الحرب بضرورة القيام بعمل عسكري لتحرير سيناء، خفت كثيرًا. والعلاقة مع إدارة نيكسون وبعدها إدارة فورد من خلال هنري كيسنجر، كانت قد توطدت.

ومن خلال الزخم الذي حصل عليه السادات في أعقاب حرب أكتوبر بفضل جهده البارع في تصوير نتيجتها لجمهور خطاباته بأنها نصرٌ حاسم، مثل خطاب مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر 1973، وجملته الشهيرة "الآن أصبح للوطن درعٌ وسيف"، استطاع أن يبرر مبادرته بزيارة القدس عام 1977، ليصبح أول زعيم مصري وعربي يلتقي في العلن بزعماء إسرائيل وجهًا لوجه، "وفي الكنيست ذاته".


بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في عام 1979، التي كانت إحدى نتائج عالم ما بعد الحرب، انسحبت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، وبات طريق إسرائيل نحو مغامرات عسكرية في العالم العربي خاليًا من أي احتمالات لتدخل عسكري مصري. حدث ذلك خلال غزو لبنان في 1982، أو الغارة الإسرائيلية على تونس عام 1985، أو العمليات العسكرية في لبنان والأراضي الفلسطينية التي تكررت خلال العقود التالية على التوصل لسلام مع مصر.

أصبح الحفاظ على السلام مع إسرائيل ركيزة أساسية في التحالف المصري مع الولايات المتحدة. كما أصبحت كلمة "السلام" ودلالتها الوحيدة بأنها مع إسرائيل تحديدًا، جزءًا من الخطاب الرسمي المصري منذ 1977. ولم يكن هذا ليتحقق سوى بعد حرب 1973.

بعد خمسين عامًا على حرب أكتوبر 1973، تبدو عملية تلخيصها في كلمات مثل النصر الكامل، أو النصر المنقوص، تبسيطًا مُخلًا في حق حدث كبير ومركب ومتعدد الجبهات وقابل للتأويل من أطرافٍ متعددة. يمكن القول إن الحرب جعلت مصر الرابح الأكبر عندما نجحت في استعادة سيناء دون مستوطنات إسرائيلية.

لكن الذي بقيَّ من الحرب في ذكراها الخمسين أنها كانت انتصارًا كاملًا لعبد الودود، الجندي المصري الذي ظل في الجيش بعد حرب 1967، وشارك في حرب الاستنزاف لثلاث سنوات، ثم في التدريب لثلاث أخرى، ثم حارب 23 يومًا في أكتوبر 1973، وحوصر مع الجيش الثالث لثلاثة أشهر أخرى.

عبد الودود الذي كتب له أحمد فؤاد نجم رسالة يقول فيها:

واه يا عبد الودود

عقولَّك وأنت خابر.. كل القضية عاد

ولسا دمّ خيَّك.. مشرباش التراب

حِسّك عينك تزحزح.. يدّك عن الزناد

خليك يا عبدو راصد.. لساعة الحساب

آن الأوان يا ولدي.. ما عاد إلا المعاد

تنفضّ الشركة واصل.. وينزاحوا الكلاب

إن كنت وادّ أبوك.. تجيبلي تار أخوك

والأهل يبلّغوك.. جميعًا السلام

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.