تصميم: يوسف أيمن - المنصة

الأغنية السياسية كحوار عابر للحدود

منشور الجمعة 15 ديسمبر 2023

يزخر تاريخ الإيقاع الغنائي العالمي بمخزون ثقافي متنوع، عبَّر الناس من خلاله عن كلِّ المشاعر وتناقضاتها في الحب والفراق والسعادة والوهم. كما قدَّم أيضًا الأغنية السياسية عبر العصور، باعتبارها النبض الشعري للمقاومة على اختلاف شعاراتها.

من الأبيات الغنائية لحركات التحرر المبكرة في العالم العربي، إلى أغاني الثقافة الغربية المناهضة لاستعباد الإنسان في قوالب حداثية فرضتها سياسات الرأسمالية، مرَّت الأغاني السياسية في رحلة سعت إلى ضبط نشاز الإيقاع السياسي، وربطته بحلم التغيير ونسيج التجربة الإنسانية المشتركة.

الأغنية السياسة في العالم العربي لم تكن فقط وليدة السياقات والأحداث التي أنتجتها بشكل مباشر، بل تعكس أيضًا رحلة طويلة، امتدت من القصيدة الهجائية في العصور الأولى، وصولًا للغنائية العربية السياسية، التي أصبحت مع الوقت أكثر خفةً مع اللحن وأوسع انتشارًا. 

شهد العالم العربي ما يشبه الانتفاضة الغنائية للتعبير عن حماسة الحركات التحررية الوطنية، فأصبحت الأغنية السياسية رفيقة النضال ضد الاستعمار. لم تكن مجرَّد موسيقى وكلام لبثِّ العواطف، بل أيضًا وسيلةً لتثقيف الجماهير بشأن تطلعاتهم السياسية والاجتماعية. فصلٌ دراسيٌّ غنائيٌّ في فن التعبير عن التطلعات.


ومع تطور هذه الأغاني على مدى العقود اللاحقة، تحولت نغماتها من سرد المطالب الوطنية إلى تنسيق المناقشات حول القضايا السياسية الملتهبة؛ الحرب والسلام، والديمقراطية، والحريات الفردية. وتحولت الأغنية السياسية إلى محادثة ديناميكية مع الموسيقى، تتطور مع تطور المشهد السياسي المتغيِّر باستمرار. 

إيقاع عربي منقسم

لبنان، بتاريخه المضطرب، موهوبٌ في نسج الروايات السياسية من خلال الأغاني. من الاحتلال الفرنسي إلى الحرب الأهلية؛ عكست الأغاني السياسية اللبنانية صراعات الأمة وانتصاراتها وهزائمها، كما عكست انقسامها أيضًا. بين الخلاف على تعريفات الأغنية الوطنية والأغنية "السياسية الملتزمة"، عبَّر اللبنانيون عن انقساماتهم. 

أغاني السيدة فيروز الكثيرة في حب الوطن كانت محل إجماع باعتبارها الصوت الجامع الذي لن يختلف كثيرون عليه وهو يقول "بحبك يا لبنان يا وطني بحبك.. بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك".

لكنَّ هذا الحب يأخذ أبعادًا أكثر تعقيدًا في التعبير عنه، حين تصبح الأغنية أيديولوجيا بعينها، تعبر عن الرؤية للوطن وبالتالي عن محبته. فجاءت الأغنية التي عُرفت بـ"المتلزمة"، لتُعبِّر عن رفض الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وتنتقد الطبقة الحاكمة وتناصبها العداء، وتؤكد الامتداد العربي لهذا البلد. 


فنانو هذا النوع الغنائي مثل مارسيل خليفة وأحمد قعبور ينتمون إلى تيارات يسارية متنوعة، في مقابل تيار يميني بتنويعاته، يعبر عن أيديولوجية قومية لبنانية بحتة، يتغنى بوحدته على أسس داخلية ويتمسك بقيم رأى أصحابها أنها فقط ما يعبّر عن لبنانية بلدهم. يحضرني من فناني هذا التيار باسكال صقر، التي لقبت بـ"سفيرة الفن الوطني". 

خفت نجم الأغنية السياسية أو الوطنية بعد الحرب الأهلية اللبنانية وتحوُّل الصراع اللبناني الإسرائيلي من صراع يعني معظم اللبنانيين إلى حرب يخوضها حزب ديني محدود على طائفة دينية واحدة، لتصبح الأغنية نشيدًا جهاديًا يقتصر انتشاره وتأثيره على أصحابه فقط.

لا تقتصر هذه الحالة على النموذج اللبناني فقط، بل نجدها في مصر أيضًا؛ من أغاني سيد درويش مرورًا بالسيدة أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، حتى الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، اللذين أسسا الأغنية السياسية بمعناها الحديث في مصر، وصولًا إلى بعض الشباب والفرق الشبابية الذين برزوا مع ثورة يناير والسنوات التي تلتها، قبل أن يختفوا تدريجيًا من المشهد في وقتنا الحالي.


عبَّرت السردية الغنائية المصرية أيضًا عن تعدد الرؤى لمسألة الوطنية وحب الوطن، كلٌ حسب منظوره؛ إمام ونجم بتوجهاتهما اليسارية يعبِّران عن معاناة الناس في وجه فساد الحكم وارتهاناته الخارجية، ما جعلهما خصمين دائمين للنظم السياسية التي عايشاها، في مقابل تيار عبَّر عن دعمه لقرارات الدولة في الحرب والسلم، وعن حبِّ الحاكم والغناء باسمه مباشرة.

إيقاع غربي أبعد من الموسيقى

تجاوزت الأغنية السياسية في أوروبا والغرب حدود الألحان والترفيه وأصبحت أناشيد للتغير الاجتماعي، وعززت روح الثقافة المضادة مثل فرقة البيتلز في الستينيات، وبينك فلويد ورولينج ستونز في السبعينيات. كانت تعبيرًا مباشرًا عن احتجاجات هذا الجيل، التي تردد صداها العالمي إلى ما هو أبعد من الموسيقى.

استطاعت هذه الأغنية تجاوز محدودية الرؤى الأيديولوجية التي وسمت الأغنية العربية، وتجاوزت في معانيها الحدود الجغرافية والثقافية، لمعانٍ أكثر شمولًا وقيمٍ تجتمع عليها البشرية.


تطرقت الأغاني السياسية الغربية إلى القضايا العالمية، من حرب فيتنام في Gimme Shelter، إلى الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مع Biko، لتصبح محادثات عالمية مضبوطة على الموسيقى، تعمل بصمت على تشكيل وجدان جمعي يجعل الهم الإنساني حملًا مشتركًا على الجميع أن يشعروا بثقله.

تحرير الأغنية العربية

تحتاج المعاني الإنسانية في الأغنية السياسية العربية إلى أجنحة تساعدها على تجاوز الأيديولوجي والديني، وفي هذه الأرض حكايات كفيلة بجعلها شاهدًا تاريخيًا على معاناة الإنسان في عصرنا الحديث لشعوب عانت وتعاني من حكامها وأنظمتها، ومن احتلال أراضيها وخيراتها ومصادرة قراراتها، قصص عن المقاومة والصمود والقدرة على الاستمرار والميلاد من تحت الركام مرات ومرات.

عليها أن تنزع عن سرديتها الأدبية والفنية رداء محدودية "الانتماء" إلى براح الوجود الانساني، أن تتحوَّل إلى همٍّ جمعيٍّ يؤرِّق البشرية بالكلمة واللحن والمعنى، وأن تكون شهادات حية على قوة الألحان في إعادة تعريف رحلتنا المشتركة وسردها.

وبينما نستمع إلى أوتار التغيير السياسي، دعونا نتذكر أنه في كل قصيدة غنائية، هناك نشيد وطني يتجاوز الحدود ويخاطب روح عالمنا المترابط. 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.