جاءت مها إلى مصر بصحبة شقيقتها وطفلها الرضيع بعد نحو أسبوع من اندلاع الحرب في أم درمان بالخرطوم، حيث كانت تقيم. تقول لـ المنصة "مفيش أصعب من إنك تسيبي بيتك وعيشتك وأهلك وناسك، من غير طبعًا لا فلوس ولا بتبقي جاهزة ولا الكلام ده كله".
اضطرت مها، التي تبلغ من العمر 26 سنة، لتَرْكِ زوجها وأخيها ووالدها، وحاولت الاستقرار في القاهرة مع والدتها وأشقائها الستة، المستقرين هنا منذ فترة بسبب مرض الأم.
كانت الرحلة صعبة "جيت تهريب، أنا كشخص طالع من الحرب ما كنت جاهزة"، كما أنها دفعت مبلغًا كبيرًا "هو استغلال يعني، وطبعا السوداني يستغل وغيره يستغل، والناس اللي في أسوان بيمسكوا رهاين ولازم تدفعي قروش عشان تطلعي".
قبل شهور، وبسبب الحرب، انقطع الاتصال بين مها وأسرتها في الخرطوم "ما عارفين هم عايشين ولا ما عايشين".
قبل مجيء مها إلى مصر بنحو سبع سنوات، وصلت الإريترية سيتي، تحديدًا في 2016، عبر الحدود الجنوبية. في 2013 هربت سيتي من إريتريا إلى السودان. لم يكن لديها المال الكافي حتى لاصطحاب ابنتها معها، فبخلاف الوضع السياسي والاقتصادي الصعب في إريتريا، أُجبرت على الزواج من رجل أكبر منها وهي في عمر السادسة عشرة. تقول لـ المنصة "معرفتش أعيش العيشة اللي أنا عايزاها، حاولت أتطلق، كنت ضايعة. مكنتش راضية إني أتجوز وأحمَل وصحباتي يروحوا المدرسة. اضطريت أسيب بنتي صغيرة 3 سنين، ورحت السودان".
الأزمة الاقتصادية محليةٌ بالأساس بسبب اعتماد السياسات الاقتصادية على التوسع في الدين الخارجي
في السودان عملت سيتي في نظافة المنازل، لكن الوضع هناك كان صعبًا، فقررت المجيء إلى مصر. لم تستطع المرأة التي تبلغ الآن 32 سنة أن تحضر ابنتها إلا في 2020، أي بعد ثماني سنوات من فراقها.
لا يمكن لأي إريتري تَرك البلاد بدون تصريح العودة، وإلا تعرّض للسجن والتعذيب بسبب الخروج بصورة غير نظامية، لأن النظام الحاكم في إريتريا يفرض الخدمة العسكرية على كل الإريتريين تحت سن الـ 50، وقد تطول لأجل غير مسمى.
تكاليف المعيشة
وإن اختلفت أسباب فرار سيتي ومها من بلديهما، فإن الصعوبات التي تواجهانها في بلد اللجوء واحدة، ومن ضمنها الحملات العنصرية المتزايدة ضد اللاجئين والمهاجرين، خاصة من بلاد أفريقية، فضلًا عن الوضع الاقتصادي الصعب في مصر.
ينفي وائل جمال، الباحث الاقتصادي، وجود علاقة بين تردي الأوضاع الاقتصادية وتزايد أعداد النازحين قسريًا لمصر، وهو ما تردده حملات عنصرية ضد اللاجئين وبعض التصريحات الحكومية.
يقول جمال لـ المنصة "الأزمة الاقتصادية محلية بالأساس، بسبب سياسات اقتصادية اعتمدت بشكل كبير على التوسع في الدين الخارجي، والإنفاق على مشاريع مكلفة بلا عائد اقتصادي، مثل الإنفاق الأسطوري على الطرق في مقابل التقشف العميق في الإنفاق على التعليم والصحة مثلًا. كل هذا زاد من هشاشة الاقتصاد المصري الذي تعرض لضربات متوالية".
يحمّل جمال السياسات الاقتصادية المتبعة منذ 2016 مسؤولية الزيادة الملموسة في عدد الفقراء "فيه توقع بيقول إنها هتوصل لـ36% من المصريين، وده توقع، في رأيي، متفائل".
لا يمكن للاجئين الحصول على مساعدات من الجهات المختصة إن لم يسجلوا أنفسهم في المفوضية، لأن قانون الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين رقم 82 لسنة 2016 يجرّم "تقديم أي دعم من أي نوع لشخص معهوش وثائق" يقول نور خليل، الباحث والناشط ومدير منصة اللاجئين في مصر لـ المنصة.
وبالرغم من أن مها وسيتي مسجّلتان بالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وبالتالي مستحقتان للدعم، فإن ذلك لم ينقذهما. سيتي لاجئة تحمل بطاقة تسجيل زرقاء، ومها حصلت لتوها على البطاقة الصفراء، كملتمسة لجوء لدى المفوضية.
يبلغ عدد اللاجئين المسجلين في المفوضية حوالي 500 ألف
الاثنتان تعانيان من ارتفاع الأسعار. منعت سيتي اللحوم من البيت، قد تشتري نصف كيلو بانيه كل فترة وتقسمه على وجبتين، بينما تتناول هي وابنتها المكرونة معظم الوقت، كما خفضتا ما تستهلكانه من سكر لملعقة واحدة في المشروب. أما مها، فارتفاع عدد أفراد أسرتها يزيد الوضع صعوبة، بالذات وأن بينها طفلتين، "المصاريف كثيرة والوضع مأساوي، بكتفي بوجبة واحدة يوميًا".
لكن المشكلة الأكبر بالنسبة لمها وسيتي هي الإيجار والعلاج ومصاريف المدارس. لم تحصل مها على مساعدات بعد، أما المساعدات التي تحصل عليها سيتي من المفوضية فضئيلة للغاية "كل شهرين، حاجة بسيطة يعني كانت 1300 جنيه، دلوقتي 2000 وحاجة عشان بنتي".
بالرغم من التصريحات الحكومية أن مصر لديها 9 ملايين "ضيف"، وآخرها كان لرئيس الحكومة مصطفى مدبولي في نهاية أبريل/نيسان الماضي، والذي أكد فيه أيضًا أنهم يكلفون الدولة أكثر من 10 مليارات دولار سنويًا، إلا أن عدد اللاجئين المسجلين في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في مصر يبلغ حوالي 500 ألف، وفق آخر تسجيل في نهاية 2023.
والمفوضية هي الجهة المسؤولة عنهم بموجب اتفاقية 1951 الخاصة باللاجئين ومذكرة تفاهم بين الحكومة المصرية والمفوضية منذ 1954.
تعليم متعثر
حسب الباحث نور خليل، وإيناس، اللاجئة الإريترية والقيادية في المجتمع الإريتري بالقاهرة، فإن للمفوضية عدة شركاء دوليين ومحليين وهم مسؤولون عن تقديم خدمات للمسجلين لدى المفوضية. توضح إيناس لـ المنصة "اللاجئ محتاج سكن وغذاء وتعليم وصحة. وطبعا المواضيع دي متفرقة في كذا مكان".
تقدم مؤسسة كاريتاس المساعدات الغذائية والصحية، توضح إيناس "فيه تلات حالات إما مستحق، أو غير مستحق، أو على قايمة الانتظار. وفي الحالات الصحية بيعملوا تقييم للحالة، وبعد كدة بيعطوهم علاج شهري"، تلاحظ إيناس تناقص أعداد من يرونهم يستحقون الدعم هذا العام والعام الماضي.
أما بالنسبة للدعم التعليمي، توجد هيئة الإغاثة الكاثوليكية CRS لكن "مشكلتها بتفتح التسجيل للمنحة التعليمية لفترة معينة، مرحلة الحضانة، وبعدين المرحلة الأساسية وبعدين الثانوية، وفيه تاريخ معين للتقديم"، تقول إيناس.
يدفع التلاميذ اللاجئون في التعليم الأساسي رسومًا تصل لـ3000 جنيه للمدارس الحكومية
قيمة المساعدة زهيدة بالنسبة لمصاريف المدارس، توضح إيناس "الطالب بياخد 1500 أو 2000، ورسوم أقل مدرسة مجتمعية 8 آلاف في السنة. غير المقعد والتسجيل والزي والكتب والمواصلات".
لا يتأقلم الطلبة في المدارس الحكومية بسبب العنصرية ضد التلاميذ الأفارقة من ناحية، وبسبب عائق اللغة والأوراق، خاصة بالنسبة للإرتيريين، الذين يواجهون صعوبة شديدة بسبب عدم وجود شهادة ميلاد للأطفال في إريتريا، وهو ما اتفق عليه إيناس وخليل.
تقول سيتي "بنتي 3 سنين مجهولة من غير كارت، عشان معنديش إثبات، لأن مفيش شهادة ميلاد في إريتريا. مش بتمتحن، بتدرس على الفاضي" لكنها نجحت هذا العام في الحصول على الكارت.
في التعليم الحكومي، يدفع التلاميذ اللاجئون في التعليم الأساسي رسومًا تصل لـ3000 جنيه، وفي الجامعات تصل لـ 8 آلاف دولار. أما المدارس المجتمعية السودانية، التي يلجأ لها السودانيون والإرتيريون، فتصل إلى 15 ألفًا، وأقل مدرسة 8 آلاف في السنة"، حسب إيناس.
اضطرت مها لإخراج شقيقتين لها من التعليم بسبب المصاريف، والثالثة تدرس في المرحلة الثانوية لكنها لم تحصل على شهادة، فهي غير مقيدة. تقول "بقالها سنتين ما عارفة تدخل الجامعة، وعندي اتنين ما قادرة أدخلهم مدرسة، مرّات بيكون المدرسة والإيجار كلهم مع بعض". راتب مها لا يتجاوز 2500 جنيه شهريًا.
إيجارات سياحية
إيجار السكن مشكلة إضافية، خاصة مع استغلال الملاك والسماسرة لظروف اللاجئين، يقول نور خليل "مع النزوح السوداني حصل استغلال، بيزودوا الإيجارات على الناس"، متسائلًا عن المسؤول عما آلت إليه الأوضاع "عشان مفيش تحديد لأسعار الإيجارات ولا فيه رقابة على ده" معتبرًا السودانيين ضحايا كما المصريين.
بسبب هذا الاستغلال، تسكن سيتي مع أسرة إريترية أخرى "إنتي أكتر همك إيه؟ الإيجار، لو مادفعتيش الإيجار هتكوني في الشارع"، أما مها فعليها إخلاء شقتها بعد شهرين "رفع علينا الإيجار من 1800 لـ3500، ولما حاولنا ندور بره لقينا بـ6500 و8000 على البلاط، وما عايزين أسر كبيرة".
مع غياب أو بطء المساعدات من المفوضية وشركائها تضطر مها وسيتي للعمل، تواجه اللاجئتان كثيرًا من السب في الشارع وفي المواصلات ومن الجيران، مع المطالبة بطردهما وعودتهما لبلادهما.
في أماكن العمل المعاناة أصعب، في بداية إقامتها في مصر، اضطرت مها للعمل دادة في حضانة مجاورة لها وتعرضت لمعاملة سيئة للغاية، تذكرت هذه الفترة وبكت. الآن بعدما حصلت على الكارت الأصفر من المفوضية، تعمل مشرفة باص في مدرسة سودانية، ما تعتبره ارتقاء عن الوظيفة الأولى، رغم شهادتها في الاقتصاد والعلوم السياسية، وحتى الوظيفة الجديدة راتبها لا يكفي مصاريفها وأسرتها.
أما سيتي فتعمل في نظافة المنازل. بحرقة شديدة حكت عن تعرضها للتعنيف والإهانة والعنف الجنسي في بيوت عملت بها، لكنها خافت أن تشكو في قسم الشرطة، وحين حاولت الشكوى بالمفوضية طلبوا منها إثبات تعرضها لاعتداء جنسي.
تصف سيتي تأثير ذلك عليها بقولها "أنا هاكتم على نفسي، هيجيلي اكتئاب. أنا أصلًا عانيت كذا مرة، شعري كان طويل، قطفت شعري. وفترة كده قعدت في البيت من غير شغل"، حتى ابنتها التي لاحظت اكتئابها طلبت منها عدم العمل في المنازل بالشهرية. الآن تعمل باليومية، واليوميات لا تكفي.
يراود الأمل بعض اللاجئين في ترك مصر، لكن الحال ليس كذلك بالنسبة لسيتي التي تقضي أيامها في كسب عيشها ومقاومة الممارسات العنصرية في الشارع والعمل.