كلما استحكمت الأزمات، بحثت الحكومة المصرية عن "شماعة" تعلِّق عليها إخفاقاتها وسوء تدبيرها، بدلًا من تحمُّل المسؤولية وإعلان خطةٍ لتصحيح المسار، تتبنَّى سياسات بديلة تشارك في وضعها وتنفيذها خبرات وكفاءات من خارج الدائرة التي أوصلتنا إلى حافة الهاوية.
اختلفت "الشمَّاعات" خلال السنوات الماضية ولا تزال الأزمات مستمرةً. فمن زيادة السكان إلى الجائحة، ثم الحرب في أوكرانيا، ومن بعدها حرب غزة، حتى وصلنا أخيرًا إلى الشماعة الأكثر خطورة؛ "اللاجئين" أو "ضيوف مصر" من الأشقاء العرب والأفارقة الذين يجري تحميلهم تبعات الأزمة الاقتصادية الخانقة، وبلغ الأمر التحريض عليهم وإشاعة أفكار عنصرية كتلك التي تفشت في شمال المتوسط ضد المهاجرين واللاجئين الأجانب، ومعظمهم من بلادنا.
قبل إعادة تكليفه بتشكيل حكومة جديدة، عقد رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي اجتماعًا في أبريل/نيسان الماضي، لـ"متابعة حصر ما تتحمله الدولة من مساهمات نظير رعاية ضيوفها من مختلف الجنسيات والوافدين".
وفقًا للبيان الصادر عن مجلس الوزراء، قال مدبولي إن عدد الوافدين المقيمين في مصر طبقًا لبعض التقديرات الدولية وصل إلى أكثر من 9ملايين ضيف ولاجئ يعيشون في مصر من نحو 133 دولة، بنسبة 8.7% من إجمالي السكان.
وفي وقتٍ لاحق، لفت مدبولي النظر إلى أن هؤلاء "يكلفون الدولة نحو 10 مليارات دولار سنويًا رغم الأزمة الاقتصادية التي نعاني منها"، مشيرًا إلى أن الحكومة ستقوم بتدقيق أعداد اللاجئين، وحصر وتجميع ما تتحمله الدولة مقابل الخدمات التي تقدمها لهم في مختلف القطاعات.
مرَّ على هذا الإعلان نحو ثلاثة شهور، ولم تعلن الحكومة بعد هذا التدقيق الذي وعدت به، كما لم تكاشف الرأي العام بأن بعضًا مما حصلت عليه أو ستحصل عليه من منح ومساعدات وقروض، سواء من الاتحاد الأوروبي أو الجهات المانحة الأخرى، مرتبط بدورها في ملف اللاجئين ومكافحة الهجرة غير النظامية.
التلاعب بأمن المجتمع
يبدو أن بيان الحكومة عن هذا الملف الشائك لن يرى النور، فغياب الحقائق الموثقة والأرقام الدقيقة يضرب عصفورين بحجر واحد؛ إذ يفتح الباب أمام الحكومة لطلب مزيد من الدعم الأجنبي، كما يمنحها فرصة استخدام القضية شماعةً تعلق عليها إخفاقاتها، حتى تبرِّئ ذمتها أمام الرأي العام.
لا تُقدِّر الحكومة ومن خلفها مروجو الدعاية اليمينية السوداء ضد الأشقاء السوريين والسودانيين وغيرهم من الأفارقة، أن النفخ في فتنة اللاجئين وإطلاق حملات الشحن وإثارة نعرات الكراهية ضد ضيوف مصر قد يشعل نارًا يصعب السيطرة عليها وإخمادها. وعندما تدفع تلك الحملات بعض الغاضبين من الذين تم التغرير بهم إلى التعامل بخشونة مع هؤلاء الضيوف، ما قد يتطور إلى أعمال عنف، ستجد الحكومة نفسها عاجزة عن صرف "العفريت" الذي حضَّرته.
إضافة إلى التبعات الأمنية لهذه الدعاية العنصرية فإن هؤلاء الضيوف من أهم أوراق القوة المصرية
اللافت، أنه في ظل حملات الشحن ضد "اللاجئين"، التي تستند عادة إلى تصريحات مسؤول ما يعاد تدويرها في البرامج والصحف والسوشيال ميديا، يشدد الرئيس عبد الفتاح السيسي على أن مصر لا يوجد بها "لاجئون"، إذ اعتذر في يونيو/حزيران الماضي عن استخدام هذا المصطلح، واستبدل به تعبير "ضيوف مصر".
في تركيا، التي تستقبل أكثر من 3.5 مليون لاجئ سوري، أدت حملات الشحن والعنصرية والكراهية ضد اللاجئين السوريين إلى انفجار أعمال عنف متكررة، كان آخرها ما حدث قبل أسبوعين في ولاية قيصري وسط البلاد.
عاشت الولاية مطلع هذا الشهر حالةً من التوتر والاضطرابات وأعمال الشغب، بعد الاعتداء على لاجئين سوريين وإحراق ممتلكاتهم، بسبب اتهام شاب سوري بالتحرش بطفلة تركية، تبين لاحقًا أنها سورية. أشعلت هذه الحادثة فتيل العنف والشغب في نحو 10 ولايات تركية يعيش فيها سوريون نزحوا إلى جارتهم الشمالية، بعد أن ضاقت بهم بلادهم التي شهدت حربًا أهليةً منذ أكثر من 10 سنوات.
جذور هذا العنف بُذرت خلال السنوات الأخيرة، مع تراجع الاقتصاد التركي وتدني قيمة الليرة، إذ حمَّلت أحزابٌ يمينيةٌ وبعضُ المنصات الإعلامية حزبَ العدالة والتنمية الحاكم مسؤولية التدهور الاقتصادي، لا سيما ما يتعلق بملف اللاجئين، الأمر الذي لاقى صدى لدى الكثير من الأتراك، وأدى إلى ازدياد النقمة على مجتمعات اللاجئين في البلاد.
حرقُ ورقة رابحة
إضافة إلى التبعات الأمنية الكارثية التي قد تؤدي إليها هذه الحملات، لا يعلم مروجو الدعايات العنصرية ضد من يعتبرونهم "لاجئين"، أن هؤلاء الضيوف هم من أهم الأوراق التي صنعت لمصر دورها الإقليمي والدولي.
وإذا لم يكن اليمين المصري الجديد أو "المصطنع" مؤمنًا بأي قيم إنسانية ولا قومية ولا دينية، ولا يعرف سوى لغة المصالح، فبلغة المصالح هذه؛ أضاف استقبال مصر لأشقائها وجيرانها من جل الأجناس طوال تاريخها، إلى وزنها ثقلًا، حتى صارت أدوات وآليات التأثير تمتد إلى التنوع الديموغرافي ودمج المهاجرين، إلى جانب التاريخ والموقع، وفي بعض الفترات النفوذ الاقتصادي والعسكري.
تاريخيًا، ارتبط دور مصر في المنطقة باعتبار أنها الدار والموطن الثاني الذي لا يغلق بابًا في وجه أي لاجئ أو هارب من الظلم، فالتحم في مدنها وقراها على مر القرون عرب وعجم، ومع الوقت صار هؤلاء جزءًا لا يتجزأ من المجتمع المصري، المتنوع، متعدد الأعراق والأديان والثقافات، ما أضاف بالتراكم ومرور الزمن إلى أدوات القوة الناعمة لمصر دعائم متجددة، وسمح بتبادل وهضم ثقافات شتى على أرض مصر.
قبل أكثر من مائة عام، وهربًا من استبداد وقمع الدولة العثمانية، توجه المفكر والكاتب الحلبي عبد الرحمن الكواكبي أحد رواد النهضة العربية إلى مصر بدعوة من الشيخ جمال الدين الأفغاني، الذي سبقه إليها بسنوات قليلة، فارًا من بطش حكام بلاده وسلطات الاحتلال الإنجليزي التي ضاق صدرها بشجاعته وثباته وجماهيريته.
وعندما سُئِل الكواكبي عن سبب اختياره مصر مقرًا ومقامًا، قال إن "مصر دار العلم والحرية، وإن النهضة العثمانية بفروعها مسبوقة في مصر ومقتبسة منها"، مضيفًا "فالإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد".
ظلت أبواب مصر مفتوحة أمام العرب والعجم من الشرق والغرب. قبل قرن من الزمن، استقبلت عددًا كبيرًا من اليونانيين والطليان والأرمن والشوام الذين لجأوا إليها، إما هربًا من الاضطهاد في بلادهم، أو لأنها كانت الموئل الطبيعي لمواهبهم.
علا نجم عدد كبير من هؤلاء الضيوف الذين اختار بعضهم العودة إلى بلاده الأصلية فيما تمصَّر آخرون، صار منهم وزراء ورجال سياسة واقتصاد وفنون وثقافة. الأرمنيان نوبار باشا رئيس الوزراء وغوص يوسفيان ناظر التجارة، والأفغاني، ومن بعدهم العديد من الشوام مثل الطبيب والعالم شبلي شميل وآل تقلا مؤسسي "الأهرام" وفاطمة اليوسف مؤسسة "روز اليوسف"، وآل صيدناوي وآل النقاش، والشاعر فؤاد حداد، والفنانين جورج أبيض وبشارة واكيم وبركات وعبد السلام النابلسي. ثم الأشقاء السودانيون مثل الشاعرين محمد مفتاح الفيتوري وتاج السر الحسن، والمعماري الطلياني ماريو روسي، وغيرهم كثيرون.
ذاب كل هؤلاء في حب هذا البلد وأخلصوا له وقدموا له الكثير، فقط لأن أبناءه أحسنوا استقبالهم؛ فأكرموهم وهم ضيوف، ثم ساعدوهم على الاندماج وهم مواطنون، لهم حقوق وعليهم واجبات كغيرهم من المصريين.