رغم تراجع إقبال الشركات الصناعية على الاستثمار في أدوات الدين العام حتى يونيو/حزيران الماضي، فإنه ما زال أعلى من مستوياته قبل تعويم مارس/آذار الماضي، ما يعكس استمرار إقبال المصنِّعين على توجيه جانب من فوائضهم المالية للاستثمار في الديون، حتى مع تعافي النشاط الصناعي من ضغوط أزمة الدولار.
وتعكس بيانات الشركات الصناعية المقيدة في سوق المال تباين توجهاتها بشأن الاستثمار في الديون الحكومية، حيث خفضت بعضها هذه الاستثمارات بحدة خلال النصف الأول من العام الجاري، بينما زادت شركات أخرى من استثماراتها.
حسب بيانات البنك المركزي، زادت استثمارات الشركات الصناعية في أذون الخزانة بنحو ثلاثة أضعاف، خلال الفترة من يونيو 2023 حتى مارس 2024، من 8.3 مليار جنيه إلى 23.1 مليار، لكنها اتجهت للتراجع منذ مارس لتصل في يونيو إلى 9.6 مليار جنيه.
وبالنظر لنتائج أعمال الشركات الصناعية المقيدة في سوق المال، فهي عادة لا تشرح الدوافع وراء الاستثمار في أدوات الدين، لكن بيانات العديد منها تعكس استمرار حالة الزخم في استثمارات الديون.
ارتفعت استثمارات مصر لإنتاج الأسمدة (موبكو) في السندات الحكومية خلال النصف الأول من العام الجاري إلى 8.7 مليار جنيه مقابل 2.6 مليار في نهاية العام السابق، وحافظت شركة النساجون الشرقيون على نفس مستويات استثماراتها تقريبًا في أذون الخزانة خلال الفترة نفسها بقيمة 2.2 مليار جنيه، وشركة حديد عز أيضًا باستثمارات بلغت 1.1 مليار جنيه خلال نفس الفترة.
بينما رفعت شركة السويدي إليكتريك من استثماراتها في أذون الخزانة من مليار جنيه إلى مليار ونصف المليار، وزادت بي إنفستمنتس القابضة من استثماراتها في أذون الخزانة خلال نفس الفترة 100.7 مليون جنيه إلى 515.7 مليون.
عوامل مشجعة للاستثمار في أدوات الدين
"رغبة الحكومة والشركات تتلاقى في الفترة الراهنة، إذ تعاني الدولة من معدلات عالية من عجز الموازنة تتطلب تكثيف إصدارات أدوات الدين لسد الفجوة بين الإيرادات والمصروفات، وفي الوقت نفسه تبحث الشركات عن عائد مرتفع ومخاطر منخفضة" كما يقول محلل في قسم البحوث بشركة النعيم القابضة، طلب عدم نشر اسمه، لـ المنصة.
تشير تقديرات الموازنة العامة للعام المالي الحالي 2024/2025 إلى أنه من المرجح تسجيل عجز بقيمة 1.2 تريليون جنيه، بما يمثل 7.3% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي.
بينما تعكس بيانات مؤشر مديري المشتريات للصناعات غير البترولية، الصادر عن ستاندرد آند بورز، كيف انكمش النشاط الصناعي خلال الفترة الأخيرة، خاصة مع تصاعد أزمة شح الدولار خلال العامين الماضيين التي حدت من قدرة المصنعين على استيراد مدخلات الإنتاج.
وحسب مصدر مسؤول في إدارة استثمارات الدخل الثابت في شركة سي آي كابيتال لإدارة الأصول، طلب عدم نشر اسمه، "فإن أدوات الدين الحكومية أصبحت خيارًا مهمًا في الوقت الراهن لكافة الشركات خاصةً المدرجة في البورصة، والتي تبحث دائمًا على تحقيق هامش ربح جيد للمستثمرين، لا سيما مع رفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة في مارس/آذار 2024 وتعويم سعر صرف الجنيه".
وساهمت معدلات التضخم المتصاعدة منذ 2022 في دفع البنك المركزي لتشديد السياسة النقدية، لتصل أسعار الفائدة على الإقراض إلى مستويات مرتفعة منذ مارس الماضي عند 28.25%.
ويضيف المسؤول بإدارة الاستثمارات في سي آي كابيتال "الشركات تركز على أدوات الدين قصير الأجل مثل أذون الخزانة التي تتراوح آجالها بين 3 أشهر حتى أقل من عام حتى تتمكن من استرداد أموالها سريعًا لاستخدامها في مشروعاتها".
تراجع بعض الشركات
في المقابل، أظهرت نتائج الأعمال خلال النصف الأول من العام الراهن تراجع استثمارات شركات أخرى في ديون الحكومة، مثل إيديتا التي تراجعت أرصدتها من أذون الخزانة من 346 مليون جنيه في نهاية العام المالي إلى صفر، وجهينة التي اتجهت أيضًا إلى خفض استثماراتها في الأذون إلى صفر مقابل 817.5 مليون جنيه في نهاية العام الماضي.
وعاد القطاع الصناعي للتعافي، وفق مؤشر ستاندرد آند بورز، الذي سجل نموًا لأول مرة في أغسطس الماضي منذ نحو أربع سنوات، مع تحسن توفير العملة الصعبة في البنوك منذ مايو الماضي.
"بعد أن توسعت الشركات في الاستثمار في أدوات الدين في مقابل خفض أنشطتها الإنتاجية بسبب صعوبة استيراد مدخلات الإنتاج، قلَّصت نفس الشركات استثماراتها في الديون مع التحسن النسبي في توفير الدولار منذ مارس الماضي" كما يقول المصدر في شركة النعيم.
وتلقت مصر دفعة من التدفقات الدولارية خلال الأشهر الأخيرة، بدءًا من صفقة رأس الحكمة في فبراير/شباط الماضي، إلى زيادة قيمة قرض صندوق النقد الدولي من ثلاثة إلى ثمانية مليارات دولار وبدء صرف أقساطه التي تعطلت في 2023 بسبب خلافه مع الدولة على تطبيق بعض الإصلاحات.
"الشركات فكرت في استغلال الموارد المالية لديها في أذون الخزانة حتى تنتهي الأزمة، لأنها استثمار آمن بعوائد جيدة، خاصة وأن أغلب الاستثمارات تتوجه لديون قصيرة الأجل"، كما يضيف المصدر الأخير.
وتؤكد محللة الاقتصاد الكلي، دينا الوقاد، على أن ضغوط أزمة الدولار كانت الدافع الرئيسي وراء الاستثمار في الديون خلال الفترة الماضية، ما يفسر تراجع هذه الاستثمارات بعد تعويم مارس.
"الشركات كانت تعمل في أجواء اقتصادية وجيوسياسية صعبة وسط معدلات فائدة مرتفعة وارتفاع التكاليف وصعوبات في توفير مدخلات الإنتاج وتباطؤ الطلب، ما دفعها لإعادة تقييم أنشطتها الأساسية، وتقليص بعض الاستثمارات أو تأجيل خطط التوسع"، كما تقول الوقاد.
وتلفت محللة الاقتصاد الكلي إلى أن التضخم أحد أبرز مسببات تكثيف الشركات استثماراتها في أدوات الدين الحكومية، إذ تقول "القفزة في معدلات التضخم في مصر دفعت الشركات إلى البحث عن وسائل تحافظ بها على قيمة أصولها النقدية، والتحوط ضد تآكل قيمة الأموال".
ديون أم استثمار صناعي؟
تحتاج مصر إلى تعزيز الاستثمارات الصناعية، التي تساهم بنحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي، ويعوَّل عليها للحد من فاتورة الاستيراد وضغوط شح النقد الأجنبي.
"بمجرد تحسن الأداء الاقتصادي وهدوء التوترات الجيوسياسية وارتفاع مستويات الطلب واستقرار أسعار مدخلات الإنتاج ستبدأ الشركات في توظيف أموالها بشكل أكبر في الأنشطة الصناعية والتجارية التي تعمل بها" كما يتوقع المحلل بشركة النعيم.
لكن الوقاد تشير إلى أن "ارتفاع سعر الفائدة على أذون وسندات الخزانة المصرية بالتزامن مع التراجع المتواصل في معدلات التضخم" سيستمر في جعل الاستثمار في الديون برّاقًا في أعين المصنعين.
وتراجعت معدلات التضخم منذ مارس الماضي، مع تحسن توفير الدولار، لكنها لم تنخفض عن مستوى الـ25%، وعادت لتسجل ارتفاعًا طفيفًا في أغسطس مع تطبيق الحكومة إجراءات إصلاحية ذات أثر تضخمي.