في 2021 قرر جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار السماح لشركات الأسمنت، باتفاق جماعي، بخفض الإنتاج. ومع أن هذا الاتفاق يخالف مبادئ القانون الحاكم للجهاز، كان السماح به مبرره ظرف طارئ، وهو ضعف الطلب الناتج عن وباء كورونا.
ولكن على الرغم من انحسار الوباء، وعدم تجديد حظر التجوال منذ عام 2020، جُدد القرار. ومع اقتراب انتهاء أجل هذا التجديد تقدمت شركات الأسمنت بطلب مد جديد، للسماح لها بالاتفاق الجماعي الذي يساعدها على إبقاء أسعار الأسمنت مرتفعة.
تتعلق آمال شركات الأسمنت بهذا القرار لعلاج خلل يتجاوز آثار الوباء، ويتعلق بسماح الدولة بإنشاء عدد جديد من المصانع خلال السنوات الأخيرة.
وبينما تمكَّنت الشركات من تخفيف الآثار السلبية لدخول طاقات إنتاج، يظل المستهلك هو الخاسر الوحيد مع بقاء الأسعار مرتفعة عبر إذن خاص من جهاز حماية المنافسة.
من أين جاءت الطاقات الفائضة؟
في 2019، وقبل ظهور الحالات الأولى من إصابات وباء كورونا، كانت تقارير المحللين تشير إلى خسائر كبيرة في قطاع الأسمنت، ناتجة عن دخول عدد من طاقات الإنتاج الجديدة، ما أدى إلى فائض كبير من المعروض في السوق.
وشملت هذه الطاقات مضاعفة شركة العريش، التي أسسها جهاز مشروعات الخدمة الوطنية في 2010، من طاقاتها الإنتاجية. إلى جانب افتتاح الجهاز التابع للقوات المسلحة مجمع صناعة الأسمنت ببني سويف، ودخول شركة أسمنت المصريين للخدمة، التي يرأسها رجل الأعمال محمد أبو هشيمة.
وتشير التقارير في هذا الوقت إلى مساهمة الطاقات الجديدة في ارتفاع الطاقة الإجمالية إلى 83 مليون طن سنويًا، في حين أن الطلب يدور حول 53 مليون طنًا فقط.
جاء ذلك في الوقت الذي جرت فيه تصفية شركة أسمنت طرة، التابعة لقطاع الأعمال العام، وكانت هناك توقعات بأن تساهم تخمة المعروض في إخراج 5 أو 6 شركات أخرى من السوق.
"تم إضافة 12 خط إنتاج في آخر 10 سنوات" كما يقول مدحت إسطفانوس، رئيس شعبة الأسمنت باتحاد الصناعات سابقًا، للمنصة.
لجأت الشركات للتصدير لاستغلال الطاقات المتاحة لديها، لكن فرص التصدير المتاحة لا تستوعب تشغيل الخطوط بكامل طاقتها الانتاجية ذات الـ83 مليون طن، حيث تنتج شركات الأسمنت حاليًا 61 مليون طن، منها 51 مليونًا للسوق المحلية، و10 ملايين تُصدر للخارج، ما يجعل لدينا طاقة فائضة بنحو 20 مليون طن.
كيف وافق الجهاز على خفض الإنتاج؟
وجه جهاز حماية المنافسة، الذي تأسس عام 2005، اتهامات لشركات أسمنت بالاتفاق معًا على ممارسات تسمح برفع أسعار منتجاتها، بالمخالفة للمواد 6 و7 و8 من قانون منع الاحتكار، وأصدر القضاء حكمًا بإدانة الشركات عام 2008.
وبعد نحو 13 عامًا من القضية، التي أثارت جدلًا واسعًا في مجتمع الأعمال، تقدمت شعبة الأسمنت بطلب للجهاز يسمح لها بالاتفاق الجماعي على خفض الإنتاج لحماية أسعار منتجاتها من الانخفاض، وهي الممارسة التي تتعارض مع واحد من المبادئ القانونية التي دافع عنها الجهاز في السابق، لكنه وافق على طلب الشركات في يوليو/تموز من 2021.
"حدث ذلك لحماية عدد من المصانع بالقطاع من التصفية، وتقدمت بالطلب لحماية العمال بالمصانع التي لن تستطيع تحمل التحديات التي يواجهها القطاع حينها"، كما يقول إسطفانوس، الذي كان يمثل مطالب 23 شركة أسمنت وقت تقديم الطلب للجهاز.
ولم ينكر جهاز حماية المنافسة آنذاك أن طلب شركات الأسمنت يتعارض مع المادة السادسة في قانون منع الاحتكار، التي تمنع "تقييد عمليات التصنيع أو التوزيع أو التسويق"، لكنه وافق على الإعفاء من هذا الحظر بسبب "ما مرت به البلاد من الظروف المصاحبة لجائحة كورونا والتي ترتب عليها تباطؤ قطاع الإنشاءات".
سجلت صادرات قطاع الأسمنت خلال الأشهر الخمس الأولى من العام الجاري ارتفاعًا بنسبة 33%
جددت الشركات طلبها لجهاز حماية المنافسة خلال العام الماضي، ووافق الجهاز على مد القرار حتى نهاية يوليو الماضي.
وخلال العام الجاري، تحاول شركات الأسمنت مد تطبيق القرار، والذي يأتي مع انتهاء آثار الوباء تقريبًا، لكنها تبرر طلبها باستمرار ضعف الطلب في السوق نتيجة آثار التعويم.
وتشير تقارير إلى انخفاض عدد المشروعات العقارية الجديدة بنسبة 77% خلال الربع الأول من العام الجاري، مقارنة بالربع نفسه من العام السابق.
الشركات تربح بفضل خفض الإنتاج
الوضع الاستثنائي، الذي امتد لعامين، ويقترب من دخوله العام الثالث، كان له انعكاس واضح على نتائج أعمال شركات الأسمنت.
"ساعد قرار خفض إنتاج الأسمنت في تحول شركات كثيرة للربحية، خاصة مع إصرار الـ23 شركة على مد القرار"، كما قال المحلل بشركة برايم لتداول الأوراق المالية، عبد الخالق محمد، للمنصة.
وبحسب نتائج الأعمال المعلنة عن الربع الأول من 2023، استطاعت ثلاث شركات، من إجمالي خمسة مقيدة في البورصة، تحقيق أرباح صافية في هذا الربع.
وأظهرت القوائم المالية المجمعة لشركة العربية للأسمنت، خلال الربع الأول من العام الجاري، ارتفاع أرباح الشركة بنسبة 311% على أساس سنوي، و ارتفعت أرباح شركة مصر بني سويف للأسمنت بنسبة 29% خلال الفترة نفسها، وزادت أرباح مصر للأسمنت قنا بـ 5.7% خلال نفس الفترة.
ويضيف عبد الخالق محمد "ساهم القرار في تحقيق التوازن بين قوى العرض والطلب في سوق الأسمنت، وأدى ذلك إلى زيادة الأسعار ورجوع الشركات للربحية، بالإضافة إلى عدم خروج الشركات الأجنبية من السوق وعدم إغلاق الشركات المحلية".
"ارتفع متوسط سعر طن الأسمنت تسليم أرض المصنع حاليًا إلى 1700 و 1800 جنيه مقابل متوسط سعر يتراوح بين 700 و750 جنيهًا قبل بدء خفض الإنتاج في 2021 " كما تقول ريهان حمزة، نائبة رئيس قطاع البحوث بشركة الأهلي فاروس لتداول الأوراق المالية، للمنصة.
وأضافت حمزة "لولا التحديات الاقتصادية التي مرت بها مصر خلال السنوات الأخيرة والظروف الاقتصادية العالمية، لكان القرار أسهم في تحقيق مبيعات أكبر لشركات الأسمنت".
والمستهلك هو الخاسر الوحيد
"كان قرار خفض إنتاج الأسمنت في صالح الشركات المنتجة، بينما لم يكن في صالح المستهلك" كما قال رئيس شعبة مواد البناء باتحاد الغرف التجارية، أحمد الزيني، للمنصة.
ويضيف الزيني "منذ بداية اتخاذ القرار في يوليو 2021، وأسعار الأسمنت في زيادة متتالية على الرغم من تراجع الطلب بالسوق. بدلًا من خفض الإنتاج، كان من الممكن تصدير الفائض للخارج وطرح الطاقات الباقية في السوق المحلية".
ويشير اسطفانوس إلى أن القطاع استنفد فرصه في التصدير، ، ولا يزال خفض الإنتاج هو الحل الوحيد لإنقاذ صناعة الأسمنت وعدم خروج شركات أخرى من القطاع.
وبحسب أحدث تقرير للمجلس التصديري لمواد البناء والصناعات الحرارية، سجلت صادرات قطاع الأسمنت خلال الأشهر الخمس الأولى من العام الجاري ارتفاعًا بنسبة 33%، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.
وتتوقع ريهان حمزة موافقة جهاز حماية المنافسة على مد القرار لمدة عامين آخرين.
تترقب الشركات تجديد السماح لها بالاستمرار في سياسة من المفترض أن تكون "مؤقتة"، بينما يعاني قطاع الإنشاءات من استمرار ارتفاع تكاليف الإنتاج.