يتجاوز حدث اغتيال الأمين العام التاريخي لحزب الله اللبناني حسن نصر الله الأبعاد العسكرية والرمزية المرتبطة بأيقونيته، كأحد أنجح المناضلين ضد إسرائيل وألد أعداء الصهيونية في الأربعين عامًا الأخيرة، وأكثر مَنْ حظوا بشعبية عارمة عابرة للحدود والخلافات المذهبية، قبل تورطه في المستنقع السوري وحتى بعد هذا التورط، بمواقفه المساندة دومًا للمقاومة الفلسطينية.
ويتجاوز الحدث طبيعته الإجرامية كـ"واحد من أهم الاغتيالات في تاريخ إسرائيل"، كما وصفه وزير الدفاع يوآف جالانت، وله الحق، قياسًا بدور وكاريزما "السيد" وتهديده المستمر لأمن الاحتلال، والأهم.. طاقة الأمل التي كانت تشعّ من صواريخه وخطاباته.
يكرس الحدث لشرق أوسط بمفهوم جديد، أحادي القطب، متمحور حول فرص التطبيع مع إسرائيل، يتجاوز قواعد الاشتباك التي استغرقت شهورًا من الدراسة من أطراف الحرب الحالية ومراقبيها، متلمّسين قواعدَ ربما تصلح لحرب إقليمية؛ متوسعة في نطاقها الجغرافي ومُطوّلة في مداها الزمني، لكنها محدودة وقائمة على ردود محسوبة بعناية، أسوة بالحرب الباردة في القرن الماضي، لا شطط فيها، وإن كانت بعض القرارات أكثر سخونة من غيرها كاغتيال فؤاد شكر في بيروت وإسماعيل هنية في قلب طهران، ثم استهداف حزب الله تل أبيب.
ويبدو أن اغتيال شكر وهنية في ظرف 48 ساعة نهاية يوليو/تموز الماضي كان اختبارًا إسرائيليًا لمدى استعداد إيران وحزب الله، أو قدرتهما سياسيًا وعسكريًا، على كسر قواعد الاشتباك المُتوهّمة. ولما طال انتظار "الرد المزلزل"، استأنف المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين زياراته إلى بيروت منتصف أغسطس/آب حاملًا رسالة تأكيد وتهديد واضحة. تأكيد على أن واشنطن لا تزال متمسكةً بوجود قواعد اشتباك لا تهدد أمن إسرائيل مقابل السعي السريع لوقف إطلاق النار في غزة، وتهديد بأن بلاده لن تقف حائلًا دون رد إسرائيلي قوي على حزب الله حال كسر تلك القواعد.
انعكس ذلك بعد أيام معدودة في رد حزب الله على اغتيال شكر باستهداف قاعدة جوية وأخرى استخباراتية في تل أبيب ومواقع في الجولان المحتل، ما بدا مماحكة تُلامس السقف الأعلى من قواعد الاشتباك لكن لا تتجاوزها. وأصبح واضحًا أن الحزب يبذل جهدًا لاختيار أهدافه، لتحقيق التوازن بين عدة اعتبارات يصعب أن تكون متسقة تمامًا، منها: رفع تكلفة الحرب في إسرائيل بالتسبب في نزوح مئات الآلاف أو إبقائهم في الملاجئ، وزيادة الضغط لمحاولة انتزاع هدنة مزدوجة في غزة ولبنان، ورفع سقف الردود المحسوبة تدريجيًا لتغيير قواعد الاشتباك مستقبلًا.
الانكشاف ومخدرات هوكشتاين
قبل كل ذلك، حاول حزب الله الحفاظ على الإطار العام لسياسة إيران في إدارة الصراع، وهي التي لم تعد كما كانت؛ صندوقًا أسودَ يقامر من يحاول فتحه بما في داخله من أسلحة وأدوات وألاعيب لا نهاية لها، بل بات واضحًا انكشافها واختراقها إلى مستوى عميق، يدفعها إلى تحاشي التصعيد والتذرّع بـ"قواعد الاشتباك" البائسة، لا سيما بعد مصرع رئيسها السابق إبراهيم رئيسي في حادث ظهرت دلائل ترجِّح تدبيره، ثم اغتيال هنية الذي يمثل في أفضل الأحوال إهانة وطنية.
تجاوز الوقتُ إيران، والبعض يعتقد أنها تستعد لانتقام كبير، لكنَّ إسرائيل استغلت تخبط البيت الأبيض واختارت طَرْقَ الحديد وهو ساخن، بمساعدة دوائرها في البنتاجون والمخابرات الأمريكية، واستوردت المزيد من الأسلحة لإرهاب الخصم أو الفتك به إذا تطلب الأمر، ومنها قنابل MK84 الخارقة للتحصينات، والمستخدمة في اغتيال نصر الله.
وتتراوح التقديرات لدور هوكشتاين بين العمل على إهدار الوقت، والمشاركة الكاملة في تضليل حزب الله من خلال لقاءاته متعددة الأطراف في لبنان، والأرجح الآن أنها كانت بمثابة "المخدرات"، على حد وصف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط قبل ساعات من اغتيال نصر الله.
فقد سقط منطق "قواعد الاشتباك" نهائيًا بنجاح عمليتي الهجوم على شبكات اتصال حزب الله وتصفية قيادات وحدة الرضوان أيام 17 و18 و20 سبتمبر/أيلول، ويمكن الادعاء اليوم بأن العمليتين كانتا تمهيدًا لاستهداف نصر الله، وربما كان يعلم يقينًا بذلك في كلمته الأخيرة عندما ألمح إلى أن التصعيد الإسرائيلي سيستمر لتحييد حزب الله.
وبعيدًا عن المعركة الميدانية، تعمد رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو تجاوز قواعد الاشتباك السياسي أيضًا، من خلال التزامن الوقح بين الاغتيال وخطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. إنه الاطمئنان التام لغياب الحساب والمساءلة ولسقوط جميع الرهانات والاعتبارات الدولية التي كان يطيل الإسرائيليون حسابها في عهود سابقة، وكانت تفجر خلافات بين رئاسة الحكومة والجيش والموساد، وقد يُعزى ذلك إلى أن نتنياهو نفسه صعد إلى سدة الحكم كاسرًا أي قواعد سابقة على مستوى السياسة الداخلية أو الصراع العربي الإسرائيلي.
التصفية الكاملة والسلام بالردع
تخبرنا خرائط نتنياهو برؤيته الواضحة: 1- إسرائيل على كامل الأرض الفلسطينية وبتصفية القضية تمامًا، لا غزة ولا ضفة ولا وضعًا مميزًا للقدس. 2- إسرائيل محور القوة والحركة الأساسي في الشرق الأوسط. 3- السلام لا يتحقق إلا بالقوة والردع.
والحقيقة أنه لا يوجد فارق جوهري بين نتنياهو الذي يبلغ الخامسة والسبعين بعد أيام، ونفس الشخص الذي هزم شيمون بيريز في أول انتخابات إسرائيلية مباشرة لاختيار رئيس الحكومة في مايو/أيار 1996 على عكس المؤشرات واستطلاعات الرأي، وبالمخالفة للتصور القائم وقتها بأن اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين سيعطي دفعة لحزب العمل ويقلل فرص اليمين والمتطرفين. حدث العكس تمامًا.
كان نتنياهو وقتها في السابعة والأربعين من عمره، يمثل جيلًا جديدًا من الساسة الإسرائيليين، إنه مولود في تل أبيب بعد إعلان تأسيس الدولة بعام ونصف العام، متحمس لـ"إسرائيل الكبرى" رافضًا التخلي عن الضفة الغربية وغزة أو شبر واحد من القدس وحتى الجولان. وفي كتابه مكان بين الأمم، الذي أصدره إبان مفاوضات أوسلو، يقول "يجب على الدول العربية أن تعترف وتسلّم بوجود إسرائيل بصورة مباشرة ودون شروط. لا يكفي إنهاء حالة الحرب، إنما يجب على أنظمة الحكم العربية التخلي نهائيًا عن سعيها للقضاء على دولة اليهود، ومنح هذا التغيير مصداقية، عن طريق إبرام سلام رسمي معها"، رافضًا مجرد "الاعتراف بحقيقة وجود إسرائيل فحسب".
وكما يروَّج الآن لمشروع الاتصال بين الهند وأوروبا عن طريق الخليج العربي وإسرائيل، ويتهم إيران وحلفاءها بتعطيل "هذا المسار التنموي"، نجد نتنياهو قبل ثلاثين عامًا في كتابه يتحدث عن حرمان العرب أنفسهم من استخدام المنشآت المتطورة في إسرائيل وموقعها الجغرافي المميز بسبب الكراهية وعدم التطبيع "يستطيعون استغلال المواني الإسرائيلية والاستفادة من قدراتنا على أن نكون مركزًا إقليميًا فعالًا لأغراض التجارة والخدمات" ثم يسهب في أوجه التعاون المختلفة حول المياه والري والزراعة والسياحة.
الصهيونية العالمية تبدِّل قواعدها
ليست هذه أفكار نتنياهو وحده، بل كانت حملته الانتخابية نموذجًا لتداخل دوائر صهيونية على أعلى مستوى من التأثير الدعائي والقدرة المالية، فقد دعمه ماليًا رجل الأعمال الأسترالي جوزيف جوتنيك، ومن اليمين الصهيوني الأمريكي حصل على خدمات خبير التسويق السياسي آرثر فينكلشتاين الذي اخترع عبارتي "بيريز سوف يقسِّم القدس" و"نتنياهو عظيم لليهود"، اللتين منحتاه مفاتيح الفوز، بتكثيفهما معاني التخوين والعنصرية والتخويف من السلام مع الفلسطينيين.
اعتبر الساسة الإسرائيليون التقليديون أن نتنياهو خرق قواعد الاشتباك السياسي الداخلي من احترام ومصداقية بحملته الدعائية، لكنه مضى قُدمًا غير عابئ باتهامات باتت هي وأصحابها جزءًا من الماضي، فقد راهن بمسيرته وبكل ما أوتي من دعم على أن المجتمع الإسرائيلي يميل بطبيعة تكوينه الأولى إلى حالة الحرب الدائمة.
وبالتالي أصبحت الأسبقية للمتطرفين العنصريين والمستوطنين (الذين يستخدمهم نتنياهو اليوم لتوجيه السياسات والأجهزة الأمنية) وهذا ليس بجديد عليه، عندما دافع في كتابه عن المستوطن باروخ جولدشتاين مرتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي ملتمسًا له العذر، رافضًا استنكار تصرفه.
وكسر نتنياهو قاعدة أخرى توارثتها الحكومات الإسرائيلية في أوقات الحرب، فهو لا يمل من الظهور الإعلامي لمخاطبة الرأي العام العالمي وتكرار الأكاذيب على مسامع الجميع لتبرير جرائم الإبادة الجماعية والمجازر والاغتيالات، ونجد أصلًا لهذه الحالة الدعائية التي لا يخفت نشاطها في كتابه الذي يقول فيه "لقد نفذت حكومات الليكود أعمالًا بالغة الأهمية لكنها لم تفعل شيئًا لإقناع العالم بعدالتها" ويضرب مثلًا بغزو لبنان عام 1982 واصفًا الصمت الرسمي الإسرائيلي بأنه "خطأ فاحش، بدلًا من إدارة حرب دعائية، فمكَّنت أعداءها من إغراق العالم بوجهات نظرهم المشوّهة".
هل يكفي الصمود؟
تطول قائمة القواعد التي تجاوزها نتنياهو. لكن القاعدة الذهبية التي أثبتت سياساته تحطيمها هي أن للصمت الدولي حدودًا وأن صمود المقاومة مع التحرك الدبلوماسي والضغط السياسي كفيلة بفرض هدنةٍ فوقفٍ لإطلاق النار فمفاوضاتٍ فإعادةٍ إعمار، وتستمر الحياة. وهي معادلة لخصتها مقولة الزعيم الدرزي الاشتراكي العروبي الراحل كمال جنبلاط في خضم حربه ضد إسرائيل ونظام حافظ الأسد وقوى الفاشية والانكفاء في لبنان "لم نعد وحدنا في هذا العالم، إنما المطلوب هو الصمود".
عذرًا "كمال بك".. المقاومة حية رغم الخذلان والضربات الموجعة، والقضية الفلسطينية معها الآن 124 دولة تطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي فورًا، وأحكام وفتاوى قضائية دولية.. أصوات وخطابات ومرافعات وطلبات اعتقال.. لكنَّ أحدًا لا يقدر على وقف نتنياهو والقوى الصهيونية العالمية من ورائه، على وقع انتهاء صلاحية المنظومة الدولية بكامل مكوناتها.
فهل يكفي الصمود؟!