ما إن أطلق رئيس الوزراء مصطفى مدبولي تصريحاته بشأن الدخول في "اقتصاد الحرب" إذا توسَّع الصراع في المنطقة، حتى بدأ يتلقى سهام النقد والأسئلة، بل والاتهامات بأنه تسبب في خسائر بالبورصة تجاوزت المليار دولار.
فقبل أيام، قال مدبولي في تصريحات للصحفيين إنه "إذا المنطقة لا قدر الله دخلت في حرب إقليمية، التبعات هتبقى شديدة وهيبقى الموضوع مختلف تمامًا، وبالتالي هنبقى غصب عننا كدولة بنتعامل مع ما يمكن أن يوصف بإن هو اقتصاد حرب".
وأضاف رئيس الوزراء أنه أكد على الوزراء، خلال اجتماع الحكومة، الالتزام بـ"المزيد من الحوكمة والترشيد في كل النفقات بتاعتنا وفي استهلاكاتنا عشان محدش ضامن إيه اللي هيحصل بعد كدا قدام".
أثارت هذه التصريحات استغرابًا، خاصة أن مصر ليست طرفًا مباشرًا في أي صراع مسلح في المنطقة. وحمَّلها البعض المسؤولية عن خسائر البورصة التي قُدرت بنحو 1.2 مليار دولار.
فما هو "اقتصاد الحرب" الذي يسبب كل هذا الخوف والجدل؟
من النازي إلى ستالين
تعود جذور هذا الاصطلاح إلى النصف الأول من القرن العشرين، إذ كان يصف السياسات الأوروبية خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وطبيعة التدابير التي اتخذتها الدولة في تلك الظروف، باعتبارها السلطة العامة التي تنظم النشاط الاقتصادي وتسيطر على الموارد ذات الأهمية الخاصة للتسليح أو تموين الجيوش.
وتعدُّ ألمانيا القيصرية خلال الحرب العالمية الأولى نموذجًا مبكرًا لاقتصاد الحرب، إذ لعبت الدولة دورًا تنظيميًا للحياة الاقتصادية في البلاد، يتيح لها وضع أولويات محل أخرى باسم الأمن القومي أو الأهداف الاستراتيجية العليا.
وفي أعقاب تلك الحرب، تبنَّى جوزيف ستالين في الاتحاد السوفيتي نموذجًا مشابهًا، للتعامل مع العزلة التي فُرضت عليه بعد الثورة الشيوعية، ليصبح أول نموذج لاقتصاد تملك فيه الدولة أدوات الإنتاج، بما أتاح تبني سياسات تهدف إلى تعظيم الاعتماد على الذات من ناحية، والدفع في اتجاه التصنيع الثقيل من ناحية أخرى.
يلزم اقتصاد الحرب أن تكون هناك حرب ومصر ليست بصدد مواجهة عسكرية
ثم كانت بالطبع ألمانيا النازية تعبيرًا عن نموذج لاقتصاد الحرب، وسرعان ما انتقل هذا النمط إلى الدول الرأسمالية الديمقراطية، على رأسها الولايات المتحدة، إذ وسعت الحكومة الفيدرالية من مساحات التدخل في أعمال السوق خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، وتدخلت بقوة في تنظيم العلاقة بين رأس المال الخاص والعمال، بما يضمن استقرار وسلاسة إنتاج السلع والخدمات الضرورية للصناعات العسكرية وغيرها من الأنشطة ذات الأهمية الاستراتيجية، مثل إنتاج الغذاء والمدخلات المتصلة بالزراعة وتوفير المواد الخام.
إذن فاقتصاد الحرب بشكل بديهي هو اقتصادٌ إنتاجيٌّ يُرشِّد الاستهلاك، وهو ذو بُعدٍ وطنيٍّ محددٍ بإقليم الدولة والموارد المتاحة فيها، تَغلُب فيه أولويات السياسة على مصالح الاقتصاد، ويهيمن فيه العام على الخاص، بما يشمل فعليًا انتقال زمام القرارات الاقتصادية من آليات السوق وقوى العرض والطلب إلى أولويات تحددها السلطة، وتُدار بطرق بيروقراطية.
اقتصاد حرب دون حرب؟
لكن بعيدًا عن إعجابنا بهذا النموذج أو بغضنا له، يلزم اقتصاد الحرب أن تكون هناك حرب. ومصر ليست بصدد مواجهة عسكرية كما سبقت الإشارة، ولكن اقتصادها يجد نفسه في خضم مجموعة من الأزمات المتتالية والمتزامنة إقليميًا وعالميًا. تسهم هذه الأزمات في زيادة المخاطر التي تواجه الاقتصاد وتستلزم إعادة التفكير في علاقة الدولة بالسوق.
لم يشهد الاقتصاد العالمي يومًا سعيدًا منذ جائحة كورونا في مطلع 2020، إذ سرعان ما تبعتها في 2022 الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة إلى يومنا هذا. وساهم تتابع الكوارث العالمية في تغيير هياكل وأطر العلاقات الاقتصادية، خاصة مع اضطراب سلاسل القيمة والتوريد، الذي بدأ مع جائحة كورونا ثم استمر وتعمق.
وشملت أزمات هذه الفترة أيضًا تصاعد التوتر الاقتصادي والعسكري بين الصين والولايات المتحدة حول تايوان وفي بحر الصين الجنوبي، قبل أن نصطدم بالحرب في غزة التي اتسع نطاقها خلال عام ليشعل الحرائق في بيروت ويهدد بحرب إقليمية بين إسرائيل وإيران.
يعكس تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية تأثير هذه الأزمات المتوالية، من خلال رصده معاناة نحو 71% من الشركات في 26 اقتصادًا خلال 2022، من نقص في المدخلات الضرورية للإنتاج بسبب انتشار كورونا.
وتبعًا لبيانات منظمة التجارة العالمية، فإن التجارة العالمية في السلع تراجعت 5.1% بين 2020 و2021، بسبب الوباء، ثم تعافت في 2021 لكن اندلاع الحرب في أوكرانيا أدى إلى تباطؤ النمو مرة أخرى بشكل كبير قبل أن يبدأ الانكماش في 2023.
اقتصاد أزمة وليس حرب
تبدو منطقة الشرق الأوسط، ومصر بالتبعية، في عين الإعصار. وبالنظر إلى أن الإدارة الأمريكية تعتبر أن دورها في "احتواء الموقف" هو أن تنجح في ضمان استمرار أعمال الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة دون أن يمتد أثرها إلى ما هو أبعد، سنجد أنها فشلت في أداء هذا الدور، بتعريفها المبتذل له.
انعكس الفشل الأمريكي بشكل واضح لا فحسب مع امتداد الحرب إلى لبنان في الشهر الأخير، بل قبله مع استمرار النشاط العسكري في مدخل البحر الأحمر طوال السنة الماضية، ما أدى إلى انخفاض حركة الشحن المارَّة عبره، التي تشكِّل ما نسبته 10 إلى 15% من التجارة العالمية، بنسبة 90% منذ فبراير/شباط الماضي، وفقًا لتقرير استخباراتي أمريكي. وبالتبعية كان لذلك أثر على مصر، إذ تراجعت عائدات قناة السويس بحلول مايو/أيار 2024 بنحو 62% خلال النصف الأول من العام الحالي.
ومع استمرار توسع الصراع وتعاظم عدوانية إسرائيل تجاه دول المنطقة، ومخاوف من أن تستهدف منشآت النفط الإيرانية، فقد يشهد الاقتصاد العالمي المتأزم أصلًا صدمة إضافية في أسعار الطاقة، خاصة إذا خرجت الأمور عن السيطرة، وانتهى الأمر بأن تحاول إيران إغلاق مضيق هرمز الذي يمر منه نحو 40% من صادرات النفط العالمية.
في هذا السياق الدولي، لا يمكننا القول بأي حال إن مصر بحاجة لاقتصاد حرب، بمعنى توجيه الموارد للتسليح أو لإمداد القوات المسلحة، لكنها ربما تكون بحاجة لاقتصاد أزمة، من خلال الاستعداد بسلسلة من الإجراءات والقرارات والسياسات، وصولًا إلى ترتيبات مؤسسية مع القطاع الخاص والشركاء في الإقليم، تحسبًا للمزيد من التأزم الممتد زمنيًا على المستويين العالمي والإقليمي.
وتحضرني هنا ثلاثة أوجه أساسية لاقتصاد الأزمة في حالة مصر:
أولها القطاع الزراعي وإنتاج الغذاء ومستلزمات الزراعة، خاصة الأسمدة والمبيدات، فقد يتعين في اقتصاد الأزمة تعديل التركيب المحصولي بالابتعاد عن المحاصيل التصديرية كالخضر والفاكهة، لصالح ما يُستهلك محليًا مثل القمح والأرز، وهو ما يستتبعه تخطيط في الإدارة المائية التي أمست أكثر تعقيدًا نتيجة للتغيرات المناخية والتهديدات الجيوسياسية.
أما الوجه الثاني، فهو وضع سياسات تصنيعية تستهدف بأولوية واضحة بعض القطاعات لإنتاج مدخلات من السلع الوسيطة، التي تقع في متناول اقتصاد متواضع القدرة تكنولوجيًا كاقتصادنا، لكنها أساسية لعمل الصناعة. ينطبق هذا على البتروكيماويات بصفة خاصة، وهي بدورها قد تتطلب تنسيقًا مع الشركاء الإقليميين من الدول الغنية في البترول والغاز، وهي دول تربطها مع مصر مصالح جيوسياسية لا اقتصادية فحسب.
أما الوجه الثالث، فهو توفير الطاقة في ضوء تحول مصر السريع من مُصدِّر صافٍ للغاز الطبيعي إلى مستورد، ما يطرح أسئلة خاصة بالخطط المستقبلية المباشرة للاستكشاف والاستخراج، وفي حال الاعتماد على الاستيراد فمن أي مصدر، ومدى حساسيته للوضع الأمني والعسكري المتفجر في المنطقة، ومدى متانة العلاقة السياسية معه، والحديث هنا عن جارتنا الشرقية التي تحارب على جبهات سبعٍ.
هنا، سيكون عنوان اقتصاد الأزمة تغيير علاقة الدولة بالاقتصاد بما يتيح لها المزيد من السيطرة والتوجيه، وبما يُعلي من مصالح استراتيجية تتعلق بالأمن والأمان الوطنيين، حتى وإن تناقض هذا مع منطق السوق المباشر، وحسابات الربح والخسارة والكفاءة التي تميز الرشادة الاقتصادية، لا السياسية.