
لماذا لم تغلق إيران مضيق هرمز؟
يبدو ونأمل أن تكون الحرب الإسرائيلية-الإيرانية وضعت أوزارها بقبول الطرفين مبادرة إطلاق النار التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وبمعزل عن التحليل المباشر لأسباب ونتائج وآثار الحرب الأخيرة فإنها كشفت عن بعض التغيرات الكبرى في وضع الخليج العربي وإيران في الاقتصاد العالمي. لم يعد الخليج يملك سلاح منع النفط عن الغرب لفرض شروطه كما بدا الأمر في حرب أكتوبر 1973، أو كما حاولت إيران إعادة إنتاج المشهد عبر تهديدها بإغلاق مضيق هرمز، فخلال العقود الخمس الماضية تغيّرت الكثير من الأدوار في الاقتصاد العالمي حدت من أثر التلويح بورقة "الطاقة".
الخليج لا يزال أكبر مُصدر للطاقة
لا يعني التقديم السابق أن وزن الخليج كمنتج للطاقة تراجع بوضوح، بالعكس فهو يمتلك أكبر احتياطيات مثبتة من البترول في العالم، كما أن دوله سواء العربية أو إيران تمثل أكبر تركز للدول المصدرة للبترول والغاز في الاقتصاد العالمي، وخمس من دوله؛ وهي السعودية والعراق والإمارات وإيران والكويت، مثلت مجتمعة 26% من إنتاج البترول العالمي في 2024، ما يضعها جميعًا ضمن أكبر عشرة منتجين في العالم بجانب الولايات المتحدة وروسيا وكندا وفنزويلا والصين.
هذا الدور القيادي في إنتاج وتصدير الطاقة للعالم هو ما جعل الخليج مسرحًا للعمليات العسكرية الدولية
الوزن الحقيقي لدول الخليج بما فيها إيران لا يقف فحسب عند الإنتاج، بقدر ما يتجلى في الوزن الكبير لبلدان الخليج في تصدير النفط الخام إلى العالم بأسره. أكبر عشرة مصدرين للنفط الخام أربعة منهم في الخليج العربي؛ السعودية والعراق والإمارات والكويت بإجمالي 35% من النفط العالمي محل التصدير في 2024. صحيح أن احتياطيات إيران الضخمة من البترول لا تظهر ضمن الدول الأكثر تصديرًا، لكن ذلك يعزى لعقود من العقوبات الأمريكية (والدولية بدرجة أقل) التي أضعفت من قدرة إيران على الإنتاج والتصدير.
هذا الدور القيادي في إنتاج وتصدير الطاقة للعالم هو ما جعل الخليج منذ بداية القرن العشرين مسرحًا للعمليات العسكرية الدولية، فأي اضطراب يجري فيه يعني تهديدًا لانسياب الطاقة لشرايين الرأسمالية الغربية.
من مصدق إلى عبد الناصر
لقد كانت هذه الملامح ضمن حقائق الاقتصاد السياسي العالمي على الأقل منذ خمسينيات القرن العشرين، وطالما حددت علاقة دول الخليج العربي بالنظام العالمي اقتصاديًا وسياسيًا على حد سواء.
فمن على ضفاف الخليج نفسه كانت أولى تجارب تأميم إنتاج النفط في 1951 بناء على قرار تاريخي من رئيس وزراء إيران وقتذاك محمد مصدق بتأميم الأصول البريطانية ما استدعى تدخلًا استخباراتيًا أمريكيًا للتخلص من حكومته خلال سنتين، لكن التأميم ذاته أرسى سابقة ستتبعها مصر في 1956 في حالة قناة السويس لتصبح الأساس لسياسة تأميم الأصول الاقتصادية بعد الاستقلال لعشرات من الدول الإفريقية والآسيوية.
منذ تلك اللحظة البعيدة بات كل اضطراب يطول أمن الخليج ينعكس على أمن الطاقة العالمي، والعكس بالعكس بمعنى أن أمن الطاقة كثيرًا ما وقف داعيًا إلى تدخلات ذات طابع عسكري وأمني أو دبلوماسي.
تجلت الأهمية الدولية للخليج بشكل فج بعد حظر تصدير النفط الذي فرضته بلدان منظمة الدول المصدرة للبترول في 1973، بمبادرة وقيادة سعودية على وقع الحرب العربية-الإسرائيلية لتحرير سيناء والجولان، والذي سبب الصدمة النفطية التي أصابت الاقتصاد العالمي وقتها على وقع ذلك الحظر.
ومع توالي الاضطرابات في الخليج بدءًا بالحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) ثم حرب الخليج الثانية (1990-1991) لتحرير الكويت، ثم غزو العراق في 2003، أوجدت هذه الأحداث مبررًا للولايات المتحدة لكي تنشئ قواعدها العسكرية في المنطقة.
فتش عن المستورد
رغم استمرار دور الخليج العربي مصدِّرًا رئيسيًّا للنفط الخام عبر كل تلك العقود فإن ثمة تغيرًا جوهريًا طرأ على جانب الاستيراد (أي من يشتري النفط الخام) بتحول مركز الثقل من الغرب إلى الشرق بشكل حاسم نتيجة لتسارع معدلات التصنيع في شرق آسيا من ناحية، لا سيما الصين، ومن ناحية أخرى ارتفاع مستويات المعيشة والدخل في الكثير من بلدان شرق وجنوب شرق وجنوب آسيا بما ضاعف من استهلاكها للطاقة المستوردة كونها جميعًا (باستثناء الصين و إندونيسيا وماليزيا) لا تنتج النفط أو الغاز على نطاق كبير.
ففي 2022 كان أربعة من أكبر عشرة مستهلكين للنفط عالميًا في آسيا: الصين (15%) ثم الهند (5%) ثم اليابان (3%) وكوريا الجنوبية (3%) بجانب المستهلكين التقليديين في الغرب مثل الولايات المتحدة وكندا وألمانيا. وبحكم الجغرافيا والسياسة أصبح الاعتماد الآسيوي على الخليج العربي (وروسيا بالطبع) هو الأكبر لبلدان مثل الصين والهند.
ففي الحالة الصينية (أكبر مستورد للنفط عالميًا) تحتل بلدان الخليج، على رأسها السعودية والعراق وعمان والإمارات وقطر والكويت، مواضع مهمة بجانب روسيا في تصدير النفط إلى الصين. وكذلك الأمر في الحالة الهندية إذ نجد أن 43% من وارداتها النفطية أتت من العراق والسعودية والإمارات العربية في 2024.
طالما لما تعد ورقة الطاقة أداة ضغط ناجعة مثلما كانت في السابق فلماذا لم تسحب الولايات المتحدة قواعدها من المنطقة؟
وهنا يأتي التغيير الأساسي إذ أصبحت الأسواق الآسيوية الأسواق الرئيسية لصادرات النفط الخليجية، ففي 2021 كان نصيب الأسواق الآسيوية 77% من إجمالي صادرات النفط السعودية و98.2% من الإمارات!
من هنا يمكن فهم لماذا لم تُقدم إيران على إغلاق مضيق هرمز (إن كان باستطاعتها، دون المخاطرة بتدخل عسكري أمريكي أشمل وأشد وطأة)، لأن ذلك من شأنه تقويض إمداد الأسواق الآسيوية خاصة الصين والهند بما تحتاجه من بترول، بالتالي فإن ضرره الرئيسي والمباشر كان سيقع على آسيا لا أوروبا وقطعًا ليس على الولايات المتحدة، وهي الأطراف التي لن ترغب إيران في استعدائها.
يطرح تغير ترتيبات الاقتصاد العالمي هذا سؤالًا آخر، طالما لم تعد ورقة الطاقة أداة ضغط ناجعة مثلما كانت في السابق، فلماذا لم تسحب الولايات المتحدة قواعدها من المنطقة؟
لعل الإجابة تكمن في الحفاظ على دور الولايات المتحدة العسكري عامة باعتبارها القوة المهيمنة تاريخيًا، بالتالي يكون الحضور العسكري في الخليج شبيهًا بالحضور العسكري في البحر الأحمر أو بحر العرب أو حتى بحر الصين الجنوبي باعتبارها مفاصل للتجارة العالمية.
يضاف إلى هذا بالطبع أن ما قد يجري لإمدادات البترول من الخليج سيؤثر على أسعار الطاقة العالمية، بغض النظر عن الدول المستوردة للطاقة مباشرة من هناك، ولا ننسى أن الولايات المتحدة مستورد صاف للبترول في نهاية المطاف رغم أنها أكبر منتجيه عالميًا، وأخيرًا وليس آخرًا فإن الولايات المتحدة تتلقى القسم الأكبر من البترودولار الذي تجمعه دول الخليج الغنية بالنفط وتعيد تصديره في صورة استثمارات مالية بالأساس إلى الأسواق الأمريكية، وهنا تكون زيارة ترامب التاريخية للخليج عودًا على بدء لفهم تحولات علاقة الولايات المتحدة بالخليج.