برخصة المشاع الإبداعي: جيجي إبراهيم، فليكر
صورة أرشيفية لمظاهرة في القاهرة ضد قرض صندوق النقد الدولي. 29 أغسطس 2012

ريبة المصريين المزمنة في صندوق النقد الدولي

منشور السبت 9 نوفمبر 2024

قبل تسع سنوات، وحين وجدت اتجاهًا إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي، كتبت أشرح المشكلات التي سيسببها تطبيق تعليمات الصندوق وطلباته وشروطه ووصفاته التي يسميها دائمًا "إصلاحًا اقتصاديًا". لم أكن بمفردي بالطبع، فمثلي فعل خبراء اقتصاديون وساسة وصحفيون، بل صرخ بعضهم بملء فمه، محذرًا من مغبة التورط المستمر مع الصندوق.

تنظر النخبة المصرية إلى صندوق النقد الدولي من ثلاث زوايا: الأولى ذات طابع يساري، ترى بعين الريبة كل ما ينتج عن العلاقة معه بوصفه من قلاع الرأسمالية، وتدعو دومًا إلى الفرار منه. ويشارك بعض أتباع "الليبرالية الاجتماعية" اليساريين في موقفهم هذا، لأنهم يرون أن تراكم فوائد الديون، وتطبيق وصفات الصندوق، تأتي على حساب الفئات الأقل دخلًا، والأكثر احتياجًا.

والثانية ذات طابع حكومي، ترى في العلاقة مع الصندوق إنقاذًا للوضع القائم، وتستدل دائمًا على نجاعة سياساتها الاقتصادية بأي إشادة منه، ولو في تصريح عابر لأحد مسؤوليه، وتعتبر أي قرض يمنحه دليلَ ثقةٍ ونداءً مباشرًا لأصحاب رؤوس الأموال من المقرضين والمستثمرين، لضخ مال جديد في شرايين الاقتصاد الوطني.

وهؤلاء ينتقدون الصندوق أحيانًا، ولكن ذلك لا يعدو أن يكون خطابًا عابرًا موجهًا إلى الداخل، ليعتقد الناس أن هناك من يراعي أحوالهم التي تزداد صعوبة كلما طلب الصندوق تعويم العملة المحلية، ثم تأتي التطبيقات لتخيب الآمال.

وهناك فريق ثالث يقارب المسألة من زاوية أخرى، فيرى أن الصندوق لم يجبر السلطة على أن تذهب بما يقرضه لها من مال في مشروعات كبرى للبنية الأساسية، عوضًا عن مصادر الإنتاج. وبعض هؤلاء يرون في مطالبة الصندوق بضرورة كسر الاحتكار ما يفيد. وهناك من يشير إلى مطالبة الصندوق بإصلاح سياسي وتشريعي وتحسين أوضاع حقوق الإنسان، لأن غياب هذا يؤثر سلبًا على الاقتصاد القومي، ويعولون على أن الاقتصاد يمكن أن يكون العربة التي تقود السياسة الغائبة إلى الأمام. 

وبعيدًا عن موقف النخبة الموزع بين هذه الرؤى الثلاث، فإن الشعب المصري لديه حذر ومخاوف، تصل حد الرفض، حيال مؤسسات الإقراض الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان. فلأهل مصر تجربة تاريخية مؤلمة في التعامل مع المؤسسات الأجنبية منذ عهد الخديو إسماعيل، الذي توسع في الاستدانة لبناء مشروعات كبرى حتى أغرق مصر في الديون، وكان هذا هو الباب الذي نفذت منه الوصاية الأجنبية على موازنتنا لتحديد أوجه الإنفاق، ما انتهى إلى احتلال مصر عام 1882، أي بعد رحيل إسماعيل عن السلطة بثلاثة عشر عامًا.

وقد عاد الموقف السلبي للمصريين من هذه المؤسسات يتعمق بعد رفض البنك الدولي تمويل السد العالي، حيث انتقده عبد الناصر في خطاباته، وشدا ضده عبد الحليم حافظ في أغنية وطنية رددها الناس كثيرًا، والشباب الذين استمعوا لها كبروا الآن وصاروا آباءً وأجدادًا، ولا يزالون محتفظين بهذا الموقف النفسي.

ومؤخرًا، استعاد المصريون مقطعًا للرئيس الأسبق حسني مبارك، يربط فيه رفضه تعويم الجنيه، وفق تعليمات الصندوق، بزيادة معدلات التضخم وارتفاع الأسعار، ما سيجعل الحكومة مضطرة إلى زيادة الرواتب، وهذا يتطلب فرض ضرائب جديدة، فيعاني الشعب على معاناته المزمنة.

والنخبة المثقفة من المصريين مُطلعة على تجارب صندوق النقد في بلدان أخرى، وكيف انتهى تدخّله لـ"هندسة اقتصادها" إلى مشكلات كبرى. والنخبة تنقل هذا الوعي إلى الشعب وتعمق نفوره من سياسات الصندوق، لا سيما أن الرأي الذي يربط تنفيذ تعليمات الصندوق بصعوبة عيش الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، هو من يُفضِّل الرأي العام الإنصات إليه، لأنه يرى فيه تعبيرًا مباشرًا عن مصالحه الآنية.

فبعيدًا عن التصريحات والتجارب التاريخية ومواقف المثقفين وخبراء الاقتصاد، فالأهم في صناعة هاجس المصريين حيال الصندوق هو المعاناة التي يعيشونها حاليًا على وقع الاستجابة لوصاياه خلال السنوات الأخيرة. فالحكومة تتحدث دائمًا عن حاجتها إلى تسديد الديون وتعويم العملة المحلية بناء على تعليمات الصندوق، وهي سياسات لا تؤدي إلا إلى مزيد من إفقار الشعب.

وهناك هاجس آخر لدى عموم الناس يربط سداد فوائد الديون باضطرار السلطة لبيع أصول الدولة من أراض ومشروعات، وهذا يمس شيئًا من الكبرياء الوطني في نفوس الشعب، لا سيما وأن هذا البيع يتم في غموض، وبسرعة، أو بشكل مفاجئ، وتتلقفه الدعايات التي تريد النيل من أهل الحكم، فتعمق الغبن من الصندوق في النفوس.

يتعمق النقاش قليلًا، أو كثيرًا، وينزل من النخبة إلى العامة، حول أن بعض الدول الرأسمالية بدأت تنظر في توسيع الدور الاجتماعي للدولة بعد ظهور نظريات جديدة تنادي بما أسمته "الليبرالية الاجتماعية" أو ما يُعرف بـ"الطريق الثالث". رغم ذلك فإن صندوق النقد لا يزال متمسكًا بنظرياته الاقتصادية "القديمة"، ويُجبر الدول التي ترغب في الاقتراض منه على اتِّباعها، دون أي اعتبار لمعاناة الناس جراء تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي، لا سيما في مجالي التعليم والصحة، أو اضطرارها إلى التعويم المستمر للعملة المحلية.

باتت الصورة الذهنية لدى الشعب المصري عن صندوق النقد الدولي أنه يضم مجموعة من جنرالات المال

هنا أعود إلى ما كتبه الخبير والأكاديمي الألماني أرنست فولف في كتابه صندوق النقد الدولي.. قوة عظمى في الساحة العالمية:

"من الناحية الرسمية تكمن وظيفة الصندوق الأساسية في العمل على استقرار النظام المالي، وفي مساعدة البلدان المأزومة على تلافي ما تعانيه من مشاكل. غير أن تدخلاته تبدو في الواقع أشبه ما تكون بغزوات جيوش متحاربة، وكان في كل تدخلاته ينتهك سيادة هذه الدولة أو تلك، ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى للمواطنين، وتخلف وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادي واجتماعي.

وفي كل هذه التدخلات لم يستخدم الصندوق أسلحة أو جنودًا، بل كان يستعين بوسيلة غاية في البساطة، وبواحدة من آليات النظام الرأسمالي، أعني عملية التمويل".

وليس البنك الدولي أفضل حالًا من الصندوق، بل وجهه الآخر، وكلاهما يضمن هيمنة غربية على العالم، استبدلت بالجنرالات خبراء اقتصاديين، وبالرصاص الدولارات، وبالحرب النفسية الروشتات الاقتصادية ذات الطابع الدعائي، وهي وصفات علاجية كان هدف الصندوق الأساسي من فرضها أن يضمن قروضه وفوائدها.

وتحضرني في هذا المقام شهادة الدكتور أسامة الخولي التي نشرها في مجلة عالم الفكر عام 2001، وحَوَت خلاصة تجربته في البنك الدولي على مدار أربعة عقود، وهي أشبه برسالة اعتذار إلى العالم، إذ تحدّث عن السيارات الفارهة التي كان يركبها خبراء البنك لتشق طريقها وسط المعدمين، فتتعلق بها عيون أطفال بائسين، وهم يظنون أن هؤلاء الخبراء سيجعلونهم يخلعون أسمالهم البالية، ويملؤون بطونهم الخاوية، لكنهم في الحقيقة كانوا يزدادون فقرًا على فقر، وتنغلق أبواب ونوافذ أخرى أمام مستقبلهم، حين يزداد عيشهم سوءًا.

باتت الصورة الذهنية لدى الشعب المصري عن صندوق النقد الدولي أنه يضم مجموعة من جنرالات المال على هيئة خبراء، يفحصون اقتصادنا الآن وليس لديهم الدواء الشافي، بل هم مثل أطباء، بلا ضمير، يطيلون أمد علاجنا في سبيل استنزاف أموالنا. وحين يتمكن منَّا المرض لن يرحمونا، ولن يعترفوا بأنهم زادوا من سقمنا، وخدعونا، وعطلوا اجتهادنا في البحث الحقيقي عن مصادر ومنابع أخرى لشفاء تام، تحت راية "التنمية الذاتية" أو "المستقلة" أو على الأقل توجيه أي قرض إلى مشروعات إنتاجية، تصنع فائضًا حقيقيًا في الميزانية العامة، يمكن استخدامه في سداد الديون المتصاعدة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.