
80 باكو.. لا مكان للرجال الخارقين في عالم النساء
تخدعنا التوقعات المسبقة، ظننت مثل غيري أن مسلسل 80 باكو استنساخٌ لـ أعلى نسبة مشاهدة، وأن هدى المفتي تستعير شخصية فتاة شعبية من تيكتوك كما فعلت سلمى أبو ضيف في موسم رمضان الماضي. المقارنة بين العملين غير منصفة بالمرة، لأن 80 باكو له عالمه الخاص لا ينافس غير نفسه، وهو ليس غريبًا عن عوالم مخرجته كوثر يونس. كما يخلو تمامًا من الخطابية والتنظير، ويتسم بالخفة الغالبة على كتابات غادة عبد العال.
في جولة على آراء الجمهور عبر منصات مختلفة لاحظتُ أن الكثيرين انتقدوا المسلسل وقرروا ألا يواصلوا مشاهدته لأنه "حريمي بزيادة" أو "حلو بس عايز قعدة نسوان"، و"للستات أكتر"، كما تساءل أحدهم بنبرةٍ مستاءةٍ "ليه 3 حلقات فيها سويت وباديكير!".
بدا لي غريبًا أن ينتقد أحدهم ظهور السويت والباديكير في مسلسل تدور أحداثه في كوافير حريمي! وهي الغرابة نفسها التي أراها في الحكم على عمل فني بالسيئ فقط لأنه "نسائي"، ربما لو كان "نسويًا" كنت سأتفهم سبب الغضب تجاهه.
بل تعليق مثل ما قاله محمد مهدي صاحب قناة فيلم جامد بأن "80 باكو مسلسل حريمي وأنا راجل مش مرتاح وأنا بتفرج عليه خالص"، ليس نقدًا فنيًا أو انطباعيًا؛ أنه تقييم جندري بالأساس.
ولكن التعليقات التي حملت كل هذه الأوصاف "الـحريمي" للمسلسل هي ما جعلتني أحبه للغاية، أنا وكثيرات غيري، بل إن سعادتي به تنبع من إجادة تشريح تلك الشخصيات النسائية لواقع النساء، والرجال أيضًا، في الطبقة الأقل من متوسطة، فقدمت تجسيدًا واقعيًا لعالم حقيقي، كما بدا لي أن العداء بين "النسائي" و"الرجالي" لا نهاية له.
يخدم البناء الدرامي للمسلسل وجهة نظر صناعه، فكل حلقة تزور فيها بوسي زبونة جديدة هي مدخل لقصة وطرح اجتماعي جديد من خلف الأبواب المغلقة، وهكذا تنوعت الحكايات لتهدم الصور الذهنية التقليدية لمعايير الجمال، وتسلط الضوء على الخيانة الزوجية، وتعنيف النساء، والثأر من أجل الشرف.
نساء يدفعن الثمن
الرحلة الدرامية للمسلسل بسيطةٌ ومشوقةٌ، إذ تسعى بوسي/هدى المفتي إلى زيادة ساعات عملها من أجل جمع 80 ألف جنيه لتساعد حبيبها مختار تيخا/خالد مختار في دفع "خلو رجل" لشقة إيجار قديم ورثها عن والده، ليتسنى للحبيبين إتمام الزواج. هدف مشروع؛ تعرض بوسي بمحض إرادتها المساعدة المالية، وتيخا لا يرفض، لكنه يضع شروطه في طبيعة عملها. صوت ذكوري معتاد.
هنا نتبين بعض الفروق بين الرجال والنساء في سوق العمل، بوسي تسخر مهاراتها ككوافيرة ماهرة وتجني أموالًا مضاعفة، أما تيخا الذي لا يملك أي مهارة تُذكر فينساق هو وصديقه خلف أفكار مشاريع تصيب مرة وتخيب مرة، حتى تنتهي إلى تعرضهم للنصب على يد أحد المستريحين.
تضعنا رحلة تجميع بوسي للمبلغ أمام سؤال متكرر: لماذا تساعد حبيبها؟ وأموالها التي تكسبها تخص مَن؟ تجيب بوسي بأن الحياة بينهما مشاركة ولا فارق بينهما، لكنها حين تكتشف خسارتها على يده، تتأكد أنها نسيت نفسها تمامًا، وهو ما أدركته متأخرًا كامرأة عاملة مستقلة لها احتياجاتها.
تشبه بوسي الكثير من الفتيات والنساء اللاتي يعملن ليل نهار لتوفير احتياجاتهن، ومد يد العون لأسرهن، وهي ليست النموذج الوحيد فهناك زميلاتها في محل الكوافير، فاتن/دنيا سامي مثلًا استقلت بحياتها وتنفق على نفسها بعد موت أهلها، وعبير/رحمة أحمد تعول بيتها لأن زوجها المدمن يعتمد عليها ماديًا، حتى مدام لولا/انتصار سيدة أعمال مستقلة تمامًا ووحيدة.
شعبي بدون بلطجة
في زحام المسلسلات الشعبية بات البطل الشعبي رمزًا يتباهى به الممثلون، ولعل هذا سببًا إضافيًا لعدم محبة الرجال لمسلسل يخلو من البطولات الذكورية؛ ما من بطل هنا يصرخ ويتعارك ويمنع نساءه من نزول الشارع، هذه أمور تنتقص من البطل الشعبي الرمز.
أكثر ما يثير إعجابي في المسلسل أن الرجال فيه ليسوا أبطالًا خارقين، بل شخصيات عادية جدًا، مغفلة أحيانًا، تحركهم الفهلوة والكسب السريع، كما أنهم ليسوا أشرارًا أو مكروهين، فما يجعل تيخا محبوبًا مثلاً ليست خفة دمه فحسب، بل محبته الحقيقية لشريكته بوسي ودعمه لها، هذا في ذاته مقياس لمعنى أن تكون رجلاً محبوبًا.
الشيء نفسه في شخصية عاصم/محمد لطفي؛ رجل عجوز ووحيد يحمل روح وخفة الحب من الزمن القديم، نموذج أقرب لنسمة عابرة تسعى لانتزاع الحب من قلب مدام لولا؛ مشاعر الرجال ليست مزعجة ولا تنتقص منهم في شيء، بل هي ميزان العلاقات المحبوبة دراميًا.
أما الجانب المظلم، والحقيقي جدًا، فوجود شخصية الزوج المعنّف، والأهل الصعايدة الذين جاءوا ليثأروا لشرفهم لأن قريبتهم فاتن خلعت حجابها. في هذا المشهد تحولت المأساة إلى كوميديا صارخة.
ما زالت النساء تعمل وتستقل بحياتها وتتعلم كيف تحمي نفسها وتبحث عن متنفس، وما زال الرجال يتحكمون ويفرضون سطوتهم، رغم أنهم، في نموذج ثأر الصعايدة ذلك، لا علاقة لهم بقريبتهم، لا يودونها ولا يهتمون لأمرها، العاطفة والود بالنسبة لهم سخافة لا معنى لها في مقابل أزمة الشرف.
ضحية الواقع والخيال
قبل أيام تعرضت الفنانة انتصار لواقعة تحرش في الساحل الشمالي. تصفحت التعليقات على الخبر، وصدمتني آراء لا تختلف عما قالته مدام لولا في أحد مشاهد المسلسل عند لومها لعبير بعدما عنفها زوجها "انتي مستفزة. تستفزيه يعني لازم يضربك"، واستطردت "انتي لو محترمة عمره ما يمد إيده عليكي".
هذا المشهد واقعي بامتياز، زوجة معنفة وأمها/أختها/صديقتها تقنعها أن المشكلة فيها هي لأنها مثيرة لعصبية الرجل. دائرة لا تنتهي من الاعتقاد الخاطئ أن النساء أصل كل الشرور.
الكلمات نفسها وردت كما هي في تعليقات الرجال على حادثة التحرش، واصفين الناجية/انتصار بأنها "مش محترمة" ومؤكد أنها "استفزته".
لا يعزز صناع العمل بهذا المشهد أفكارًا ذكورية مناهضة للنساء، بل يضعون مرآة أمام أعيننا. تتحدث لولا بذكورية في مقابل صوت بوسي الخافت الذي يقنع عبير بعدم تبرير إساءة طليقها معاملتها "لو راجل بحق عمره ما يمد إيده عليكي".
يدفعني 80 باكو إلى إعادة التفكير في مدى حاجة الدراما المصرية إلى المزيد من المسلسلات "النسائية". يبدو أن كثرة الأبواب المغلقة على حكايات النساء تزيد الفجوة بين كل مذكر ومؤنث، كما أن الشعور بالخجل من مشاهد السويت والباديكير ليس عيبًا، ويجب كسر الحساسية تجاهها.
هكذا يفتح لنا الفن ثقبًا للنظر، لا التلصص، عن قرب إلى عالم النساء والكشف عن جوانب غير وردية تمامًا دون الإغراق في الميلودراما، عبر شخصيات مختلفة مرسومة بذكاء وتنوع ورهافة، قطع بازل تكمل بورتريهات لا يلتفت لها العابرون في زحام وسط البلد.