
البابا فرنسيس.. الأرجنتيني الذي هز شباك القصر الرسولي
محاولات راهب يسوعي لرتق ثوب الفاتيكان
من فوق كرسيٍّ متحرِّكٍ يودِّع البابا فرنسيس الحشود في مساء الفصح الأخير. يُردِّد برئةٍ مُعتلَّةٍ وصوتٍ خافتٍ "المسيح قام.. حقًا قام"، ثم يشير إلى مساعده ليقرأ رسالته الأخيرة "الوضع في غزة مروع ومشين".
يتطلع إلى السماء حيث المسيح فاتحًا ذراعيه برجاء القيامة؛ العقيدة التي تتحدى الموت وتنبت في الأرض نورًا ورجاءً. يستسلم البابا للموت بينما يترك الرجاء على الأرض كزهرة لعلها توقف الحرب وتنتصر للحياة فوق بحور من الدم والخراب.
البابا اليسوعي الأول في تاريخ كنيسة روما يترجل، بعدما حارب رياحًا عاتيةً أتت على رئتيه فلم يعد بإمكانهما التنفس من جديد. ولأنه يؤمن بأن المسيح مات على الصليب مُقدَّمًا حياته فداءً للبشرية، أراد السير على نفس درب الآلام التي وصلت بالمسيح إلى صليبه، حتى نهايتها.
فرغم تحذيرات ونصائح الأطباء؛ أطلَّ البابا في مارس/آذار الماضي، وبعد خضوعه لأكثر من جراحة، ليؤكد أنه لن يستقيل "لديَّ الكثير لأقوم به مستقبلًا"، وكأنه يزيح بلسانه شبح سلفه بنديكتوس الذي استقال لفقدان الحيوية في عقله وجسده.
قرر البابا بنديكتوس تسليم تركته المثقلة بالأعباء لخليفة جديد أكثر شبابًا وقدرة على قيادة الكنيسة الهرمة. لتخيِّم استقالة اللاهوتي الألماني التقليدي اليميني عن كرسيه على السنوات الأولى من حبرية البابا فرنسيس.
انتخابات بلا جنازة
بعد الاستقالة المُدوِّية بأسبوعين؛ أي في مارس/آذار 2013، وصل خورخي ماريو برجوليو إلى روما لحضور مجمع انتخاب البابا. نزل فندقًا متواضعًا كان جامعةً يسوعيةً من قبل، بينما كان البابا بنديكتوس يتحدث عن السلام الداخلي الذي أصابه بعد قرار تنحيه أمام جموع غفيرة في ساحة القديس بطرس خلال عظته الأخيرة للجماهير.
تبدأ الصحافة بعدها في الكتابة عن المرشحين لتولي الكرسي الرسولي، فيما تُحلِّق طائرة البابا الألماني في السماء لتتركه شاغرًا وتحط في نُزُل سيقضي فيه بقية حياته مستسلمًا بعدما تكاثرت البقعُ التي تلوِّث ثوبَ باباويته الأبيض.
ما بين رفض لاتخاذ أي مواقف تجاه المتورطين في فضائح جنسية وتلك الاتهامات المالية التي لاحقت بنك الفاتيكان وأزمات أخرى طالت العلاقة مع العالم الإسلامي؛ هذه التركة الثقيلة تجعل الترشح للكرسي الباباوي عقوبةً أكثر منها مجدًا، في وقت تتعالى فيه الأصوات الليبرالية في العالم كلها وكأنها لحظة جديدة في حياة الكنيسة.
فوق هذه التركة المثقلة اجتمع ما يقرب من 150 كاردينالًا حطت طائراتهم من مختلف أنحاء العالم لتبدأ مباراة انتخابية جديدة بلا جنازة كما جرت العادة. فالبابا حي يرزق يراقب من بعيد مَن يتصدى لحمل تركته المهولة التي لم يتصور البابا بنديكتوس أبدًا أن بإمكان فرقائه في التيار الإصلاحي حملها.
لكن الكنيسة ربما أرادت أن تتذوق طعمًا مختلفًا بعد سنوات الانغلاق تلك كأن تأتي براقص تانجو من أقصى القارة اللاتينية ليصبح خليفة القديس بطرس رسول المسيح، ويكون الأول أيضًا من أبناء الرهبنة اليسوعية المعروفة باسم الجزويت؛ إحدى أكبر الجماعات الرهبانية في الكنيسة الكاثوليكية وتتسم خدمتها بجوانب صوفية، مع رغبة في الاختلاط بالناس ومساعدة المجتمع وخدمة الفقراء والمساكين والمتألمين، تمامًا مثلما كانت حياة المسيح.
كذلك فإن البابا فرنسيس هو البابا الأول من نصف الأرض الجنوبي؛ المصطلح الذي يشير في طياته إلى التمييز بين نصف الكوكب الشمالي المُحمَّل بإرث الاستعمار والنصف الجنوبي الذي عانى ويلات الاستعمار مما انعكس على التصورات الدينية والحياتية.
لعلَّ لقاء البابا الأخير بنائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس علامة على تلك المواجهات التي خاضها مع العالم المسيحي، وقد بدا كثيرٌ من هذا العالم مناصرًا لآلة الحرب الإسرائيلية، بالتوازي مع سياسات ترحيل وقمع اللاجئين. فقد استند فانس، الذي انضم للكنيسة الكاثوليكية عام 2019، إلى تعاليمَ كاثوليكيةٍ لتبرير حملة إدارة ترامب على المهاجرين، وهي الحملة التي وصفها البابا فرنسيس بالعار في خطاب أرسله لأساقفة الولايات المتحدة بعدما أعلنوا التوقف عن خدمة اللاجئين والمهاجرين، عقب ما انتهجته إدارة ترامب من تخفيض للنفقات والمساعدات.
خورخي يصبح فرنسيس
أتي الأساقفة الإصلاحيون بالأرجنتيني برجوليو؛ رجل من التيار الرعوي المختلط بالجماهير دفعوا به نحو المواجهة مع كاردينالات التيار التقليدي، الذي كان البابا الألماني أحدهم منغلقًا على مباحثه اللاهوتية، بعيدًا عن عصا الرعاية الباباوية التي تحيط المسيحيين حبًا وكرامة.
وبعد ثلاث محاولات لانتخاب حبرٍ أعظمَ، خرج الدخان الأبيض من الموقد ما يعني نجاح الكرادلة في اختيار خليفة جديد للقديس بطرس، سيخرج لتحية الجماهير. يتذكر برجوليو عن تلك اللحظة وقد غمره "نور عظيم استمر للحظات وكأنه دهر".
الأقاويل التي جرى تداولها عقب انتخاب فرنسيس لم تثنِه عن الانحناء طواعية لغسل أرجل المهاجرين والمتألمين في السجون
لكن بعد ساعات قليلة على انتخابه في الفاتيكان، ظهر مقابل كاتدرائية بوينس آيرس رسم جداري كبير يهاجم البابا الجديد ويصفه بأنه "صديق جورجي فيديلا رئيس الأرجنتين في أسوأ سنوات الديكتاتورية"، وكتب كثيرون على السوشيال ميديا عن البابا الجديد باعتباره "صديق الذين انتهكوا حقوق الإنسان"، وبأنه "شارك في الديكتاتورية"، واتهموه بأنه "يخفي ماضيًا غامضًا مرتبطًا بالديكتاتورية العسكرية".
فقبل ذلك بثلاث سنوات، توجه برجوليو عام 2010، وكان وقتها أسقف بوينس آيرس، إلى القضاء ليدلي بشهادته بشأن مزاعم تورطه عام 1976 في حادث اختطاف اثنين من اليسوعيين؛ هما أورلاندو يوريو وفرانشيسكو جاليكس، على يد سلطات الحكم العسكري في الأرجنتين، حيث عُذِّبا بوحشية لخمسة أشهر.
في التحقيقات، نفى برجوليو، الذي كان عند اختطاف الشابين يدير جمعية اليسوعييِّن في الأرجنتين، تورطه، وقال إنه "طلب تدخل رئيس المجموعة العسكرية الحاكمة حينذاك جورجي فيديلا للحصول على إطلاق سراح المبشرين".
هذه الأقاويل التي حاصرت البابا الأرجنتيني في بداية عهده، كفصل من الماضي، لم تُلقِ بظلال كثيفة لوقت طويل، إذ سرعان ما تبددت الكثير من غيومها، والبابا ينثنِي طواعية لغسل أرجل المهاجرين والمتألمين في السجون والمبعدين اجتماعيًا، ليظهر بعد سنوات من باباويته مُتمِّمًا طقس خميس العهد، عندما غسل المسيح أرجل تلاميذه ليقدم مثالًا حيًا على التواضع.
كما لم يقصر البابا الجديد محبته على تلاميذه ومريديه من الكاثوليك أو المسيحيين حتى، بل اتسَّع نطاقها ليشمل غير المسيحيين والنساء، مع إعادة تفسير للنصوص الدينية بالشكل الذي يجعلها أكثر رحابة كما يليق براقص تانجو يحاول ضبط إيقاعاته بين التقليد الكنسي والواقع المعاش.
سأتزوجك إذا لم أصبح كاهنًا
في اللحظات المهيبة أمام الجماهير التي واجهها لأول مرة كبابا للكنيسة، لا بد أن الذكريات تمايلت أمامه كشريط سينمائي، فها هو خورخي الطفل يلهو على حِجر جدته روزا التي أخذته ليعيش معها بعد ولادة أخيه، فنشأ طفلًا كاثوليكيًا صالحًا لعائلة تحاول النجاة من العوز والحاجة.
تخيط الأم ملابس صغارها ويعمل الأب ماريو محاسبًا في عدة أماكن ليفي احتياجات أسرته ثم يقودهم جميعًا في صلاة المسبحة كل ليلة. ها هو الصبي خورخي يلعب كرة القدم في الحي ويقع في حب جارته أماليا في مراهقته، ويقول لها "لو لم أصبح كاهنًا سأتزوجك". الآن ينظر إلى الحشود المجتمعة أمامه فهو لم مجرد كاهن، بل بابا الجميع؛ الكهنة والمؤمنين على حد سواء.
أَحبَّ خورخي الرهبنة اليسوعية، لكنه فكر مليًا قبل الالتحاق بالكلية الإكليريكية، كلية إعداد الكهنة اللاهوتية، فقد أصابته الحيرة حين أعجبته فتاة رآها في عرس أحد أقاربه إذ كانت تباغته خيالاتها في الصلاة.
لم يستطع الوقوف أمام الله لأسبوع كامل حتى تمكن من العودة إلى الصلاة بسلام تاركًا فكرة الزواج وراءه. مع ترك الزواج، قرر خورخي الانضمام للرهبنة اليسوعية التي أحب فيها حياة الفقر والتجرد، لكنها قادته أيضًا للكثير من المعارك حين أصبح رئيسًا للرهبنة اليسوعية في الأرجنتين.
يعود اهتمام البابا فرنسيس بمفاهيم العائلة إلى عناية خاصة تمتعت بها النساء في حياته، إذ كان أول بابا في الكنيسة الكاثوليكية يعمل تحت قيادة امرأة، حين كان فنيًا في أحد معامل التحاليل الطبية شكلت مديرته الكثير من أفكاره حول النساء القويات وقد انضمت للثورة على الديكتاتورية في الأرجنتين، مثلما يذكر الباحث إبراهيم ناجي في كتابه طبيب النفوس الصادر عن جمعية النهضة "جزويت القاهرة".
كذلك فإن جدته روزا التي تربى على حجرها شكلت حبه الأول كما يقول، فقد لقنته مبادئ الصلاة وتعلم معها المحبة والصفح والعفو عن الجميع فهي بقوله: "كانت تعلمني الإيطالية كي لا تذوب هويتي في الأرجنتيني وقد كانت تأخذني لصلوات عيد القيامة وعشت معها حتى داهمها الموت ممسكة بيدي".
مع ذلك لم يكن دور النساء في حياة البابا كافيًا على ما يبدو، لتغيير العقيدة الكاثوليكية التي تمنع رسامة النساء كقساوسة، وإن نجح في منحهن حق التصويت في أبريل 2023 خلال اجتماع عقده مع أساقفة، ثم سمح بعدها للنساء بشغل مناصب غير كهنوتية في القصر الرسولي.
هذه الباباوية التي حافظت على التقليد الكنسي ومنحت النساء هامشًا، انتصرت أيضًا لضحايا الاعتداءات الجنسية. فقد قرر البابا فرنسيس عزل ثيودور ماكاريك، وهو كاردينال يواجه عدة اتهامات بالاعتداء الجنسي على قاصرين وبالغين.
أكثر من ذلك، ففي عام 2019، وضعت الكنيسة خطة استماع لمن يتهم الكهنة بالاعتداء بشكل يضمن حماية الشاكين والترحيب بهم، وفي العام نفسه أصدر البابا فرنسيس قانونًا يرغم الكهنة والرهبان والراهبات على التبليغ عن أي شبهة باعتداء جنسي أو تحرش، وكذلك عن أي تغاضٍ من مسؤولي الكنيسة عن هذه الأفعال. وبعدها بسنتين شُددت العقوبات أكثر.
وضع البابا فرنسيس حدًا للحماية المؤسسية التي كانت تقدمها الكنيسة الكاثوليكية لمرتكبي الاعتداءات الجنسية على الأطفال والقصّر؛ الذين قُدَّر عددهم بمئات الآلاف خلال العقود الماضية، بينهم أكثر من مئتي ألف في فرنسا وحدها. اليوم، أصبحت كل الأبرشيات في جميع أنحاء العالم ملزمة خلال عام بوضع نظام يستطيع الجمهور الاستفادة منه، لتقديم تقارير عن انتهاكات جنسية محتملة، وهي الإجراءات التي كان قد رفضها البابا بنديكتوس مُفضلًا حماية الكنيسة على حساب رعاياها، وضد عجلة التاريخ.
الكنيسة وهي تهب العالم أفكارًا جديدة
"لقد سمعت نبرة جديدة للكنيسة، تميزت بالحوار، والمشاركة، والاندماج والرجاء. فلن تتراجع الكنيسة عن التحديث، ولكنها ستصبح كالقابلة التي تساعد في تلقي المواليد الجدد إلى عالم أكثر إنسانية"، قال برجوليو هذا عام 1965 مع انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني، بينما كان يدرُس في جامعة المخلص في بوينس آيرس في بداية طريقه في رحلة الرهبنة اليسوعية، عن وفق ما ذكره إبراهيم ناجي في "طبيب النفوس".
بعدها بنحو ستين عامًا، سيعود برجوليو، وقد أصبح البابا فرنسيس، إلى تلك الفترة مُتذكِّرًا تلك الفترة وما قبلها "كان هناك عالم ابتعد عن المسيحية وأبدى إزاءها أكثر من الرفض، اللامبالاة". انعقد المجمع بسبب ذلك، ليجيب أسئلة كثيرة، أو لـ"إزالة التجاعيد من وجه الكنيسة" كما قال البابا يوحنا الثالث والعشرين وهو يدعو إليه عام 1962.
يُنظر اليوم لوثائق المجمع التي صدرت عام 1965 مع اختتام أعمال المجمع، باعتبارها الصخرة التي تشكَّلت عليها الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة، بحسمها أسئلة إيمانية عميقة أعادت تعريف علاقة الكنيسة كمؤسسة بشعبها وفق ديناميكيات مختلفة، وحددت موقف الكنيسة من مفاهيم حقوق الإنسان التي كانت حديثة النشأة وقتها، كما أعادت تشكيل العلاقة مع الطوائف المسيحية والديانات الأخرى، في ضوء عقيدة خلاص غير المؤمنين من اليهود والمسلمين والوثنيين، كونهم أيضًا من ضمن شعب الله، والتي أقِّرت في المجمع.
وبعد أن توقفت الحوارات مع العالم الإسلامي في عصر البابا بنديكتوس، عاد البابا فرنسيس ليسافر بها بعيدًا. فحدث في عهده توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية مع الأزهر عام 2019 لنشر قيم العيش المشترك والسلام العالمي، يتبعها البابا فرنسيس ويسبقها بزيارات كثيرة للعالم الإسلامي حتى إن شيخ الأزهر وصفه وهو ينعاه بالرجل الذي عاش حياة سخَّرها في العمل من أجل الإنسانية، ومناصرة قضايا الضعفاء، ودعم الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة.
ليغادر فرنسيس تاركًا وراءه إرثًا كبيرًا من المحاولة. محاولة رتق ثقوب الثوب الفاتيكاني الذي تمزق من تجاذبات التقليديين والإصلاحيين وكأنه أراد أن يهدي الكنيسة خيوطًا جديدة تستطيع أن تربطها معًا لتكمل ما بدأه الرجل، أو تمزقها لتعود إلى صراعاتها القديمة في عالم يصعد فيه التيار اليميني سياسيًا ودينيًا مع تكهنات حول المستقبل الذي لا يمكن رؤيته إلا من خلال دخان الفاتيكان الأبيض حين يعلن الكرادلة اختيار بابا جديد.
لعل البابا الذي كان مولعًا بكرة القدم أراد إحراز هدفه الأخير في شباك القصر الرسولي، فترك وصية رفض فيها أن يوضع جسده عاليًا فوق عرش يحول بينه وبين الناس التي أتت لوداعه لينزل عن عليائه لمرة جديدة قبل أن يغمر جسده التراب.
طوال سنوات خدمته، رأى البابا في عتبات القصر الرسولي الفخمة وتلك التقاليد المهيبة التي تحيط بالمنصب الباباوي مجرد حواجز تمنعه من تلمس طريقه إلى السماء، فتغيرت على يديه الباباوية لتصير من لحم ودم بشكل يجعل إعادتها لأبراجها العاجية محط انتقاد الناس الذين ذاقوا حلاوة القرب من خليفة القديس بطرس بالقول والفعل.