أين تذهب أموال الطبقة الوسطى بعد خفض الفائدة؟

منشور الثلاثاء 27 أغسطس 2019

عندما طرحت الدولة شهادات استثمار قناة السويس في 2014، منحت قطاعات واسعة من الطبقة فرصة لاستثمار مضمون العائد بعد سنوات من عدم الاستقرار الاقتصادي بحكم أحوال السياسة بعد ثورة يناير. 

وعندما قرر البنك المركزي تعويم الجنيه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، منح أيضًا الطبقة الوسطى الفرصة للحفاظ على مدخراتها من خلال رفع أسعار الفائدة بوتيرة متسارعة، وهو الإجراء الذي كان بمثابة توجيه للبنوك لطرح أدوات ادخارية بعائد مرتفع للغاية يتجاوز 15%، لحماية مدخرات هذه الطبقة من التآكل أمام التضخم الناتج عن التعويم.

وبينما يتجه البنك المركزي في الوقت الراهن للتراجع بشكل متسارع من مستويات الفائدة التي سجلها بعد التعويم؛ لاتزال المدخرات المصرية تواجه ضغوط التضخم الناتج عن إجراءات السنوات العسيرة الماضية المعروفة بـ "الإصلاح الاقتصادي". فما هي البدائل المطروحة أمام الطبقة الوسطى؟

 

من هم المدخرون وماذا فعلوا ؟

المدخرون فئة متميزة بلا شك، فهم القطاع الذي يستطيع أن يُجنِب جزءًا مهمًا من دخله بعد استنزاف النفقات الاعتيادية، فبعد الإنفاق على الطعام والشراب وفاتورة الكهرباء وأقساط مصاريف مدرسة الأولاد؛ يتبقى مبلغ من المال يمكن وضعه كوديعة في البنك والحصول على عائد منه.

وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الواردة في بحث الدخل والإنفاق الأخير، فإن العائد من المدخرات المالية يمثل نسبة ضئيلة للغاية من عوائد الأسر المصرية، حيث يقتصر متوسط دخل الأسرة من الممتلكات المالية (أوعية الادخار والأوراق المالية ) على 1.9% من مجمل مصادر دخل الأسرة.

 

المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء

تخبرنا هذه البيانات أن المصدر الأساسي للدخل في المتوسط يكون الأجر مقابل العمل، وبطبيعة الحال تنفق الشرائح متدنية الدخل كل أجورها على نفقات المعيشة، أما الادخار فهو رفاهية متاحة فقط للفئات متوسطة أومرتفعة الأجر.

الموجة الأخيرة في زيادة الفائدة دفعت فئات واسعة من المصريين القادرين على الادخار للجوء إلى البنوك والاعتماد على عوائد البنك كمصدر مكمّل للدخول، حيث يقول محافظ البنك المركزي المصري في تصريح صحفي فبراير/ شباط الماضي إن شهادات الاستثمار بالبنوك مرتفعة العائد جذبت 800 مليار جنيه خلال عامين من 28 مليون مواطن.

كان البنك المركزي رفع أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض لليلة واحدة على عدة خطوات منذ تعويم الجنيه في نوفمبر 2016 بما يساوي 7%، وهي قفزة كبيرة في الأسعار كان هدفها الأساسي محاولة احتواء التضخم الذي أنتجه التعويم وإجراءات أخرى تعرف بـ "الإصلاحات الاقتصادية". 

الطريقة الكلاسيكية لمكافحة التضخم تكون من خلال رفع المركزي لأسعار الفائدة، والذي يعد بمثابة إجراء موجه لأسعار الفائدة في كافة البنوك، وبناء على ذلك يتجه العديد من الأفراد وكيانات الأعمال لوضع المزيد من أموال المدخرات المتاحة لديهم في ودائع بنكية للاستفادة من العائد المرتفع، وهو ما يقلل من السيولة المتاحة لديهم للاستهلاك، ومن ثم يقل الطلب فتهديء حركة الأسعار ولا يرتفع التضخم مجددًا. 

مواجهة التعويم بالادخار

تخبرنا بيانات النشرة الشهرية للبنك المركزي عن ارتفاع كبير في حجم ودائع القطاع العائلي بالعملة المحلية في الفترة التالية لتعويم الجنيه، مقارنة بودائع العملة الأجنبية، وهو أمر يمكن تفهمه في ضوء الفائدة الكبيرة التي حظيت بها المدخرات المودعة في البنوك بالجنيه المصري مقابل فائدة المدخرات الدولارية.

وقتها؛ أرادت البنوك تحفيز الكثير من الفئات المُدخِرة على بيع "دولاراتهم" وإيداعها في البنك بالعملة المحلية، كواحدة من طرق زيادة حصيلة البنوك من العملة الصعبة وتيسير أزمة النقد الأجنبي التي كانت على أشدها قبل تعويم نوفمبر 2016. 

 

المصدر: البنك المركزي

كانت شهادات الاستثمار والأوعية الادخارية مرتفعة العائد ملاذًا آمنًا لأموال المصريين من التضخم القوي الذي تجاوز 30% في بعض الفترات التالية للتعويم. ولكن الأوضاع لم تكن لتستمر على هذا الحال إلى الأبد.

فقد كان لزيادة فائدة البنك المركزي تأثير مقابل تمثل في رفع فوائد القروض التي تقدمها البنوك لرجال الأعمال،  ما يعني الحد من فرص الإقراض للشركات، وهو ما يؤثر بطبيعة الحال على الإنتاج وفرص العمل.

هذا بجانب أثر إجراءات المركزي أيضًا على زيادة فائدة التمويل الذي تمنحه البنوك للحكومة في صور عدة، مثل زيادة العائد الذي تقدمه وزارة المالية على أذون الخزانة والسندات، وهو ما ينعكس في النهاية على زيادة الدين العام.

لذا عمل المركزي بدءا من فبراير 2018 على خفض الفائدة بشكل تدريجي، الأمر الذي أعاقته موجات التضخم المتكررة خلال هذه الفترة، لكنه في المجمل خفّض العائد 3%، ثم أضاف في الخطوة الأخيرة خلال اجتماعه هذا الشهر خفضًا قويًا بـ 1.5% ليصبح اجمالي الخفض 4.5% من 7% زيادة بعد التعويم. ليصل سعر الإيداع إلى 14.25%، و الإقراض إلى 15.25%.

 

المصدر: البنك المركزي

ماذا يعني ذلك لجيبك كفرد من الطبقة الوسطى؟

أبدى مجتمع الأعمال ارتياحه النسبي لخطوات خفض الفائدة الأخيرة. على سبيل المثال نقلت  رويترز عن مسؤول قوله إن التراجع الأخيرة في الفائدة سيساهم في تقليص نفقات "المصرية للاتصالات" التمويلية بنسبة 20%.

وإن كان مجتمع الأعمال يرى أن الفائدة لا تزال مرتفعة، وهو ما يعزز من التوقعات بالمزيد من خفضها على يد البنك المركزي خلال الأشهر القادمة. 

في هذا السياق يقول خالد بشارة، الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لشركة أوراسكوم القابضة للتنمية، في حوار مع جريدة حابي الاقتصادية إن " استمرار معدلات الفائدة حول 15% أمر لا يدعو للاستثمار وتحمل المخاطرة، متسائلًا عن حجم الإيراد المطلوب أن يولده قرض بقيمة مليون جنيه حتى يسدد فوائده والضرائب المحملة عليه".

وقال بنك الاستثمار بلتون في ذات السياق إن مجتمع الأعمال لا يزال يحتاج لخفض الفائدة بـ 2% على الأقل لاستعادة قدرته على الإنفاق الرأسمالي، أي الإنفاق الذي يؤدي للتوسع في القدرات الإنتاجية. ويتوقع البنك خفضا في الفائدة بـ 4% حتى نهاية 2020.

إذا كان رجال الأعمال يبدون سعادتهم بقرار البنك المركزي خفض الفائدة عقب انخفاض نسبة التضخم؛ إلا أن أرباب الأسر من الطبقة الوسطى ممن اعتمدوا على عائد الودائع جزئيًا كمصدر للدخل لن يعجبهم هذا الكلام، فهم لا يشعرون بانخفاض في أعباء المعيشة تجعلهم يستغنون عن العائد الذي كانوا يحققونه من مدخراتهم في البنك، بسبب قفزات أسعار السلع التي لم تنخفض بانخفاض التضخم.

انخفض التضخم فلماذا لم تنخفض الأسعار؟

يتم بناء مؤشر التضخم على أساس التطورات التي تحدث في الرقم القياسي لأسعار المستهلكين، ويعبر هذا الرقم عن مستويات الأسعار في مناطق جغرافية مختلفة خلال شهر معين، ويمثل معدل التضخم معدل النمو في الرقم القياسي لشهر معين مقارنة بفترة أخرى، كالشهر السابق عليه أو نفس الشهر من السنة السابقة إلى آخره.

لذا فعندما نقرأ في رويترز أن التضخم السنوي في المدن المصرية هبط إلى أدنى مستوياته في نحو 4 سنوات (عند 8.7% في يوليو من نسبة 9.4% في الشهر الذي يسبقه) لا يعني ذلك تراجع الأسعار، ولكن هدوء وتيرة ارتفاعها. 

بمعنى آخر فإن كيلو اللبن مثلًا الذي يمثل احتياجًا أساسيا لأسرتك وكنت تشتريه قبل التعويم (حتى أكتوبر 2016) بـ 7.78 جنيه، وفقًا لبيانات جهاز الإحصاء، وتضاعف سعره في يونيو الماضي إلى 14.52جنيه، لن يتراجع مجددًا إلى أسعار ما قبل التعويم، بل إن أسعاره ستستمر في الزيادة، ولكن لن تتضاعف بنفس السرعة التي شهدناها في الفترة الماضية.

يعني ذلك ببساطة أن الصدمة التي تلقتها الطبقة الوسطى من التعويم متمثلة في ارتفاع تكاليف المعيشة لم تختفي، ولكن الخبر الجيد أنها لا تتفاقم في الوقت الحالي.

 

المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء

عندما يتبخّر نصف راتبك الشهري

إذا ما نظرنا لتطور الرقم القياسي بين شهر التعويم، نوفمبر 2016، وحتى آخر بيانات متاحة بشكل تفصيلي من الجهاز المركزي عن شهر يونيو/ حزيران 2019، سنجد أن معدل نمو الرقم بين الشهرين بنحو 45.5%.. يمثل ذلك حجم التآكل في أجورنا ودخولنا المختلفة.

هناك بالطبع بعض الأسر استطاعت أن تتفاوض مع صاحب العمل على زيادة الأجر لمجاراة الأسعار، ولكن للأسف لا توجد بيانات محدثة من الدولة عن حركة الأجور نستطيع من خلالها أن نقيس إلى أي مدى تحركت الأجور بشكل يتجاوب مع ارتفاع الأسعار، لكن المؤكد أن هناك الكثيرين لم يقدروا على العودة لمستويات المعيشة في ما قبل التعويم في ظل ضعف التنظيمات النقابية في مصر وأشكال التضييق المختلفة التي تتعرض لها الكيانات العمالية عندما تحاول تنظيم نفسها للضغط لتحسين الدخل.

لذا فإن الأخبار التي تلت خطوة المركزي الأخيرة عن اتجاه البنوك لخفض الفائدة على الأوعية الادخارية بما يتراوح بين 1 إلى 1.5%، كان لها بلا شك وقع سيئ على الكثير من أسر الطبقة الوسطى، خاصة لتزامن هذه التطورات مع حلول آجال شهادات قناة السويس التي كانت توفر عائدًا مجزيًا للكثيرين.

فمثلا إذا كان البنك يمنح عائدًا 15% سنويًا على شهادة الاستثمار، فإن شهادات بـ 100 ألف جنيه كانت توفر دخلا في السنة قيمته 15 ألف جنيه، وبانخفاض العائد إلى 14% يصبح الدخل السنوي 14ألف جنيه.

 

المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء

ما هي الفرص البديلة أمامك لتعويض الخسارة؟ 

واحدة من أكثر البدائل التي اعتادت الطبقة الوسطى المصرية على توجيه فوائضها المالية إليها هي العقارات، فأصل رأس المال المستثمَر في هذا المجال تزيد قيمته بمرور الوقت، كما أنه يولّد دخلًا جيدًا من خلال الإيجار. 

وقد شهدت الاستثمارت العقارية في مصر قفزتين كبيرتين في فترتين اتسمتا بالاضطراب الاقتصادي، الأولى بعد ثورة يناير ،والثانية في الفترة المحيطة بالتعويم.   

ربما يعكس الاستثمار في هذا القطاع استجابة للطلب القوي للأسر على شراء العقارات في الفترات التي لا تتسم بوضوح الرؤية الاقتصادية، لكن في الوقت الحالي يحذر الكثيرين من وضع المدخرات في العقارات  بسبب الاشتباه في وجود ركود في السوق العقاري.

لكن هناك محللون يعتقدون أن هذا القطاع يظل حصانًا رابحًا، فمهما زاد المعروض من العقارات يظل الطلب قويًا، في ظل ارتفاع عدد السكان. مصر تعقد نحو مليون زيجة كل عام.

 

المصدر: وزارة التخطيط

يقول رجل الأعمال البارز في عالم البناء هشام طلعت مصطفى، إن الخفض الأخير في الفائدة سيساهم في تشجيع السيولة على التوجه بشكل أكبر للنشاط العقاري مما سيحدث رواجًا في القطاع.

العيب الأساسي في الاستثمار العقاري بالنسبة لأسرة متوسطة الدخل هو عدم قدرتها على تسييل هذا الأصل بسهولة، فحجم المدخرات المتاح لدى هذه الأسرة محدود بطبيعته، وربما يكون 90% من هذه المدخرات مخزن بالفعل في عقار. لذا ففي حالة الحاجة لنفقات طارئة؛ قد تواجه هذه الأسرة مشكلة بسبب طول الفترة المستغرقة لبيع العقار خاصة إذا كان السوق يعاني من التباطؤ.

الحلول الأخرى: الذهب والأسهم

بخلاف العقارات؛ قد يفضل البعض وضع مدخراته في ممتلكات ذهبية، لأنها تحفظ قيمة الأموال وفي نفس الوقت يسهل بيعها بشكل سريع، ولكن عيبها أنها لا توفر عائدًا شهريًا ثابتًا تستطيع أن تعتمد عليه أسرة كمصدر مكمل للدخل.

يبقى الاستثمار في الأسهم كبديل أخير، وهو مجال للاستثمار يحتاج إلى قدر من التفرغ والاستعداد لتحمل المخاطرة، وذلك في حالة الاستثمار مباشرة بشراء وبيع الأسهم. 

نظريًا؛ يفترض أن يستفيد سوق المال من خفض الفائدة، فكلما قل العائد على الودائع المدخرة للبنك تهرب الأموال إلى شراء الأسهم بحثًا عن عائد أكثر ارتفاعا، لكن هناك خبراء يرون أن البيئة الاقتصادية الدولية في الوقت الحالي خاصة في ظل الإحساس بالمخاطر الناتجة عن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين تحد من فرص الأسهم المصرية في الارتفاع وتحقيق مكاسب. 

هنا نعود إلى النقطة الأولى، وهي أن الودائع البنكية ستظل إلى حد كبير من أكثر الوسائل الملائمة لاستثمار مدخرات الأسرة، إذ أنها قابلة للتسييل بسهولة، وتحقق عائدًا شهريًا ثابتًا لا يحتاج لأي مجهود أو مخاطرة، وتحقق أمانًا نسبيًا في حالة حدوث أية ظروف طارئة.

التحدي في هذا الخيار؛ هو أن العائد منه سيتجه للتناقص بقوة خلال الفترة المقبلة مع اتجاه البنك المركزي لخفض الفائدة، في الوقت الذي تظل فيه مستويات المعيشة مرتفعة وتظل هناك حاجة لدى الكثير من الأسر لدخل مكمل لدخلها الأساسي المحقق من الأجر المقابل للعمل.