المنصة
تصميم: يوسف أيمن

"محاسن موتاكم": بين الرحمة الإلهية والمكاشفة السياسية

منشور السبت 14 مارس 2020

عند رحيل شخصية سياسية مهمة، يتكرر الجدال بشأن مصداقية الترحم عليها أو طلب المغفرة الإلهية لها من عدمه، ويدور هذا الصراع حول ما يمكن دعوته اختصارًا بـ"المنزلة الأخروية" للفاعل السياسي، والتي تستبدل منزلته السياسية الحقيقية، أي قيمة ما أحدثه من أثر على المجتمع عبر نشاطه السياسي، ضمن مجرى الأحداث التاريخية التي عاصرها وساهم فيها، فتقسِّم الناس إلى معسكرين متصارعين، بين المُترحِم الذي يرى أنه لا يجوز سوى الدعاء للراحل دون إصدار أي حكم بشأنه من جهة، وعلى الجهة اﻷخرى معسكر آخر يقرر مصير المتوفي اﻷخروي سواء الجنة أو النار.

هكذا يحبِط كلا المُعسكرين محاولات التقييم والمُكاشفة السياسية للراحل، حيث يَردُّ المعسكر الأول ذلك الحق إلى سلطة إلهية خارج العالم والتاريخ والمجتمع، هي التي ستقرر للراحل في عالم موازٍ "ما له وما عليه"، فتُجهض بذلك محاولات المُكاشفة الضرورية لأي عملية سياسية سليمة، وتطبع السلطة السياسية بهالة مُقدسة تُضيء رؤوس ممثليها بحجة "اذكروا محاسن موتاكم"، سالبة ًجماهير الناس حقهم في تكوين ذاكرة سياسية تحتوي اختلافاتهم (المُؤيدة والمُعارضة) بشأن ميراث ومسيرة السياسي الراحل، والنقاش الجاد بخصوصه، والذي قد يؤدي لنتائج وتحليلات مفيدة.

في المقابل، يُضفي المعسكر الثاني صبغة خرافية على العملية السياسية ذاتها، فهو يُحيل المسألة حصرًا (ربما بطريقة أكثر حسمًا من المعسكر الأول) إلى نفس السلطة الإلهية، التي حسمت رأيها بالفعل تجاه الشخص وفقًا للهوى الخاص بالفرد، فهو إما في الجنة أو النار بالفعل، ولا مجال هنا إذًا للحكم السياسي الواقعي على الراحل بأنه كان سيئًا أو جيدًا، عادلًا أو مستبدًا، ذكيًا حتى أو غبيًا، وإنما لحكم تخيلي بأنه إما مُنعم أو مُخلد في العذاب، ليتصارع المختلفون حول نعيمه وعذابه في عوالم موازية، لا تمت للواقع أو العملية السياسية بِصلة.

هكذا  يُصارع البعض طواحين الهواء بشأن مصير الأموات، بدلًا من النظر الجاد الذي يُولي اهتمامًا بمصير الأحياء.

من أجل علمنة الذاكرة السياسية

الظاهرة السابقة قديمة للغاية، ويمكن أن نردها إلى العقود الأولى من عمر الخلافة الإسلامية وما تخللها من صراعات سياسية وعسكرية (فتن)، شكّلت حولها الأحزاب السياسية المُختلفة، وذلك بناءً على موقف كل حزب منها،  فقد كان الاختلاف حول مصير مُرتكِب الكبيرة من أوائل وأهم أسباب انقسام الفرق الكلامية الإسلامية، الذين دفعتهم بدايًة أحداث الفتنة الكبرى إلى تبني الكبيرة "السياسية" المتمثلة في القتل تحديدًا دون غيرها من مسائل الدين، كموضوع رئيسي للبحث ومن ثمَّ للانقسام المذهبي داخل الإسلام، والذي يمكن تصنيفه كالآتي: 

الخوارج: كفّروا مُرتكب الكبيرة بصفته مُشركًا، ما عدا الإباضية وهي فرقة منهم قالت إنه كافر كفران نعمة، وليس بكافر كفران شرك. [1] وقد كفّر الخوارج "طلحة والزبير وعائشة وأتباعهم بقتالهم عليًا في معركة الجمل."[2] ثم كفّروا الأمويين، وعليًا نفسه عقب حادثة التحكيم الشهيرة

المُرجئة: أجّلوا الحكم على مُرتكب الكبيرة، وأجازوا القول بإيمانه، حيث فصلوا بين الإيمان الذي "مقره القلب"، والعمل.

المعتزلة: قالوا إن مرتكب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر، فهو  فاسق مردود حكمه إلى الله. وقد قال واصل بن عطاء (مؤسس الاعتزال) عن طرفي الفتنة إن "فرقة من الفريقين فَسقة، لا بأعيانهم" أي أنه لا يستطيع أن يُحدد الفسقة بينهم. [3]

أهل السنة والجماعة: قالوا بصحة إسلام الفريقين في حرب الجمل، و"إن عليًا كان على حق في قتالهم، وأن أصحاب الجمل كانوا عصاة مخطئين في قتال علي، ولم يكن خطؤهم كفرًا ولا فسقًا يُسقط شهادتهم" [4]

الشيعة: كفّروا فريق الجمل، ومن بعده الأمويين لقتالهم عليّ.  

الجنة والجحيم..تجاوز الثنائية 

هكذا حاول المتكلمون المسلمون البحث في مصير أعضاء أحزاب الفتنة المُتصارعة، داخل الإطار الديني الذي شكّل موضوع بحثهم، كما صاغ نظام الخطاب السياسي في ذلك الوقت، وتحديدًا ما يتعلق بمناهجه ومفرداته، مُنجرفين إلى ثنائية "مُكاشفة سياسية" أحد طرفيها هو التأجيل المؤبد على طريقة "اذكروا محاسن موتاكم"، و"له ما له وعليه ما عليه " الذي يلغي المُكاشفة قبل بدايتها، فهو بانتظار أن يأتيه "ما له وما عليه" في المنام، بينما يدعو الطرف الآخر إلى الحسم الخرافي على طريقة "في الجنة ونعيمها" أو "ربنا يحرقه بجاز" والذي لا فائدة تُرجى منه بالإضافة إلى سطحيته.

نريد هنا تجاوز هذه الثنائيةالغيبية كليًا (المرجئة والخوارج)، فلا الترحم مهم ولا اللعنات السماوية كذلك، وليس لأي منهما فائدة تُرجى فيما يتعلق بالمجتمع والعملية السياسية التي تديره، وإنما المطلوب أن تصير المُكاشفة السياسية دنيوية علمانية، تقيّم آثار موضوعاتها على السياسة والمجتمع، وتُصدِر في ذلك أحكامًا سياسية (دنيوية) بشأنهم، ولا تهتم بمصيرهم "الميتافيزيقي"، الذي يستحيل البت فيه، ولا تربطه صلة بالمجتمع، ذلك الأخير الذي له الحق كذلك في أن يُراجع من كانوا في أحد الأيام مسؤولين عن تسييره بطريقة دون أخرى عبر السياسة؛ وبالتالي في خلق الراحة أو المعاناة لملايين؛ من حقهم أن يخوضوا نقاشًا بشأن ميراث الأشخاص الذين ساهموا في صياغة شكل المجتمع الذي يعيشون فيه، وبالتالي شكل حياتهم.

من هنا، نسعى إلى تعرية بعض المغالطات المرتبطة بتلك الرؤية الأخروية، والجهل بماهية السياسة والسياسي المرتبط بها، والذي يخلق جهلًا بشأن معيار "الحاكمية السياسية"، والمقصود بها هنا؛ معيار الحكم الصحيح على الفاعلين السياسيين، وحدوده الزمانية، سواء كان هؤلاء الفاعلون مواطنين مُنخرطين في الحياة العامة (بتنوعاتها السياسية والاجتماعية وحتى الأخلاقية)، أو سياسيين مُحترفين، والمقصود بالحرفة هنا هو أن السياسة تُشكل بالنسبة للشخص مجال عمله أو تأثيره؛ بغض النظر عن موقعه الإنتاجي الفعلي، أو تُشكل انشغاله الثقافي؛ كونه مُثقفًا عامًا أو مُفكرًا من أي خلفية أو حقل معرفي يمت للسياسة بصلة.

من ثمَّ، نبدأ بتحديد مجال الفعل السياسي للبشر بصفته مجالًا تاريخيًا-اجتماعيًا؛ أي ببساطة علمانًيًا لا تصح محاكمته وفق معايير تتجاوز الزمان والمكان والعقل، مرورًا بتحليل أسباب انحراف الأحكام السياسية عن مجالها الصحيح إلى المجال اللاهوتي، بسهولة تفوق غيرها من الأحكام التي يصدرها البشر في نشاطاتهم الاجتماعية الأخرى.

حين نتحدث عن السياسة

لنطرح سؤالًا مفتاحيًا هو؛ أين يحدث الأثر السياسي؟ أو إلى أي مجال تنتمي الأفعال السياسية للبشر؟ (بغض النظر عن موقعهم في المجتمع)، إن هذا المجال يقع حصرًا ضمن المجتمع البشري الطبيعي-التاريخي (الدنيوي)، وليس أي مجال ميتافيزيقي مُفارق، وبناء على ذلك، فإن آثار البشر داخل هذا المجال تحدث بقدر ما تستمر حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وتدفعهم إليها غريزتهم ورغبتهم في العيش مع آخرين.

إذن، ليس المجتمع الطبيعي-التاريخي افتراضًا نجهله، بل واقعة نعلمها يقينًا بصفتها مجال فعلنا الوحيد الممكن، ومنها فعلنا السياسي، ونحن نُعيد إنتاج وتطوير ذلك المجال بصفتنا حيوانات مُتكلمة– اجتماعية، وذلك ما يجعلنا نعتقد بأن لدينا قدرًا من حرية الإرادة التي جعلت مجتمعنا الحيواني-البشري يحظى بأشكال أكثر تطورًا من مجتمعات الحيوانات الأخرى الفاقدة لهذه الإرادة، وحتى في حالات الكائنات ذات التنظيم الاجتماعي البارع مثل النمل أو النحل، فإن البشر وحدهم من أنتجوا تمثيلات مُعبرة عن نشاطاتهم الاجتماعية المُختلفة في صورة لغة (فكر) ورسم وموسيقى.. إلخ

هذه القدرة على التمثيل هي قدرة على الحكم؛ القدرة على أن ننظر إلى أفعالنا وأفعال الآخرين عبر عكسها في مرآة اللغة، وأن نقيّمها، وبما أننا كائنات اجتماعية أساسًا، فإن هذه الأحكام لا تكون منعزلة بقدر ما تدخل دومًا في علاقة مع آخر، الذي قد يتوسع ليصير المجتمع بأكمله؛ أو ما يمثله من أحزاب وتنظيمات وقادة ودولة. كما أن اختلاف تلك الأحكام وتنوعها هو ما يخلق التحزب/الانتماء الذي هو جزء أصيل من الفعل السياسي للبشر، سواء كان التحزب صريحًا، أو ضمنيًا في حال عبِّر الشخص بوعي أو بدونه عن أحكامه السياسية في صورة أخرى غير سياسية.

لذا، لا يُمكن رد تلك الأحكام أو تأجيلها إلى مجال آخر يتخيله بعضهم في صورة جنة أو نار، إله أو آلهة ستحكم بنفسها على التاريخ البشري، لأنه حتى ذلك الخيال يظل فاعلًا فقط في إطار هذا المجتمع الدنيوي، فنشاطات البشر (ومنها السياسي) التي تشكل في محصلتها شكل حياتهم ومجتمعهم، هي ملك البشر أنفسهم، وتظل أحكامهم وآراءهم فيها (سواء بشأن الأشخاص أو الظروف أو الأحداث التي سببت تلك الآثار) مهمة في بناء وعيهم التاريخي، الذي يساهم بدوره في إعادة إنتاج حياتهم الاجتماعية.

هذه الحياة التي شارك في صياغتها على ما هي عليه شخصيات بارزة ندعوها "سياسيين"، يحق لغيرهم من البشر الذين ندعوهم مواطنين في تلك الحالة، وهم من تأثروا بثمار تلك الصياغة، أن يصدروا الأحكام المُختلفة بشأن تلك الثمار التي خلّفها سياسيوهم عقب رحيلهم بأيام أو بعدة قرون، إذ أنهم ساهموا بدرجات متفاوتة الأهمية في جعل المجتمع؛ وبالتالي الحياة البشرية نفسها التي يضمها، بما فيها من عناء أو راحة على ما هي عليه، فهم إما ساهموا في خلق مزيد من الصعوبات والمعاناة التي يُنتقَدون لأجلها، أو في خلق مزيد من الراحة يُثنَى عليهم بها.

العزلة الاجتماعية وفوضى العقل السياسي

سأبدأ بمثال بسيط عن الحُكم، أنتقل منه إلى واحد من أهم الأسباب الوقوع في فخ إصدار الأحكام السياسية الخاطئة كما أتصوره، والذي يؤدي بالنهاية لردها إلى مجالات أخرى ما ورائية، تنزع صلاحية التفكير والمساءلة السياسية من العالم الأرضي الدنيوي وتردها إلى قوة (لاهوتية) مُفارِقة تؤجل تلك المساءلة أو تحسمها بضربة واحدة، للأبد في كلتا الحالتين.

إذا كان أحدهم طبيبًا فإنه لا يُمكن أن نؤجل حكمنا بشأن كفاءته المهنية إلى مجال آخر غير مجال واقعي نستطيع اختباره بطريقة ما، لنفترض، على سبيل المثال، أنه جراح، ليكن حكمنا في تلك الحالة إذن مُرتبطًا برصد نتائج شريحة من العمليات الجراحية التي أجراها، بحيث تصبح شريحة العمليات الجراحية تلك ما ندعوه "مجال الحكم"، وأما النتائج فهي "معيار الحكم"، فهل يمكن فصل معيار الحكم (نقله إلى مجال آخر مُفارق تمامًا للنشاط الجراحي) عن مجال الحكم ويظل حكمنا صحيحًا؟

دعنا نضع افتراضًا آخر، وهو أن هذا الطبيب شهير لدرجة جعلتنا نرغب في تدريس مسيرته المهنية، بعد وفاته، بأحد أقسام الطب، فهل نستطيع لدى كتابتها أن نتجاوز الأخطاء المهنية التي ارتكبها بحجة أن حكمها عند الله؟ صحيح أنه قد غادرنا جسدًا، لكن أفعاله لم تزل حاضرة بثقلها المادي المُتحقق (الجيد أو السيئ) في أجساد مرضاه الذين أحسن علاجهم أو فشل في ذلك، وبالتالي فمن حق الأجيال التالية أن تتعلم تلك الأخطاء حتى تتجنبها، ويتجنبها المجتمع بالتالي، لما تحمله وظيفتهم من أثر على الأخير، فلماذا نفشل إذًا في ملاحظة ذلك بنفس السهولة، في حالة ما إذا كان الشخص الراحل سياسيًا مُهمًا؟

تسهل ملاحظة صحة أحكامنا من عدمها في حالات النشاطات الإنسانية التي تظهر نتائجها بطريقة مُباشرة أكثر، وتتجسد في صورة صحة أو مرض، ربح أو خسارة مالية.. إلخ من النشاطات التي بالإضافة لسهولة التعرف على نتائجها العملية (في صورة أرقام أو حالات مادية ظاهرة)، فإن أثرها يطال عددًا محدودًا نسبيًا من الأشخاص يُمكن رصده بسهولة وبفعالية أكبر وبجهد قليل، مقارنة بنشاطات أخرى، رغم أن نتائجها ما زالت مادية ودنيوية بالأساس، إلا أن أثرها يطال شرائح أكبر من البشر والمصالح الأكثر ارتباطًا بالحاجات المادية لهم، وترتبط بمجالات أخرى للحكم تتدخل فيها معايير أخرى مختلفة؛ عقائدية، وطبقية، وأخلاقية، وحتى جمالية وذوقية أوعاطفية.. إلخ تجعلها أكثر تعقيدًا، وصعوبة على الإدراك المباشر للنتائج في علاقتها بالأسباب الحقيقية لها.

ينتمي النشاط السياسي للفئة الثانية، والمقصود هنا بالنشاط السياسي هو أي نشاط فكري أو كلامي أو سلوكي يُظهر اهتمامًا من أي مستوى بالشأن العام، أو وجهة نظر(صريحة أو ضمنية) تجاه حالة المجتمع ككل أو حتى شريحة صغيرة منه؛ الأسرة، أو الطبقة ..إلخ.


اقرأ أيضًا: رفض الأزهر والتوجيه السياسي.. ما وراء اختفاء الأفلام الدينية

 


من هنا إذن، أي في حالة السياسي، تتداخل مجموعة ضخمة من الأفعال والمصالح الفردية والجماعية التي تصيغ بالنهاية حالة المجتمع، وبدلًا من الفريق الطبي في المثال السابق، والذي تربطه علاقة (إنسانية) مُباشرة بالمريض، وكذلك مصلحة يُمكن تحديد أطرافها بسهولة: الشفاء للمريض، والكسب المالي للفريق، فإن المجال السياسي أضخم من أن يُستوعَب بسهولة في علاقات من هذا النوع حيث الأطراف الفاعلة جلية، والمصالح محسومة ومُحدَدة بهذه الدقة.

إلا أن البشر تحايلوا على هذا التعقيد عبر أشكال التنظيم الاجتماعي المُختلفة، التي تُعبر عن وتَدفع مصالحهم، ولذا تميل السياسة في المجتمعات التي تفتقد القدر الكافي من التنظيم الاجتماعي، وبالتالي القدر اللازم من الفعالية لدى الأفراد للتأثير على العملية السياسية، إذ أن النشاط السياسي الفعّال لا يكون في الغالب سوى في إطار اجتماعي وليس فردي (بغض النظر عن رابطة هذا الاجتماع: الطبقة أو الأمة، أو الدين، أو حب الموضة).

تميل العملية السياسية في المجتمعات سابقة الذكر إلى أن تبدو فعلًا خارقًا وخارجًا تمامًا عن الإرادة البشرية، ومن هنا يبدأ رد هذا الفعل إلى مجالات مُفارقة حيث القدرة المُطلقة التي تستطيع أن تُفسر: لِمَ يتحرك المجتمع وتتغير أحواله بتلك الطريقة دون غيرها من الطرق؟، والتي تملك سلطات المكافأة والعقاب. لماذا إذًا نُحاسب الأشخاص الذين نعتقد بأهميتهم الفاعلة في العملية السياسية ما دمنا لا نمتلك تلك الإرادة (القدرة) على فعل ذلك؟

الأفراد ضمن هذا الإطار السابق مُنعزلون، ويفتقدون أي قدرة للتأثير على حالة المجتمع بالأساس، نظرًا لأن ذلك التأثير يتطلب بالضرورة تنظيمًا لمجموعات منهم؛ في صورة أحزاب أو نقابات أو فئات.. إلخ قادرة على التدخل (بأي صورة) في مسار الأحداث التي يسير المجتمع وفقًا لها، ولذا تبدو لهم السياسة كما كانت تبدو الأمطار لأحد البشر الأوائل، أي كفعل خارق لإله السماء، ويبدو الفاعلون السياسيون المُهمون كمبعوثي هذا الإله أو غيره، هذا المبعوث قد يكون ثوابًا في حال أحدث نشاطه السياسي تأثيرًا جيدًاعلى المجتمع، أو عقابًا في حال كان تأثيره سيئًا، المهم أنه تُنتزع من المواطنين في تلك الحالة، القدرة على الحكم، وتُرَد إلى القوى الخارقة في أي صورة كانت، والتي يصير حكرًا عليها وحدها إصدار الأحكام (المُؤجلة هنا للأبد) بشأن من نعلم دورهم وأهميتهم (الإيجابية أو السلبية) على مسار المجتمع.

في انتظار جودو

ختامًا، طالما أن بعض أفراد هذا المجتمع اختاروا بإرادتهم أن يساهموا بشكل رئيسي في تسييره (عبر السياسة) بطريقة معينة دون أخرى، فإن من حقنا أن ننظر إلى آثار أفعالهم وأن نُقيّمها سواء كانوا أحياءً بيننا أم فارقونا بالفعل، فحصاد أفعالهم قد طال حياتنا بشكل أو بآخر، لأنه طال المجتمع الذي تستحيل حياتنا بمعزل عنه، ومن هنا ليس من حق أحد المطالبة بالامتناع التام عن الحكم على أحد الفاعلين السياسيين حيًا أم ميتًا، فسلطة الحُكم ليست مِلكًا لـ جودو الذي ينتظره المسرح بممثليه ومتفرجيه ويغادرون دون أن يأتي،  ولا هي ملك "التاريخ"، والذي يستعمله البعض بصفته شخصًا سيأتي في ساعة من نهار يوم ما ويوزع المكافآت والجزاءات على أصحابها، من دون أن ينتبهوا إلى أن ذاكرة الحاضر ستصير تاريخ المُستقبل، وأن أفضل الطرق لتكوين تلك الذاكرة هي المكاشفة والمساءلة الموضوعية الدنيوية.


اقرأ أيضًا: عن هاجس الإسلاميين الأخلاقي: الإنسان ليس حبة قمح

 


هذه المساءلة هي حق مدني لمجموعات البشر التي تريد الاجتماع في إطار حضاري ، يختار بعض الأشخاص ضمنه أن ينخرطوا في نشاط سياسي متطلعين إلى ممارسة السلطة، وهم يعلمون تمام العلم بأن تلك السلطة هي ما يصيغ حياة البشر، والذين سيصدرون بالضرورة أحكامًا بشأن نتائج ممارستها، أي بشأن ممثليها، سواء وهم أحياء أو بعد وفاتهم، لأنه عندما يواري التراب جسد الحاكم أو السياسي، فإن آثاره لم تُوارى بعد، فهي فاعلة، مستمرة، تساهم في خلق معاناة لآلاف أو ربما ملايين، ربما نجدها في تخلف اقتصادي أو صحي أو ثقافي، أو في حرب دامية.

هذه الأحكام لا يسقط الحق في إصدارها بالتقادم، وذلك لأن الأفعال والقرارات التي اتخذها هؤلاء تستمر كالكابوس الجاثم على صدر المجتمع عبر العقود وربما القرون.


[1] مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوي، ص 89

[2] Ibid, 90

[3]Ibid, 91

[4]Ibid, 90

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.