مدينة كوبلنتس - صورة من ويكيبيديا برخصة المشاع الإبداعي

تأملات لغوية على ضفاف الراين: لحم عربي وخبز عبري

منشور الاثنين 20 يوليو 2020

 

ظننت في سابق الأيام أن ألمانيا ليست المكان الذي قد أصادف فيه كتابةً عبريةً في الفضاء العام أو على جدران المباني التاريخية. ومردّ ذلك الماضي النازي الثقيل للبلد، والذي وإن لم يدم أكثر من 15 سنةً، إلا أن آثاره لا تزال إلى يومنا هذا ماثلةً للعيان. ولذا فإني أُسَرّ في كل مرةٍ ألقى فيها نقشًا عبريًا أو أحجارًا تذكاريةً تحمل هذه الحروف أو مشهدًا مصوّرًا من العهد القديم على جدران كنيسة عتيقة مرفقة به نصوص توراتية أحاولُ فكّ رموزها واستجلاء معانيها.

ولكني كنت هذه المرة على موعد مع لقاء لغوي عفوي وذلك أثناء زيارتي لمدينة كوبلنتس الواقعة على ضفاف نهر الراين في غرب البلاد. تُبدي تلك المدينة ذات الطابع الرومانسي في معمارها والظاهر خصوصًا على كنائسها التي صمدت في الحرب العالميّة، اعتزازًا بموروثها الروماني الجليّ للعيان.

احتفلت المدينة قبل بضع سنين بالألفية الثانية لتأسيسها على يد الرومان، وهي تعدّ بهذا واحدةً من أقدم المدن الألمانية. وعند مروري بساحة وسط المدينة شدّت انتباهي لوحةٌ معلّقة تشير لذكرى توأمة المدينة مع مدينة پتاح تيكڤا Petah Tikva الواقعة داخل حدود فلسطين التاريخيّة قبل عام 1948. فاقتربتُ لألقي نظرةً متمعّنةً على الكتابة الظاهرة على اللوحة وداخل شعار المدينة التوأم. كانت هذه اللحظة التي بدأت فيها التمعن في اسم المدينة الألمانية. من أين أتى هذا الاسم؛ كوبلنتس؟ فالكتابة غالبًا أقدم وأقدر على توضيح خفايا الكلم وتأريخه وتأثيله (أي البحث عن تاريخ اللفظ وتطوّر معناه ومبناه).  تصادفك إجابة هذا السؤال في شوارع المدينة وعلى لوحات محالها التجارية، متمثلةً في كلمة Confluentes، وهي الأصل اللاتيني للاسم الألماني المعاصر للمدينة Koblenz، وهو لفظ مركب من السابقة con والتي تفيد التشارك والاجتماع، وهي عند حفيدتي اللاتينية؛ أي الإيطالية والإسبانية، حرف جرٍّ بمعنى "مع" أو "عند".

ولذا فإن عديد الألفاظ التي تحيل على معاني الاجتماع والتواصل تحمل هذه السابقة، مثل conference (مؤتمر) أو connect (اتصال) أو communication (اتصالات). والجزء الثاني من الكلمة، أي fluentes، فهو اسم فاعل في صيغة الجمع بمعنى متدفق أو جارٍ. وهذا اللفظٌ من ذات جذر كلمات مثل fluid أو fluent الإنجليزية، والأخيرة تصف شخصًا طليق اللسان متدفّق الكلام. والمقصود بالمتدفقين في اسم المدينة نهر الموزيل، الذي يصبّ في قلبها عند نهر الراين، لينتهي الأول جزءًا من الآخر ملتحمًا به.

 

ملتقى النهرين: يصب نهر الموزيل في نهر الراين وسط مدينة كوبلنتس - تصوير: صهيب زمّال

هنا يأتي الجزء المشوّق من الحكاية، المرتبط بسر قصة اسم مدينة پتاح تيكڤا وشعارها. فلاسم المدينة وقعٌ غريب، وكأنّه اسم أحد الفراعنة المصريين الأسطوريين. وهنا يجدر بالباحث اللغوي المهتمّ بأصول الكلمات النظر لرسم الاسم ولحروفه الأصليّة، عوض الانخداع باللفظ الصوتي وبنقحرة الاسم (أي نقل كتابة حروفه واحدًا واحدًا من أبحدية لأخرى). إذ يُكتب اسم المدينة عند نقحرته من الحرف العبـري פֶּתַח תִּקְוָה إلى العربي هكذا: فَتَح تِقْوَه. وهنا تطفو عديد الأسئلة دفعةً واحدة؛ فكيف تحول حرف الپاء بالعبرية إلى فاء بالعربية؟ ولماذا تُنطق الواو فاءً مثلّثة (ڤ)؟ وأين القاف من كلّ هذا؟

 

لوحة تؤرخ للتوأمة بين كوبلنتس وپتاح تيكڤاه - تصوير: صهيب زمّال

بالإمكان الإجابة عن السؤالين باختصار وذكر قوانين التغير الصوتي كسببٍ لذلك. ولكن كما يقول المثل الألماني، فإن الشيطان يكمن في التفاصيل. فسبب نطق الفاء العبريّة في اسم المدينة باءً مثلثة ظاهرة لا تعرفها حروف العربية، على عكس العبريّة والآراميّة، تسمّى قاعدة حروف "بجد كفت". وهي حروف ستة تنطق على وجهين، تارةً نطقًا خشنًا، وتارةً أخرى نطقًا ليّنًا، وذلك حسب موقعها من الكلمة.

ويُراعى في العبرية اليوم ثلاثٌ منها فحسب، وهي الفاء פ والكاف כ والباء ב. فحرف الفاء في العبرية هو في الأصل پ، يُنطق فاءً إن سبقه صائت (vowel) أو حركة، ولكن ما عدا ذلك، أي في أول الكلمة أو بداية مقطعٍ لفظي (syllable) أو حين تقع عليه الشدة، ينطق پاءً أعجميّة. فالعيد اليهوديّ المعروف باسم يوم كيبُّور يكتب بالحرف العبري هكذا: يوم كيفّور. لكن الشدة فوق الفاء جعلت من نطقها پاءً.

والمقصود بالـ"كيفّور" هنا التكفير عن الذنوب، من جذر "ك ف ر"، ولذا فهو بالعربية عيد الغفران. وتجدر الإشارة هنا إلى وجود آثارٍ حسيّة تشي بأن العربيّة عَرَفت حرف الپاء الأعجمي في فترة مبكرةٍ من تاريخها قبل الإسلام، مثلها مثل بقية أخواتها في مجموعة اللغات السامية، ولكنها تخلّت عنه هي وقريناتها من لغات جنوب الجزيرة العربية في مرحلةٍ لاحقة. ولكن لهذه حكاية أخرى.

وتنصّ هذه القاعدة، بنفس الطريقة، أن تلفظ الكاف خاءً والباء ڤاءً إن سُبق الحرفان بصائت. ولذا فإن اسم مدينة تل أبيب يلفظ باللغة العبريّة وكذا باللغات الأجنبيّة "تل أڤيڤ"، لأن حرف الباء مسبوق بحرف علة، ولكن الاسم يكتب "تل أبيب"، بالباء، سواءً بالعربيّة أو العبريّة، إذ تظل الكتابة هي الأصل والمنطلق.

وبهذا فإن الكلمة الأولى من اسم المدينة هي "فتح". فماذا تعني؟ إنّها تعني: فتح! أو بالمعنى المرسل: باب أو بوابة. وماذا عن الكلمة الثانية؟ تعني كلمة "تِقْوَه" الأمل، وهي تلف تيكڤا، وذلك لأن القاف العبرية عمومًا ما تنطق كافًا، ولا أحد سوى اليهود العرب، وخاصة العراقيين منهم (المزراحيم) ينطقه قافًا، وذلك حصرًا في صلواتهم وعند تلاواتهم التوراتيّة. فمشروب الكوكا كولا مثلًا يكتب بالعبرية קוקה קולה (قوقَه قولَه).

ولم يسلم حرف الواو في العبرية من التغيير والتحريف هو الآخر، فصار واوًا أعجمية، ڤ v. وهي ظاهرة شهدتها عديد اللغات الأخرى مثل الفارسية (في نسختها الإيرانية على الأقل) والتركيّة، واللتان لا تعرفان لحرف الواو سبيلًا، حيث تنطق الواو دائمًا ڤاءً. ولقد رأيت عند مروري بمدخل محطة قطار المدينة منشورات تحذر من فيروس كورونا بلغات عدة من بينها الفارسية التي رسمت بها كلمة فيروس هكذا: ويروس.

وينطبق الأمر كذلك على حرفي الطاء والصاد في العبرية الحديثة، فالأول ينطق تاءً والثاني ينطق "تس". والقائمة تطول، فهي تشمل حرف الحاء الذي أعجز المستوطنين اليهود القادمين من أوروبا فنطقوه خاءً، وكذا حرف العين الذي، إن نطقوه، أصبح همزةً، وأيضًا حرف الراء الذي أصبح بقدرة قادر مثل الراء الباريسية أو الألمانية؛ غينًا. وهذا هو واقع صوت العبرية الحديثة التي فقدت جل جوهرها السامي الشرقي في النطق، إذ أضحت لغةً فقيرةً في أصواتها، أعجمية أوروبية في منطوقها، يا للأسف.

وجذر كلمة تِقوه/ تيكڤا الثلاثي هو "ق و ه"، واللفظ نفسه مشتق من الفعل المضعّف "قِوّه" على وزن "فِعِّل" العبري والذي يقابله وزن فَعَّل بالعربية، ومعنى "تِيقوه" هو الأمل والرجاء. ورغم تشابه الجذر العبري مع جذري "وقى" و"قوي" العربيين، إلا أن الرابط بينهما في المعنى قد زال مع الزمن، وبَعُد المعنى كثيرًا حتى لم يعد ممكنًا خلق دلالات بينهما. ومن كلمة تِقوه/ تيكڤا جاء اسم النشيد الوطني الإسرائيلي الشهير بــ"هتِّيكڤه"، أي الأمل (أداة التعريف في العبرية هي حرف الهاء بأول الكلمة مع تشديد الحرف الذي يليها بالشدّة، إن لم يكن حرفًا حلقيًا). ولو كانت الغلبة عند إحياء اللغة العبرية وتنفيذ المشروع الصهيوني لليهود العرب والشرقيين، لربما كان اسم النشيد اليوم يلفظ اليوم: هتّيقْوَه أو هتيّقڤه في أسوأ الحالات.

وبهذا فإن اسم المدينة يعني فتح الأمل أو بوابة الرجاء، وهو اسم مشتق من التوراة، ففي إحدى الرؤى بسفر النبي هوشع، يصف هذا النبي وادي عخور القريب من القدس قائلًا "وَأُعْطِيهَا كُرُومَهَا مِنْ هُنَاكَ، وَوَادِي عَخُورَ بَابًا لِلرَّجَاءِ". وهو ما شجّع المستعمرين اليهود الأوائل زمن الدولة العثمانيّة على اختيار هذا الاسم بالتحديد على مشروع مستوطنة صهيونية كانت ستقام قرب نفس المكان الموصوف في تلك الآية، وذلك تحقيقًا لتلك النبوءة، ولكن طلبهم قوبل بالرفض حينها من قبل السلطات، فأُطلقت تسمية "فتح الأمل" على مستوطنة أصبحت اليوم جزءًا من أجزاء تل أبيب، وتوأمًا لمدينة ملتقى النهرين الألمانيّة.

ونرى في أعلى شعار المدينة البادي في الصورة أدناه مكتوبًا עיריית פתח תקווה "عِيريَّت فتَح تِقوَه". والكلمة الأولى، عِيريّة، مكونة من كلمة "عير" العبرية وتعني مدينة. ولأن العبرية لم يكن بها مرادف لكلمة بلدية، وأنَّى لها ذلك وقد كانت لأكثر من ألفي سنة لغة مخطوطات مقدسة وصلوات وأشعار وكتابات دينية فحسب، حتى قام أليعازر بن يهودا، الملقب بأبي العبرية الحديثة ومحييها، بنحت كلمة محدثة على الوزن العربي لكلمة بلدية، وذلك أواخر القرن التاسع عشر، فجاءت كلمة "عيرية". وقد كتبت التاء مفتوحة في "عِيريَّت فتَح تِقوَه"، لأن الكلمة الأولى مضافة لما يليها، ولذا تتحول الهاء (أو كما نكتبها في العربية تاء مربوطة: ة) إلى تاء تأنيث مكتملة، تمامًا مثل الإضافة في العربية، فالتاء في "بلدية القدس" مثلًا تنطق دائمًا.

 

العبارة أسفل شعار مدينة "فتح الأمل" هي ما شدّ انتباهي وشحذ حواسي، وفيها نقرأ עוֹבֵד אַדְמָתוֹ יִשְׂבַּע לָחַם "عُوبِد أَدَمِتُو يِسْبَع لَحَم". ولكنّي، وللوهلة الأولى، لم أفهم المقصود من تلك العبارة، ولكن بعد ثوانٍ قليلة من التمعن في صورة الحقل والمحراث والشجرة المرسومة داخل شعار المدينة، انتابتني حالة من الإلهام اللغوي.

عُوبِد עוֹבֵד: بواو مدورة مثل حرف الـ O اللاتيني وكسرة مائلة طويلة مثل الـ E ذات نبرة، على وزن "فُوعِل" العبري ويقابله بالعربية وزن "فاعِل"، وهو يدل في العربية كما في العبرية على اسم الفاعل. وجذر الفعل "ع ب د" يعني عمِل، خَدم، اشتغل، وتعني الكلمة العامل أو الخادم.

أَدَمْتو אַדְמָתוֹ: الكلمة مكونة من جزئين، "أَدَمَه" وحرف الواو. وتعني "أدمَه" التراب، وفي العربية نقول عن وجه الأرض أديمها. وسمى الله آدم بهذا الاسم لأنّه خلقه من تراب أديم الأرض. وحرف الواو (واو مدوّرة؛ O) في "أدمتو" هو الضمير المتصل للغائب المذكر، ويقابله في العربية "ـه". وإن في كثيرٍ من لهجات العربية العامية أثر لهذا الضمير، فنسمعهم يستعملون الواو عوض الهاء لضمير الغائب، فيقولون "كلامو" و"أعطيتو" عوض "كلامه" و"أعطيته". وبهذا فإن "أدمتو" هي "أرضه". وكما في كلمة "عيريّت"، تحوّلت الهاء (أو فلنسمها التاء المربوطة) في "أدمه" عند ربطها بضمير الغائب إلى تاء تأنيث، مثلما هي الحال في العربية تمامًا. إذ نقول "سيارة" بالتاء المربوطة التي تنطق هاءً في حال الوقف، ولكن عند ربطها بضميرٍ متصل تصير "سيارتي" بالتاء.

وبذا فإنّ "عوبد أدمتو" هو خادم أرضه، فهو من يحرثها ويزرعها ويسقيها. وقد قالت العرب "العمل عبادة"، وقالت اليهود عن العبادة عملًا، أي "عَبُوده" עבודה بالعبرية.

يِسْبَع יִשְׂבַּע: فعل مضارع على وزن "فَعَل" وجذره "س ب ع"، ومعناه: شَبِع. فالشين في العبرية غالبًا ما تقابلها السين في العربية، والعكس بالعكس. فرقم خمسة بالعبرية هو "حَمسه" ورقم تسعة هو "تِشعَه". ويختص المضارع في العبرية بالإفادة عن زمن المستقبل، فلا وجود لسين الاستقبال فيها.

لَحَم לָחַם: تعني كلمة "لحم" العبرية خبزًا. وهو ما نراه عند عديد اللغات السامية مثل الفينيقية والآرامية. قد يتساءل أحدهم عما إذا يُقصد بمدينة بيت لحم الفلسطينية بيت الخبز، وهو بالفعل أحد التفسيرات اللغوية المطروحة لاسم المدينة، وإن كان تفسيرًا بسيطًا للغاية يكاد يوصف بالسطحيّة. والتفسير الآخر لبيت لحم يحيلنا على إله الحرب البابلي لخمو وأخته لخامو. فجذر "ل ح م" يشير في العبرية لرص الصفوف والاقتتال، كما في كلمة "مِلْحَمة" العبرية، التي ترادف كلمة "مَلْحَمة" العربيّة، وتعني الحرب وموضع القتال. فعند الملحمة ينزِف لحم المتحاربين الملتحمين. ولكن إذا كان العبرانيون يسمون الخبز "لحمًا"، فما هو اسم اللحم عندهم؟ اسمه "بَسَر"، ويقابلها في العربية: بَشَر.

فالترجمة الحرفية للعبارة هي: عابد (خادم) أرضيه يشبع خبزًا. وهي مأخوذةٌ من سفر الأمثال من العهد القديم، واسمه بالعبرية "مِشلِي شْلُومُو"، أي أمثال سليمان. فكلمة مَثَل العربيّة يقابلها "مشل" بالعبرية، وهنا بإمكاننا اشتقاق قانون للتطابق الصوتي بين اللغتين. فحرف الثاء في العربية يقابله حرف الشين في العبرية. فرقم ثلاثة باللسان العبري "شْلوشه" والثوم "شوم". وفي الترجمة العربيّة للكتاب المقدّس في الإصحاح 12 من سفر الأمثال نقرأ: "مَنْ فَلَح أرضَهُ شَبِعَ خبزًا"، ومن بذل جهده أكل لحمًا.