من كتاب وديع الصافي لفكتور سحّاب
وديع في الأستوديو

وديع الصافي: صوت الجبل في مئويته

منشور الثلاثاء 23 نوفمبر 2021

ليس وديع الصافي (نوفمبر 1921– أكتوبر 2013) في حاجة إلى التعريف به. يكفيه ما قاله عنه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، في حوار صحفي قديم للـنهار الدولي، إنه "مطرب المطربين".

لعب الصافي دورًا بالغ الأهمية في ترسيخ هوية الأغنية اللبنانية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين عبر أعماله الفنية، وبات صوته مرادفًا للطبيعة اللبنانية بكل ما فيها من حقول وجبال وأنهار وأشجار. قطع بصوته رحلة فنية مديدة جاوزت الخمسة وسبعين عامًا؛ أنشد خلالها أغنياته وشارك فيها آخرين على رأسهن: فيروز وصباح. ونحن لسنا، هنا، بصدد التأكيد على أهميته وتفرده وموهبته الكبيرة، إنما هي مجرد محاولة متواضعة للوقوف عند أبرز المشارب والمحطات التي أسهمت في تكوينه وبزوغ نجمه حتى تربعه على عرش الطرب، خصوصًا أن هذا العام يوافق الذكرى المئوية لولادته.

من لبنان وإليها

ولد وديع بشارة يوسف جبرائيل فرنسيس في ضيعة نيحا الشوف عام 1921؛ أي بعد ولادة لبنان الكبير بعام، فيما يشير نجله الفنان جورج وديع الصافي إلى أن والده ولد في اليوم الأول من شهر نوفمبر عام 1921، لكن  المؤرخ الموسيقي د. يوسف طنّوس يسجل أنه ولد في اليوم الحادي والعشرين، ومهما يكن التاريخ الفعلي لولادته فإن الشهر الحالي يصادف مئوية ولادته.

تأثر  وديع بألوان الفلكلور اللبناني والمشرقي، قبل أن تتفتح أذناه على ألوان الموسيقى الكنسية المشرقية التي تتماس في نواحيها مع الإنشاد الديني الإسلامي، ومنذ صباه، كانت أغنيات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب معينًا لا ينضب لذائقته الفنية إلى جانب صوت أسمهان.[1]

وديع عام 1954- من كتاب وديع الصافي لفكتور سحّاب

جاءت انطلاقته الفنية الأولى عام 1938 عقب فوزه بالمرتبة الأولى في الغناء والعزف والتلحين ضمن المباراة التي نظمّتها الإذاعة اللبنانية خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، وكانت اللجنة مكوّنة من: ميشال خيّاط، سليم الحلو، ألبير أديب ومحيي الدين سلام، واتفقوا جمعيًا على لقب الصافي كاسم فني له. أما الأغنية التي فاز بها فكانت يا مُرسِل النغم الحنون، من كلمات الشاعر الأب نعمة الله حبيقة[2]. وفي مطلع شبابه وتحت صورة له كتبت عنه مجلة الإذاعة "المطرب الناشئ السيد وديع فرنسيس الذي سيذيع لأول مرة – من محطة راديو الشرق – وهو موسيقي وملحن وصاحب صوت عذب جميل استمعوا إليه في الساعة السادسة والنصف من مساء يوم الأربعاء 15 أذار (مارس) سنة 1939". وكان مطلع الأغنية "رتلّي لحن هواك لشفائي وشفاك/ في ضلوعي وحشاك/ رددي روح غناك"[3]. كما لعب الشاعر الزجلّي أسعد السبيعلي دورًا بارزًا في تكوينه الفني، فكانت انطلاقتهما معًا من خلال أغنية طل الصباح وتكتك الصعفور عام 1940.

كانت تجمعه صداقة قوية بالمطربة نور الهدى ووالدها نقولا بدران، فطلب من والدها أن يساعده في السفر إلى مصر، وبالفعل حضر الصافي إلى القاهرة في منتصف الأربعينيات، بعد أن طلب والدها من الفنان يوسف وهبي أن يلحقه مطربًا في واحد من أفلامه، وفي فيلم الخمسة جنيه من إنتاج بهيجة حافظ قام بدور ثانوي كمطرب يؤدي إحدى الأغنيات، ولكنه في النهاية أخذ بنصيحة الفنان نجيب الريحاني الذي طلب منه العودة إلى وطنه لبنان بعد أن قضى في القاهرة سنة وشهرًا، وذهب بعدها في رحلة مطوّلة إلى البرازيل للغناء للمغتربين من اللبنانيين في الفترة 1947 – 1950.[4]

عام 1950 عاد الصافي إلى لبنان ونصحّه الموسيقار حليم الرومي بأن يولي اهتمامه بلون الزجل اللبناني. فأغنيته الشهيرة حينها ع اللومة نجحت نجاحًا مدويًّا ولفتت الأنظار إليه عام 1951. أما نقطة التحوّل المفصليّة في مسيرته الفنية فكانت مشاركته في المهرجانات الفنية. فشكّل مع صباح ثنائيًّا رائعًا في موسم العز عام 1960 ضمن مهرجان بعلبك الدولي إلى جانب الأعمال المتميزة الأخرى مثل: مهرجان الأنوار ونهر الوفا، كما شارك فيروز الغناء في السهرة التلفزيونية الرائعة قصيدة حب عام 1973. ومع بداية الحرب الأهلية في لبنان غادر الصافي إلى مصر عام 1976، ومن ثم إلى بريطانيا قبل أن يستقر به المطاف في باريس عام 1978. وفي عام 1989 أُقيمت له حفلة تكريمية في معهد العالم العربي بباريس بمناسبة اليوبيل الذهبي لانطلاقته الفنية.[5]

صندوق من الرقة

يقول الناقد الموسيقي إلياس سحّاب[6] "تمتع وديع الصافي بما حباه الله به من مواصفات استثنائية في تكوين حنجرته الصوتية. تبدأ هذه المزايا بسعة هائلة في المساحات الصوتية، من الأشد انخفاضًا إلى الأشد ارتفاعًا. مع معدن صوتي ثبت أنه الأجمل في الغناء العربي قاطبة في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن قيمة هذه المساحات الصوتية الشاسعة، ارتفاعًا وانخفاضًا، كانت تصل إلى ذروة فنية عالية، عندما توضع على محك أسلوب وديع الصافي المذهل في الأداء. فالمعلوم أن الصوت البشري، يزداد حدة، كلمات ارتفعت طبقاته إلى أعلى، إلا صوت الصافي الذي يزداد رقة وحنانًا وعذوبة، كلما ارتفعت إلى الطبقات الغنائية العليا. يُضاف إلى ذلك إحساس كامل بكل مكنونات الموسيقى العربية ومقاماتها، بحساسية مرهفة قل نظيرها، حتى أن جماهيرية وديع كمطرب متميز قد تجاوزت حدود المستمعين العاديين، فأصبح المطرب المفضل لدى كبار المطربين مثل عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وكبار الملحنين. وأصبح صوت الصافي مقصدًا لهؤلاء، فلحن له رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي ورياض البندك وفريد الأطرش. وهناك قصص تروى عن حالة الذهول الطربي التي كانت تسيطر على كبار أهل الفن، وهم يستمعون إلى غناء وديع الصافي في جلساتهم الخاصة".

 

وديع مع الكمان- من كتاب وديع الصافي لفكتور سحّاب

كان الصافي يرى أن حنجرته هي رأس ماله والكنز الحقيقي الذي وهبه الله إياه، وعندما سأله الباحث والكاتب الصحفي محمد دياب[7] عن الكيفية التي يحافظ بها عليها، أجاب قائلًا "أمتنع عن تناول الحوامض اللاذعة وأتجنب الانفعال الزائد على الحدّ وأبتعد عن الأخبار المزعجة، وأصلي دائمًا وعادة ما أبتهل قبل الغناء بنصف ساعة. كما أحرص على النوم جيدًا ولا أشرب أو أدخن الآن، مع الأسف كنت أدخن الماضي، لكني توقفت عن التدخين منذ أكثر من عشرين عامًا وأعتقد أنها كانت أكبر جريمة ارتكبتها في حق نفسي، ولو لم أدخن من قبل لكان صوتي أكبر من ذلك بكثير، قبل فترة دعتني الحكومة الإيطالية لإحياء حفلتين في روما وأحضروا لي أسطوانات سجلتها قبل عشر سنوات وأسمعوها لمغني الأوبرا الشهير لوتشيانو بافاروتي فدهش وقال لهم الصوت ده ماقدرش عليه أبدًا فقالوا له لكن صوتك عظيم، قال: هذا المطرب يختزن في صدره صندوقًا صوتيًّا لا يملكه أحد، لذلك أقول للمطربين الناشئين صوت المطرب هو كنزه الذي يجب أن يحافظ عليه جيدًا.

 

موسم العز 1960- أرشيف الإنترنت

خلال مسيرته الفنية، أطلق عليه النقّاد والصحافيون كوكبة من الألقاب من بينها "صوت الجبل" و"قديس الطرب". ونال أكثر من وسام استحقاق من بينها خمسة من لبنان، ومنحه الرئيس اللبناني الراحل إميل لحّود وسام الأرز برتبة فارس كما منحته جامعة الروح القدس في الكسليك الدكتوراه الفخرية في الموسيقى في 30/6/1991.

حمل الصافي ثلاث جنسيات: المصرية والبرازيلية والفرنسية إلى جانب جنسيته الأم: اللبنانية، التي كان يعتز بها أيما اعتزاز. وتنوّعت أعماله الفنية ما بين العامية والفصحى. ومن بين أجملها عَ الساحة إتلاقينا وراح حلّفك بالغصن يا عفصور وعندك بحرية يا ريّس وقتلوني عيونا السود ودار يا دار وعلى رمش عيونها ولبنان يا قطعة سما والليل يا ليلى وعادت تسائلني، إلى جانب رائعته ولوّ. وإذا كان الصافي رحل عن عالمنا فإن أغنياته وأعمال الفنية المتميزة ستبقى بمثابة حصن شامخ يقصده كل محبي الطرب وعشاقه.

 


[1] إلياس سحّاب: وديع الصافي كبير المطربين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، العربي، العدد 670، سبتمبر 2014، ص 89.

[2] يوسف طنّوس: وديع الصافي؛ أعمال المؤتمر الدولي لعام 2014، كلية الموسيقى، دراسات 15، منشورات جامعة الروح القدس – الكسليك، 2016، ص 14.

[3] فايق الخوري: الإذاعة اللبنانية أثرها في التطور الاجتماعي والفني والأدبي والتوجيه العام، مطبعة صادر – الناصرة، 1966، ص ص 230 – 231.

[4] فكتور سحّاب: وديع الصافي، دار كلمات للنشر، 1996، ص ص 53 – 59.

[5] طنّوس، المرجع السابق، ص 16.

[6] سحّاب، المصدر السابق، ص 90.

[7] محمد دياب: وديع الصافي: لحنت مزامير النبي داود، المصور، 14 أبريل 2000.