تشيزاري بافيزي. تصميم: يوسف أيمن- المنصة

تشيزاري بافيزي: أن تحيا والموت داخلك

منشور الثلاثاء 4 يناير 2022

في مساء 27 أغسطس/ آب 1950، في مدينة تورينو الإيطالية بجوار محطة بورتا نوفا، طرق موظف بفندق روما باب غرفة 346 بالدور الثاني، التي لم يخرج منها صاحبها منذ الليلة الماضية. بعدما طال انتظاره، زاد توتره فاضطر لفتح الباب بالقوة، ليجد نزيلهم ممددًا في سريره دون حراك، ورأسه على الوسادة ومرتديًا ملابسه، وبجانبه ستة عشر علبة فارغة من حبوب Veronal المنومة، وعلى المنضدة بجانب السرير كتابه المفضل حوارات مع ليوكو، وقد كتب على صفحته الأولى "أنا أسامح الجميع، وأطلب المغفرة للجميع. حسنًا؟ لا داعي للكثير من الثرثرة".

لم يكن موظف الفندق يعلم وقتها أنه شَهِدَ "الرذيلة السخيفة" لأحد أبرز الشعراء والكُتَّاب الإيطاليين المعاصرين،  تشيزاري بافيزي، الذي كانت رذيلته التي طاردته طوال حياته هي رغبته في الانتحار. راودته الفكرة كثيرًا وحاول تنفيذها صغيرًا؛ إذ قرر مدفوعًا باليأس، تَسلُّق أحد التلال ومحاولة الانتحار، بعد ثلاثة أيامٍ من انتحار "إيليكو بارالدي" زميله في مدرسته الثانوية، لكن إرادة الحياة كانت لا تزال قوية بداخله فاستسلم لها وأطلق رصاص مسدسه على شجرة. منذ تلك اللحظة، لم يفارقه شبح الانتحار أبدًا.

لم ينل بافيزي شهرةً عالميةً في حياته، ولكنه كان ذائع الصيت في إيطاليا، إذ كان رائدًا للرمزية الجديدة في الأدب الإيطالي. وانعكست عزلته وتفاصيل حياته على أسلوب كتابته وموضوعاته. كما تنوع إنتاجه الأدبي بين الشعر والرواية والقصة إلى جانب الدراسات النقدية والترجمات.

فتح بافيزي جسرًا بين الأدب الإيطالي من جهة والأمريكي والإنجليزي من جهةٍ أخرى. وبفضل ترجماته وكتاباته النقدية، تعرَّف معظم الإيطاليين للمرة الأولى على هيرمان ميلفيل، وجيمس جويس، وويليام فولكنر، وتشارلز ديكنز، وجون شتاينبك، ودانيال ديفو، وغيرهم. وكانت أطروحة تخرجه من جامعة "تورين" حول تفسير شعر الأمريكي والت وايتمان. وبعد وفاته، تُرجمت نصوصه إلى العديد من اللغات، وتناولتها العديد من الدراسات النقدية، ونُقلت بعض رواياته إلى المسرح والسينما، وانجذب النقاد إلى تتبع سيرته.

قبل حادثة الفندق بتسعةِ أيامٍ، وجَّه تشيزاري بافيزي إلى روحه رصاصة تحمل أنينًا صارخًا، أطلقها في يومياته مهنة العيش بجملته الختامية "كل هذا بائس. لا كلمات. لا إشارة. لن أكتب بعد الآن". وفي تلك الأيام الأخيرة، كان يتنقل وحيدًا في شوارع روما، إذ كان يُفضّل مغادرة منزله في شارع لامارمورا والتسكع في الشوارع، أو زيارة شقيقته وبناتها، أو النوم في أحد الفنادق. وفي أحد الأمسيات، زار رؤساء تحرير بعض الصحف وجلس معهم ومع صحفيين آخرين في نادٍ في وسط المدينة، دون أن يترك نواياه الانتحارية تتسرب إليهم.

 

 الغرفة رقم 346 بفندق روما (غرفة بافيزي). corrado.nuccini- برخصة المشاع الإبداعي 

ظلال الأم

يبدو أن مقولة "فَتِّش عن المرأة"، التي وردت في رواية موهيكان باريس (1854) للروائي الفرنسي الشهير ألكسندر دوما، تنطبق على حياة بافيزي، إذ كان يشعر طوال حياته باستحالة أن يكون محبوبًا من أي امرأة. كانت المرأة هي مفتاح حكايته وسبب مأساته.  

رغم ولادة بافيزي (9 سبتمبر/ أيلول 1908) في عائلةٍ برجوازية، فإن تفاصيل طفولته كانت المُحرِّك الأول لأفكاره الانتحارية واكتئابه شبه المُزمن. سبقه في الميلاد بستة أعوام أخته ماريا، ولكن قبل ولادته، تُوفي ثلاثة أبناء للأسرة (طفلان ماتا بعد الولادة مباشرة، وطفلة أخرى بسبب الدفتيريا)، ومات والده أوجينيو بافيزي، الذي كان يعمل مستشارًا في قصر دي جوستيزيا في مدينة تورينو، بسبب ورم في المخ، عندما كان تشيزاري في الخامسة من عمره.

تسببت كل تلك الأحزان في ضعف صحة الأم فيورنتينا كونسولينا مستوريني، واتصافها بالحِدة والقسوة والتسلط. ربما لم تُحبذ الارتباط الحنون مع طفليها، بعد خسارتها لثلاثة أبناء وزوج، وفضَّلت التحرر مِن حُب مَن حولها حتى لا تنكسر بشدةٍ عند خسارتهم. وكانت نتيجة عدم قدرتها على رعاية ابنها، أن تركته منذ ولادته لممرضة من مدينة مونتيكو لتتولى رعايته، ثم أعادته معها إلى تورينو وتولته ممرضة أخرى هي فيتوريا سكاليوني. واضطرت الأم، فيما بعد، أن تربي طفليها (ماريا وتشيزاري) بمفردها، تربيةً صارمة، ما ساهم، إلى جانب مآسي الأسرة، في إبراز شخصية بافيزي المضطربة والانطوائية، وشعوره بأنه غير محبوب.  

ولم ينس بافيزي مشهدًا لأمه وهو في الخامسة من عمره أحدث له اضطرابًا كبيرًا. كان والده يحتضر، وتوسل إليها لتسمح له أن يرى للمرةِ الأخيرة، جارةً لهم كانت عشيقته في يومٍ من الأيام، فرفضت الزوجة. لم يفهم الطفل بافيزي وقتها معنى عشق والده لامرأةٍ أخرى غير والدته، بل ما ترسخ بداخله من ظاهر هذا المشهد هو تعنُّت وقسوة أمه في رفضها لتوسلات شخصٍ يحتضر وعدم تنفيذ رغبته الأخيرة، وسينسِب هذه الصفة إلى الجنس الأنثوي بوجهٍ عام.

ترى الباحثة مارتا ريفيرا دي لا كروز في مقالها المرأة في سردية بافيزي، أن أحداث الطفولة هذه رسبّت داخله أعراضًا مثل "الانفصال عن الواقع، وضعف القدرة على تحمل الصراعات، وغياب صورة رجولية كمرجعية، أدى إلى صعوبات شديدة للارتباط بما هو واقعي وبالعالم الرجولي". ويبدو أن هذه الشروخ النفسية انطبعت على علاقاته مع الجنس الآخر.

 

والدة بافيزي، فيورنتينا كونسولينا مستوريني. برخصة المشاع الإبداعي- ويكيبيديا

تعددت الأسماء والموت واحد

قبل وفاته بفترةٍ وجيزة، كتب إلى روميلدا بولاتي (أخت الناشر جوليو) البالغة من العمر ثماني عشرة سنة وقتها، التي أطلق عليها اسم بيرينا:

عزيزتي بيرينا، مهما كانت حياتك جافة وشبه ساخرة، لكنك لست في نهاية الشمعة مثلي. أنت شابة، شابة بشكل لا يصدق، أنت ما كنت أنا عليه في الثامنة والعشرين عندما كنت مصممًا على الانتحار بسبب خيبة أمل، لم أفعل. كنت أشعر بالفضول بشأن الغد، فضولي بشأن نفسي. بدت الحياة مروعة بالنسبة لي ولكن ما زلت أجد نفسي مثيرًا للاهتمام. (...) هل يمكنني أن أخبرك، يا حبي، أنني لم أستيقظ أبدًا وامرأةً بجانبي، وأن من أحببته لم يأخذني على محمل الجد أبدًا؟ ...

هذا هو حزنه الذي لا يُطاق، إذ كان من أهم أسباب تعاسة بافيزي، طوال حياته، هو استحالة أن يكون محبوبًا. هواجسه هي: استحالة الحب، وعدم القدرة على العيش بطريقةٍ بسيطةٍ ومباشرة، ما جعل كل تفاصيل حياته خاضعة للتفكير، وكلما زاد تفكيره في أوجه القصور في وعيه، والأشياء التي تؤرقه بشكلٍ مزمن، يكتب عنها، فتتحول إلى نقاط ضعف مَرضيّة ولا يمكنه التغلب عليها.

أثناء دراسته في المدرسة الثانوية، أصيب بمرض التهاب الجنبة بعد أن ظل لأكثر من ست ساعاتٍ واقفًا تحت المطر في انتظار فتاة استعراضات (كارولينا مينيوني)، كان وقع في حبها، وكتب لها عددًا لا يُحصى من الرسائل، التي لن تقرأها أبدًا إلا عقب نشرها بعد انتحاره، لأنها كانت طلبت من أمها إميليا، ألا تمرر لها سوى رسائل الرجال الأثرياء المهمين، التي يمكنها الاستفادة منهم في حياتها المهنية.  

بعد ظُهر يوم الأحد 15 مايو/ أيار 1935، وصل بافيزي البالغ من العمر 26 سنة إلى قرية برانكاليون في أقليم كالابريا، ليقضي عقوبة الحبس لمدة ثلاث سنوات. اتُهم بمناهضة الفاشية، إثر حملة اعتقالات شملته ومجموعة مثقفين منتمين إلى حركة العدل والحرية المناهضة للفاشية، وذلك حينما عثروا على رسالة بين أوراقه من قِبَل ألتييرو سبينيلي (المسجون لأسباب سياسية وقتها)، لكن بافيزي كان بريئًا، لأن الرسالة كانت موجهة إلى تينا بيزاردو، "المرأة ذات الصوت الأجش" (كما أسماها في يومياته)، التي كان يحبها بافيزي. وكانت تينا إحدى عضوات الحزب الشيوعي الإيطالي السري، واستخدمت عنوان بافيزي مكانًا للمراسلات بينها وبين سبينيلي. فتح لها بافيزي بيته لأنه كان أسكنها في قلبه.

بعد عودته من منفاه في برانكليون، علم أن تينا تزوجت من رجلٍ آخر (هينك). كان هذا أكثر مما يستطيع بافيزي هضمه وتحمله، فدخل في حالةٍ حادةٍ من العزلة التي لا يمكن علاجها، مكث لعدة أيامٍ بغرفته في منزل أخته، رفض الأكل، ولم يقرأ، وفكر في الانتحار. كتب لها "أنا أحبك يا عزيزتي، وأكرهك. بالنسبة لي أنتِ حرفيًا الهواء الذي أتنفسه، إذا اشتقتُ إليكِ، ألعنك كأني غارق. يؤلمني جسديًا أن أكون بعيدًا عنك؛ أنتِ لست امرأة بالنسبة لي، أنتِ الوجود نفسه؛ حيث تتواجدين يكون بيتي، وكل شيءٍ آخر لا شيء".

 

تينا بيزاردو. برخصة المشاع الإبداعي- ويكيبيديا

فيما بعد، دافعت بيزاردو عن نفسها في مذكراتٍ مضادة، نُشرت بعد وفاتها، بعنوان دون تفكير مرتين (1996)، بأن الشرطة اعتقلت في ذات اليوم قائمةً طويلة من أتباع حركة "العدل والحرية" والمتعاطفين معها، وضربت بشكلٍ أعمى بين أصدقائهم، وبالتالي كل من كان يتردد على منزل تينا، ومن ضمنهم بافيزي، الذي وجدت الشرطة بعض قصائده المكتوبة بخط اليد على طاولة بيتها. وتؤكد أنها استخدمت عنوان بافيزي للمراسلة ثلاث مرات فقط على الأكثر، وتضمن محتوى الرسائل مواعيد تدريب السباحة الخاص بها، والترتيب لرحلات التزلج.

تقول "توقع قاضي التحقيق ظهور امرأةً قاتلة أمامه، تُوقِع الرجال في شَرَكها"، إذ قال أصدقاؤها المعتقلون (بافيزي، ومافي، وهينك)، كلٌ على حدةٍ، إنه كان يتردد على منزلها لأنه كان يحبها. وترى أن بافيزي أخذ القصة بأكملها إلى مسارٍ دراميٍ، وأنه "لم يكن الأمر يستحق الحديث عنه إذا لم يكن بافيزي كاتبًا مشهورًا، وإذا لم يكتب كل هذا الهراء الخيالي عن حبسه". وأنه كان بالفعل يعرف مشاعرها تجاهه، إذا قال لها "أنتِ ترفضينني لأنني غير قادرٍ على الالتزام سياسيًا"، وأيضًا "ربما تحبين الشاعر الذي بداخلي، لكنكِ لا تحبين الرجل".

وبعباراتٍ قاسيةٍ، تُرجِع أسباب بافيزي إلى أنه "شعر بأذى سياسي وهو أمر كان يحاول الابتعاد عنه، ولأنه كان يحلم دائمًا بتدمير نفسه من أجل امرأة، فضَّل بافيزي الاعتقاد بأنه انتهى به المطاف في الحبس بسبب خطأ مني. لقد ألمح إلى هذا في رسائله، وعاد من الحبس، ليخبر الجميع بذلك. (...) كيف تحولت "في الحبس بسببها" إلى "حُبست لإنقاذها"، لا أستطيع أن أفهم".

لكنني أفهم ذلك؛ لقد تضخمت الأمور بداخله، هكذا هم الشعراء. هو يشعر بالرفض وعدم الحب طول الوقت، بينما ينتظر عقله خدشًا صغيرًا ليعمِّق جرحه ويُعظِّم ألمه. وساعد على ذلك أنه بدأ كتابة يومياته الشهيرة مهنة العيش (1935 -1950 ) من منفاه في برانكاليوني، فتدوين هذا الكم من مشاعر الغضب والألم والشعور بالانسحاق والرغبة في الانتحار، وغيرها من المشاعر السلبية التي يُدَعِّمُها هو بالتحليل والتدقيق، كل هذا لا يُخلصه من عذاب أفكاره بل يحاصره ويبقيه في الجحيم.

 

أحد كتب بافيزي. الصورة: pierrO. برخصة المشاع الإبداعي

سيأتي الموت وستكون له عيناكِ

بعد وفاته، نُشِرت مجموعته الشعرية سيأتي الموت وستكون له عيناكِ، التي تتضمن عشر قصائد (ثمانية باللغة الإيطالية واثنتان بالإنجليزية)، كُتبت في الفترة ما بين 11 مارس/ أذار و10 أبريل/ نيسان 1950 في تورين، ووُجِدت بالصدفة بين أوراقه بعد وفاته. كتبها بنبرةٍ يائسةٍ، ومكرسةً للممثلة الأمريكية كونستانس داولينج، حبه الأخير القاتل.

كتب يخبرها في رسائله الأخيرة عن هذه القصائد "عزيزتي، لم أعد في حالة مزاجية لكتابة الشعر. أتت القصائد إليكِ وذهبت معك. لقد كتبتُ هذا على فترات متفرقة بعد الظهيرة، خلال الساعات الطويلة في الفندق حيث انتظرت، مترددًا، للاتصال بك. (...) كما ترين، بدأت بقصيدةٍ باللغة الإنجليزية، تتسع لكل ما عشته في هذا الشهر: الرعب والعجب".  

"سيأتي الموت، وستكون له عيناكِ

هذا الموت الذي يرافقنا

من الصباح إلى المساء، أرِقًا،

أصمًّا، كندمٍ قديم..

أو رذيلة سخيفة...".

هذه الأبيات، كانت بمثابة تمهيدٍ لانتحار تشيزاري، ومَنفذًا دراماتيكيًا لدخول اليأس بداخله وتسرب الألم العميق إلى قلبه، بعد إدراك أن حبه، الذي كان بالنسبة له سببًا لمواصلة الحياة والأحلام والأمل، قوبل بالرفض.

الرذيلة السخيفة، التي سيطرت على حياته كشيطانٍ كامنٍ في أعماقه، هي أيضًا عنوان سيرته التي كتبها صديقه الكاتب دافيد لاجولو بعد سنواتٍ قليلة من انتحار بافيزي، التي حققت نجاحًا كبيرًا لدى الجمهور في السبعينيات، بفضل تجسيدها على المسرح ثم في التلفزيون، حيث جسَّدها الممثل الإيطالي لويجي فانوتشي، الذي تماهى مع روح بافيزي، فانتحر أيضًا في عام 1978، بعد الانتهاء من تصوير العمل. 

كان بافيزي التقى كونستانس مع أختها دوريس، في منزل أحد الأصدقاء في روما في ليلة رأس السنة الجديدة 1950، استغرق الأمر نظرة واحدة فقط ليقع في حبها، وبلغت العلاقة ذروتها في مارس، عندما التقيا في سيرفينيا وتورين وقضيا عشرة أيام معًا. ومع نهاية تلك الأيام، انتهت علاقتهما العابرة وعادت كونستانس إلى روما، تاركةً بافيزي بروحٍ محطمة، فقرر تهدئة حزنه بكتابة الرسائل لها، ولكن لم يرده منها أي إجابة سوى بطاقة بريدية من مونت كارلو.

"عزيزتي كوني..   أحبكِ.

أنا أعرف قيمة هذه الكلمة، ومع ذلك أقولها لك بكل هدوء. لقد استخدمتها قليلًا جدًا في حياتي، وبصورة سيئة للغاية، (...) أنتِ أحلى وأروع شيءٍ في الحياة، والتفكير في الأمر يُرجِف معصمي".

وعندما علم بافيزي بعلاقة كونستانس بأندريا تشيتشي، الممثل الإيطالي المعروف في بعض أفلامها، التي كانت تخطط للعودة معه إلى أمريكا، أدرك أن عدم ردها على رسائله كان بمثابة تصريحات صامتة عن الحقيقة الصادمة: لم يعد له مكان في قلبها.

ومع ذلك، كتب لها مستعطفًا "لا تستائي إذا كنت أحدثك دائمًا عن مشاعر ليس بوسعك مبادلتها معي. لكنكِ، على الأقل، تستطيعين فهمها. أريد أن أشكرك من كل قلبي على الأيام القليلة والرائعة التي انتزعتُها من حياتك".   

العيون التي وقع بسببها بافيزي في الحب، والتي أحس كما لو أنها اختارته من بين ملايين الأشخاص، أصبحت بالنسبة له عيون الألم والموت. الموت الذي ينظر إلى ضحيته للمرة الأخيرة. عيونها القاسية، والجميلة في الوقت نفسه، كانت هي نهاية حياته، وموت ذاته الشعرية، فبدونها لم يعد قادرًا على كتابة الشِعر. جاء الإلهام الشعري الحقيقي معها وذهب معها، والآن يشعر بالضياع أكثر من أي وقتٍ مضى، فأراد أن يتخلص من جسده ويُطلق روحه في فراغ الكون.  

 

عمل فني لـ ليديا تشيريلي احتفاء بقصة حب تشيزاري وداولينج 

برفقة الانتحار

عاش تشيزاري والموت بداخله، تفكيره في الانتحار والحديث عنه في يومياته ورسائله وإبداعه، هاجس لازمه طوال الوقت؛ يشتد عليه في أوقات اكتئابه، ويختبئ تحت جلده في بدايات علاقاته مع النساء اللواتي أحبهن. كتب في يومياته "مبدئي هو الانتحار، الذي لم أرتكبه أبدًا، ولن أرتكبه أبدًا، لكنه يداعب حواسي" (10 أبريل/ نيسان 1936). وفي نوفمبر/ تشرين الأول 1937 "إن الخطأ الأكبر في الانتحار ليس الانتحار نفسه، ولكن التفكير فيه وعدم القيام به". وفي 23 مارس/ آذار 1938 "لا أحد يفتقر أبدًا إلى سبب وجيه لقتل نفسه". كانت فكرة الانتحار حاضرة في حياته اليومية، ويرى أنه يجب أن يقوم بها الإنسان حينما يشعر بصِغر حجمه في مواجهة الحياة والقَدَر، وباستحالة تحقيق أحلامه. أراد أن يتحرر من مطاردة الانتحار له طوال حياته، فدخل في ثقبه الأسود المجهول "نحن لا نتحرر من شيء بتفاديه، بل من العيش خلاله فحسب".

حالت تصرفات بافيزي وطفولته التعسة دون نضجه. لم يكن يغادر المنزل، وبعد وفاة والدته عاش مع أخته، وظل معها معظم سنواته الـ 42. لم يطور المهارات الاجتماعية المتعلقة بالمرأة. كان لديه أصدقاء بالفعل، ولكنه يقول "بمجرد أن أدرك أن أحد الأصدقاء يقترب كثيرًا، أتخلى عنه".

يبدو أن بافيزي كان ينجذب إلى نساءٍ حنوناتٍ ولكن غير جديراتٍ بالثقة. يقول "المرأة الوحيدة التي تستحق عناء الزواج، هي تلك التي لا يمكن الوثوق بالزواج منها" (27 سبتمبر/ أيلول 1937). كان يبحث عن امرأة تمنحه ما لم يجده في طفولته، فكُنّ نقيض والدته (قاسية، ولكن جديرة بالثقة). كان يرفض النساء الخاضعات، ووقع في حب من لم يحبه: نساء قويات لهن شخصية مستقلة، ونساء منحرفات وغير مخلصات.

كل هذا يعود بنا إلى طفولته وأمه. هو يبحث عن من يخضع لها مثل ما كان خاضعًا لأمه، فقد تعوَّد على الانسحاق والخنوع. كتب ذات مرةٍ إلى صديق أنه لا يوجد فرح يفوق فرحة المعاناة. وفي يومياته "يمكن أن يكون هناك نوع من المتعة في إذلال الذات" (9 مايو/ أيَّار 1936). وفي الوقت ذاته، يشتهي حنانًا لم يجده عند أمه، ولكن المقابل هو أنهن كن غير جديراتٍ بالحب. أراد أن يهرب من الماضي، وفي كل مرةٍ كان يُسحَب من ظهره إلى الإذلال والرفض.


اقرأ أيضًا: ألمودينا جراندز: بين ذاكرة المتعة والهزيمة

 

الروائية والكاتبة ألمودينا جراندز. الصورة: الأكاديمية الملكية الإسبانية- برخصة المشاع الإبداعي، فليكر

هذا التناقض يأخذنا إلى ما أشار إليه عالم النفس الأمريكي إدوين إس. شنايدمان، الذي صاغ مصطلح "الألم النفسي"، أن الكثير من كتابات بافيزي تبدو وكأنها تعكس تضيّقًا في الفكر، وتحوله إلى ثنائيات متناقضة، مثل وجود امرأة تحبه والرغبة في الانتحار. هو يستمد ضوءه من تناقضاته الخاصة، كالعجز الجنسي ومحاولات الحب. وأشار أيضًا إلى أن بافيزي ظل يتحدث طوال حياته عن الشعور بعدم القيمة، وركز بشكلٍ خاص على إخفاقاته مع النساء، ولم يتمعَّن في قيمة كتاباته أو يتحمس لتلقي مردودٍ من القراء أو النقاد، ولكنه يقارن نفسه مع مَن تزوجوا ولديهم أطفال ويعتبر نفسه فاشلًا وعاجزًا. كتب بافيزي "هذا أمر محسوم: يمكنك الحصول على أي شيءٍ في الحياة، عدا امرأةً تدعوك زوجها، وحتى الآن حياتك كلها مبنية على هذا الأمل" (5 يناير/ كانون الثاني 1938).

إعادة تدوير الحُزن

في سجنه، قرر أن يقف على حالته ويفحصها، لكن محاولته لاستيعاب ذاته وما دار في فلكها على مدار حياته، باءت بالفشل، واكتشف أن "كل هذا بائس" في النهاية، لذلك لن يكتب بعد الآن، ولأنه لطالما كانت الكتابة هواءه ومهنة عيشه، فتوقفها معناه انتهاء حياته.

كتب بافيزي "أي شخص يريد أن يعرفني سيتعب من قراءتي". كان عمل بجدٍ خلال حياته القصيرة للتدقيق في حالته الداخلية، والتأمل في الحياة، والأحلام، والذكريات، والانعكاسات الفلسفية واللاهوتية، والاعتبارات الأخلاقية، والتأمل في أعماله الأدبية، والأعمال التي استوحى منها بعض شعره، وتأمل الشعراء الفرنسيين والإنجليز والأمريكيين.

ورغم عمق أفكاره ونضجه الأدبي، لكنه كان يفكر مثل أي عاشقٍ مراهق "لو أني متُّ، لاستمرت هي في الحياة، تضحك وتركض وراء الثروة. هي تركتني وما زالت تعيش، وتضحك، إلخ... وبالتالي فأنا الآن كالأموات".

قبل موته، أراد أن ينفي تهمة قتله عن حب امرأةٍ بعينها، واتهم الحب بكل أشكاله "لا يقتل المرء نفسه من أجل امرأة. نقتل أنفسنا لأن الحب، أي حب، يكشفنا في عرينا، وبؤسنا، وعجزنا، وعدميتنا" (25 مارس/ آذار 1950). رغم ما كتبه، أشار، ربما دون أن يقصد، إلى المرأة التي جاء الموت وكان له عينيها. بعد فحص ملابسه، وجدوا صورة لكونستانس داولينج داخل محفظته، من بين الأشياء التي أحبها.