مزرعة قمح في مصر: الصورة من موقع فليكر برخصة المشاع الإبداعيAaron Morton

رهانات الحكومة لتجاوز آثار الحرب: فأس الفلاح وقمح الهند

منشور الخميس 24 فبراير 2022

وضع اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، في الساعات الأولى من صباح اليوم، الحكومة المصرية في تحدٍ فيما يتعلق بخياراتها في مواجهة أزمة متوقعة في القمح، فالدولتان تمدان مصر بنحو 80% من احتياجاتها من خام الدقيق. وعلى الرغم من تأكيدات الحكومة المتواترة على استعدادها مسبقًا لكافة السيناريوهات، وأن مخزونها من القمح يكفي 4 شهور قادمة، لكن ذلك لا يُزيل شبح الأزمة.

يقول مصدر في وزارة الزراعة، فضل عدم ذكر اسمه، للمنصة، إن الأزمة لن تكون في الجهة التي تستورد مصر منها القمح وإنما في الأسعار، "مناشئ استيراد مصر للقمح تصل إلى 16 دولة تضم الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، وفرنسا، وألمانيا، وبولندا، والأرجنتين، وكازاخستان، ورومانيا، وبلغاريا، والمجر، وباراجواي..وبالتالي توجد خيارات متعددة لتلبية الاحتياجات المصرية".

وقفزت أسعار القمح في بورصة شيكاغو لتقترب من أعلى مستوى في 9 سنوات، عند 8 دولارات للبوشل (وحدة قياس الحبوب: 27.2 كيلو)، ما يفرض تحديات كبيرة على الدول المستوردة وفي مقدمتها مصر التي تحتل المرتبة الأولى عالميًا، وتستورد ما بين 10 و13 مليون طن قمح سنويًا في المتوسط، موزعة بين 6 ملايين تشتريها وزارة التموين لصالح إنتاج رغيف الخبز البلدي، والباقي موجه للقطاع الخاص سواء محال المخبوزات أو بيع الدقيق المعبأ.

ويوضح عضو غرفة الحبوب باتحاد الصناعات المصري وليد دياب، للمنصة أن المخزون من القمح في مصر حاليًا يكفي للشراء حتى من أبعد نقطة حيث أمريكا، التي يستغرق فيها مركب القمح شهرًا للوصول لمصر منذ طلب الشراء، لكن المشكلة في فارق السعر "لتقريب الصورة، يمكن مقارنة سعر الطن بين موسكو وباريس في شهر نوفمبر الماضي، حينما بدأت الأسعار في الارتفاع بسبب مخاوف الحرب، فالقمح الفرنسي بلغ حينها 335.25 دولار، والروسي 324.5 دولار، والأسترالي 340.5 دولار، والأمريكي 340.25 دولار".

ويتابع دياب أن التوقعات دارت عند متوسط 225 دولارًا للطن في وقت الحصاد، وقفزت أعلى من ذلك الرقم بنحو 100 دولار، ما سيؤثر سريعًا على أسعار بيع القطاع الخاص الدقيق أو المعجنات. وكان ذلك قبل الحرب، ومن المتوقع موجات جديدة من الزيادة في ظلها.

وللقمح الروسي والأوكراني الذي يمثل 29% من صادرات القمح عالميًا، مزايا بالنسبة للشرق الأوسط، يوضحها العضو المنتدب لشركة سوف إيكون البحثية الروسيةأندري سيزوف، في أنهما يمثلان ضمانة لتوفير أسعار خبز في متناول الجميع. ويعتبر سيزوف أن أضرار قطاع الزراعة في أوكرانيا من الحرب قد تؤدي إلى ارتفاع سعر طن القمح عالميًا بنسبة تتراوح بين 10% و20% حال حدوث تصدير.

وفى العام التسويقي للقمح 2021/2020، جاءت روسيا فى المرتبة الأولى لتوريد القمح لمصر بحجم 8.13 مليون طن، ثم أوكرانيا بنحو 2.45 مليون، والاتحاد الأوروبي في مرتبة تالية بواقع 1.08 مليون طن. وحاليًا تبحث الحكومة، عن آلية لتغطية احتياجاتها من القمح وكذا أسعاره، سواء بالبحث عن مقاصد أخرى للاستيراد، أو إغراء المزارعين المحليين برفع نسبة الكميات الموردة من إنتاجهم إلى الصوامع. وكلا السيناريوهين يواجهان تحديات.

أسواق بديلة

مع انلاع الحرب الروسية -الأوكرانية، باتت الحكومة المصرية أمام ضرورة التفضيل بين الخيارات المتاحة، وتبدو كازاخستان ورومانيا، وهما من الدول المصدرة الرئيسية على أجندة الاستيراد، كبدائل، لكن حتى ذلك الخيار عرضة للتوقف بسبب اعتمادهما على موانئ البحر الأسود الذي يضم، حاليًا تركزات ضخمة لوحدات البحرية الروسية.

وقبل أشهر، تلقى وزير التموين، اقتراحًا فرنسيًا، خلال زيارته باريس، بالتعاقد على كميات من القمح لمدة لا تقل عن 3 سنوات على أقل تقدير، حتى يتسنى التفاوض مع شركات الشحن الفرنسية لتخفيض الأسعار. الجانب الفرنسي قال، حينها، إن لديه 15 مليون طن متاحة للتصدير، وحال وجود احتياج مصري فسيتم دراسة آليات التنفيذ وبحث مشاركة السفن المصرية للنقل لتقليل التكلفة، لكن الوزارة لم تحسم الأمر.

وعلى مدار سنوات، تحاول الهند هي الأخرى التسجيل كدولة منشأ لتصدير القمح لمصر، وقدمت عرضين رسميين أولهما في عام 2012، قبل أن تُجدد الطلب ذاته خلال الدورة الثانية للجنة التجارية المشتركة بين القاهرة ونيودلهي، في 2014.

تحتل الهند المرتبة الثانية عالميًا في إنتاج القمح بـ 103 ملايين طن، بعد الصين التي تنتج 135 مليون طن، بينما تحل روسيا في المرتبة الثالثة بـ 77 مليون طن، وأوكرانيا السابعة بـ 28 مليون طن، بحسب بيانات منظمة الفاو، لكن على مستوى التصدير تتربع روسيا على الصدارة بينما تأتي أوكرانيا رابعًا.

ودرس الحجر الزراعي المصري بالفعل إضافة القمح الهندي كمنشأ مقبول لمناقصاتها الدولية للاستيراد، لكنه أكد في الوقت ذاته، أن الأمر قد يستغرق سنوات من أجل القبول، بحسب تصريحات صحفية لرئيس الحجر الزراعي المصري.

وفي هذا السياق يتضح تعدد الأسواق البديلة، لكنه تعدد لا ينفي المأزق الذي تواجهه مصر الآن خصوصًا في ظل غموض متى يمكن أن تنتهي تلك الحرب أو مآلاتها، وهو مأزق كان يمكن أن تتجنبه مصر بإجراءات استباقية للتحوط.

سياسة التحوط والفرص الضائعة

بدأت بوادر الأزمة على السوق المصري في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حينما ارتفعت أسعار القمح عالميًا بعد فرض روسيا رسومًا على صادراتها لضمان إبقاء كميات كبيرة بالسوق المحلية، ما تسبب في مضاعفة أسعار الشحن بنسبة تتراوح بين 300 إلى 500%. حينها خاض وزير التموين على المصيلحي، محادثات مع سيتي جروب للتوصل إلى اتفاق بشأن التحوط من زيادات أسعار القمح العالمية، لكن نتيجة تلك المحادثات لم تُعلن حتى الآن.

إبرام الحكومة عقودًا آجلةً قبيل انطلاق الحرب الروسية - الأوكرانية، كان ليوفر ضمانة لاستقرار سوق القمح في مصر. ويشرح أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة الدكتور رشاد عبده، للمنصة، تلك العقود بإنها تُبرم في وقت ما بحسب سعر السوق، على أن يتم استلام الشحنات لاحقًا، دون أن يؤثر ارتفاع الأسعار وقت استلام الشحنات على العقد المبرم. 

وكانت وزارة المالية شكلت بالفعل لجنة لدراسة سياسات التحوط، لكن اجتماعها الأول يُعقد مطلع مارس/ آذار المقبل، لبحث جدوى التحوط من تقلبات أسواق القمح من عدمه. وينتقد عبده ذلك التلكؤ من وزارتي المالية والتموين، بما لا يناسب الموقف المتوقع لسوق التصدير سواء على مستوى الإمدادات أو التضخم السعر المتصاعد.

الفأس المحلية بديلًا

وأمام الأوضاع المشتعلة، يبدو الاعتماد على الإنتاج المحلي، والتشجيع على زيادته الحل الأمثل. ورفعت وزارة التموين سعر توريد القمح المحلى الذي يبدأ حصاده في أبريل/ نيسان، قبل أسابيع بنسبة 20% ليصل أعلى سعر للأدرب إلى 865 جنيهًا مقابل 725 جنيهًا للأردب الموسم السابق.

الإنتاج المحلي للقمح يصل إلى 9 ملايين طن ما يقرب من نصف احتياجات البلاد من القمح، لكن يتم توريد نحو 3.5 مليون طن منها في المتوسط، والباقي يحتفظ به المزارعون لاستهلاكهم الخاص أو يبيعونه للتجار والمطاحن الخاصة بسعر أعلى مما تفرضه الحكومة.

ويستهلك الفرد فى مصر 182 كيلو جرام قمح فى العام الواحد، أما فى باقى الدول لا يتعدى الـ72 كيلو جرام، بحسب وزارة التموين، ما يعني أن ترشيد الاستهلاك يقلل من المشكلة، لكن الترشيد يرفع الضغط على الأرز الذي ارتفع سعره في يناير/ كانون الثاني الماضي بنحو ألف جنيه، رغم وجود اكتفاء ذاتي محلي في الإنتاج، بسبب تخزين التجار قبل قدوم شهر رمضان لزيادة الربحية.


اقرأ أيضَا| الفلاحون: الحلقة المفقودة في الحركات الغذائية الجديدة للطبقات الوسطى

 


يطالب خبراء بأن تفكر الحكومة في أزمة القمح العالمية الحالية بفكر مستدام، بزيادة مساحات الرقعة الزراعية من القمح، فدولة مثل الهند تحدد 13٪ من جميع أراضيها لزراعته، مع منح المنتجين أسعار مجزية تضمنها الحكومة ويجعل لديها فائض للتصدير رغم عدد سكانها الضخم.

ويقول مسؤول في وزارة الزراعة، فضل عدم ذكر اسمه، للمنصة إن مصر زرعت 3.62 مليون فدان قمحًا، وهو الأكبر على الإطلاق في الموسم الحالي 2022، مع توفير 22 صنفًا من التقاوي تناسب مختلف الأجواء المصرية، وذات إنتاجيه عالية ومقاومة للأمراض.

لكن أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة رشاد عبده يقول إن "السياسات الزراعية المتضاربة تسببت في عزوف المزارع عن التوسع الضخم في إنتاج القمح، بسبب شراء الدولة المنتج وفقًا للسعر العالمي بصرف النظر عن التكلفة، فحال مطالبة الفلاح بزيادة السعر تشتري الحكومة من الخارج بسعر أقل، وتتركه يبحث عن وسيلة لتصريف منتجه".

ولو أن الدولة منحت من قبل المزارعين سعرًا مرضيًا، لتجنبت أزمة تذبذبات العرض وحافظت على العملة الصعبة والاحتياطي النقدي، "فارتفاع أسعار القمح الحالية كبدت الموازنة العامة للدولة نحو ١٢ مليار جنيه"، وفقًا لتصريحات متكررة لوزير المالية الدكتور محمد معيط. وكشفت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن مصر استوردت قمحًا بقيمة 3.2 مليار دولار في 2020، فيما لم يتم الإعلان عن أرقام 2021 الإجمالية حتى الآن، واكتفت وزارة التموين بالكشف فقط عن الأرقام الخاصة بها التي بلغت 5.5 مليون طن.

وأعلنت وزارة المالية، في بيان الثلاثاء الماضي، عن الانتهاء من هيكلة مشروع التعاقد على 4 مستودعات استراتيجية للسلع التموينية بنظام "المشاركة مع القطاع الخاص"، وبموجبها يقوم المستثمرون بتمويل وتصميم وإنشاء وتجهيز المخازن الاستراتيجية، وتقديم الخدمة التخزينية علي مساحة 10أفدنة، بمحافظات الأقصر والفيوم والسويس والشرقية بتكلفة إجمالية 3.2 مليار جنيه، من أجل توفير صوامع لتخزين القمح.

وتراهن الحكومة على مشروع الصوامع الحديثة لتقليص نسبة الفاقد من القمح المحلى الذي كان يصل إلى 30% أثناء عمليات الحصاد والنقل والتخزين فى شون ترابية ومكشوفة ومعرضة للحشرات والفئران والطيور.

ويرى الخبير الزراعي وأستاذ الهندسة الزراعية والنظم الحيوية بجامعة بنها الدكتور زكريا الحداد، المشكلة أكبر من التخزين، مستنكرًا عدم إدخال التقنية الحديثة في عملية الإنتاج في الدلتا القديمة حتى الآن، رغم تواجدها في مشروعات الدلتا الجديدة ومزارع القطاع الخاص . ويشير الحداد في دراسة نشرها في العام 2012 إلى أن تطبيق بعض التقنيات البسيطة مثل الزراعة بالسطارة وتسوية الأرض بالليزر ساهم في زيادة الإنتاج من ٤ إلى ٦ إردب للفدان.

يقول الحداد للمنصة إن الفلاح المصري لا يزال يزرع بتقنيات بدائية ببذر الحبوب وتغطيتها بالتزحيف (قطعة خشب يجرها الحمار)، وحصدها إما يدويًا أو بماكينات منخفضة الكفاءة، مما يزيد الفاقد من التقاوي والأقماح، لكن منتجه أفضل من غالبية القمح الوافد من الخارج الذي يكون في بعض الأحيان منخفض الجودة.

وبسبب نسبة الفاقد التي تقلل من الربح يفضل المزارع زراعة البرسيم الذي تبلغ مساحته حاليًا 2 مليون فدان، باعتباره بديل رخيص لارتفاع أسعار الأعلاف. أما إدخال الوسائل الحديثة يضمن تقليل الاستيراد بنسبة تتجاوز 35%.

ويضيف الحداد أن نشر ماكينات الكومبانين توفر على المزارع ثلث تكاليف الحصاد، خاصة مع ارتفاع العمالة الريفية وندرتها منذ انتشار مركبات التوكتوك، كما توفر نحو 30 ألف طن سولار سنويًا تستهلكها الجرارت والماكينات القديمة في حصاد و"درس المحصول" (فصل الحبوب عن الأعواد).