IStock
نحتاج إلى مجتمعات عربية تستطيع تقبل اختلافات البشر

لغة بساق واحدة: لماذا لا نعرف من العربية غير هي وهو؟

في سبيل عربية تتسع للهويات الجندرية

منشور الخميس 4 أغسطس 2022 - آخر تحديث الخميس 4 أغسطس 2022

تذهب فرضية النسبية اللغوية، المعروفة باسم فرضية سابير–ورف إلى أن "اللغة التي نتحدثها تعد سجن لأفكارنا وتشكل واقعنا". ورغم أنها فرضية لم تعد مقبولة علميًا، فإنه لا يمكن إنكار التأثير الشديد للغة على تشكيل طريقة تفكير المتحدثات والمتحدثين بها.

اللغة العربية، مثلًا، تبدو غير قادرة اليوم على التعبير عن الهويات الجندرية المختلفة، فتصريفاتها سواء الفصحى أو دارجاتها، تعتمد على النظام ثنائي الهويّة الجّندرية، أي المؤنث و المذكر، في الإشارة للشخص، كما في استخدام الضمائر المفردة مثل أنتِ وأنتَ، وفي الجمع أنتن وأنتم، إضافة لوجود صيغة واحدة للمثنى وهي أنتما، في حين أن لغة مثل الإنجليزية تستخدم ضميرًا واحدًا للتعبير عن كل ما سبق هو you.

في "التأتأة"

يمثل اعتماد العربية على ذلك التصنيف الثنائي عائقًا للفئات اللاتي/الذين تُعَرِّفْنَ/يعرفون أنفسهن/م بهويات جندرية مختلفة عن المرأة والرجل، خصوصًا في عالمنا العربي، مثل محايدي الهوية الجندرية، ومرني الهوية الجندرية، واللاتي/الذين لا يرون/ا أنفسهن/م كنساء أو رجال بل لهن/م هوية جندرية مستقلة، إضافة إلى الكثير من الهويات الأخرى.

إذن فلغتنا بهيلكلها الحالي تفتقر إلى الشمولية الكافية لاستيعاب من لا يجدن/وا في لغتهم ما هو قادر على التعبير الدقيق عنهن/م مما يخلق صعوبة في التواصل بين أفراد المجتمع الواحد.

في مقال بعنوان رحلة البحث عن الترانس: 2- ديسفوريا اللغة تكتب التونسي/ة لا ثنائي/ة الجندر، خوخة ماكوير ، وهي فنان/ة وناشط/ة حقوقي/ة لمجتمع الميم، إنه رغم التطورات المهمة التي أُحدثت على الصعيد اللغوي و المعرفي للاحتواء و الاعتراف بتجارب الترانس، فإنّها تواجه معضلة "كصاحبة تجارب ترانسجندرية لا ثنائية، و كوْني ناطقة في ذات الحين باللغة العربية و الفرنسية، اللتين تتسمان بثنائية الجندرة ولا تفسحان المجال لهوية محايدة أو لا ثنائية على عكس بعض اللغات الأخرى".

تستطرد ماكوير أكثر في شرح مدى المشقة في رحلتها لإيجاد طريقة تمكنها من التعبير عن نفسها من خلال نافذة اللغة العربية "مع انقضاء ما يزيد عن الخمسة عشر عامًا على هذه التجربة اللغوية المرهقة و الشاقة (...) اعتاد البعض على تراكيبي التي لا تستقيم لغويًا، لكني لا أزال من جراء هذه التجربة اللغوية المضنية أعاني من فترات الصمت التي تتخلل خطابي ومن التأتأة وأعطاب التواصل وإخفاقاتي المتعددة في تمرير الرسائل و المعلومات إلى حد امتناعي عن الكلام".

أنا كذلك، رغم محاولاتي البائسة في انتقاء الكلمات لتجنب التعبير عن ماكوير وأنها أنثى، فشلت في التعبير على نحو يناسب هويتها الجندرية، الشيء الذي قد يصيب الكثيرات بالتخبط وعدم الفهم لماهية الهوية اللا ثنائية. ويمكننا استنباط مدى الألم النفسي للكثيرات/ين الذي قد تسببه اللغة في شكلها الحالي لهن/م.

ولا تزال لغات كثيرة غير شمولية على نحو كافٍ للهويات المختلفة. لكن في الوقت نفسه ثمة لغات أخرى لا جندرية – genderless، مثل الفنلندية التي تستخدم ضمير غائب واحد للنساء والرجال والحيوانات، وهو الضمير hän، الذي كان موجودًا في اللغة ولم يضف إليها.

يجعل هذا الفنلندية واحدة من أكثر اللغات شمولًا من حيث الهويات الجندرية، التي كانت مصدر إلهام للغة السويدية، لإضافة ضمير غائب محايد الجندر مثل hen الذي لا يزال حديثًا، وأُدرج في اللغة منذ العام 2012، حتى بالرغم من وجود معارضات لاستخدامه.

في الإنجليزية أيضًا ثمة محاولات لإدراج ضمير الغائب they، ليكون ضميرًا محايد الجندر بدلًا من she وhe، وذلك الاستخدام يعود للقرن الرابع عشر طبقًا لــقاموس أوكسفورد الإنجليزي، وهناك دعوات لاستخدام ضمائر أخرى عديدة ولكنها لم تدرج بشكل رسمي في قواميس اللغة.

لغة الهي والهو

رغم ذلك لا تزال هناك تحديات أخرى تواجهها الإنجليزية، وعلى الأرجح ستأخذ وقتًا حتى تصل لمرحلة من الاستقرار. لكن حتى تلك التحديات تعتبر بسيطة عند المقارنة بالعربية والفرنسية اللتين تشتركان في قوام نحوي متقارب من حيث البناء الثنائي الجندري في الضمائر والصفات وتصريف الأفعال وحتى بعض أسماء الفاعل، مما يزيد من تعقيد إعادة الهيكلة الذي سيتطلب تحديث قواعد نحوية كثيرة تباعًا.

حتى مع ظهور ضمير غائب محايد الجندر في الفرنسية iel، المدرج أخيرًا  بـقاموس لو روبير، الذي عارضته بشدة الأكاديمية الفرنسية، ورفضت إدراجه بقاموسها، كما عارضت فكرة الكتابة الشمولية ورأته تهديدًا للغة التي يجب حمايتها لصالح الأجيال القادمة.

ولاحقًا جرى منع استخدام الكتابة الشمولية من إقرارها بالمدارس من قبل وزارة التعليم الفرنسية. حتى وإن حدث ذلك الدمج، فما زالت التصريفات النحوية غير قادرة على نحوٍ كافٍ أن تكون شمولية.

اللافت أن اللغتين، العربية والفرنسية، بهما غلبة ذكورية في بناءهما كما في ضميري الغائب الجمع هن وهم، ومثيلاتهما في الفرنسية elles وils، اللتين حينما تتحدثان عن مجموعة مكونة من ألف شخص كلهم سيدات يتوسطهن رجل واحد فتلزم اللغتان استخدام صيغة المذكر، كما في مثال "علاء وأمنية وسامية هم طلاب".

تلاحظي هنا أنه جرى استخدام "هم" وليس "هن"، الذي يرسخ الهيمنة الذكورية في اللغتين، مما يضفي أهمية أخرى لدمج صيغ محايدة الجندر، وما يتبعها من تطورات لقواعد اللغة لتحقيق العدالة والإنصاف.

بالنظر للغة العربية نظرة متفحصة، نجد أنها حفلت بتاريخ من التطور والاتساع، خاصة في العصر العباسي وفي أوج ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، حينما كانت أكثر انفتاحًا على ترجمة العلوم الغربية، وبات الشرق يصدر إلى الغرب شتّى العلوم والمعارف، فما برحت اللغة العربية آنذاك تتسع لاستيعاب معانٍ ومفردات جديدة. لكن يمكننا القول إنها توقفت عن التطور منذ زمن بعيد أو على الأقل لم تعد تتسع بما يكفي في الوقت الحالي.

في سبيل عرفية تحتفي بالأخرين

اللغة وسيلة للتعبير عن واقعنا، وإن فشلت في ذلك يتحتم علينا تطويرها لتصبح أكثر ديناميكية وشمولية، مما يحتاج إلى تدخل علماء لغويين وممثلات/ين عن الهويات المختلفة وأخريات غيرهن تمثلن طوائف أخرى، وقد تأخذ تلك العملية سنوات خاصةً مع لغتنا التي بقيت ساكنة لقرون عدّة، وربما بالأحرى يجب أن نسعى لتطوير لهجاتنا العامية للتوصل إلى التنوع للتعبير عن أطياف المجتمع، التي بدورها يمكن أن تساهم في تطوير الفصحى يومًا ما.

ربما تبدو تلك الدعوة ساذجة، إذ أننا نحتاج إلى مجتمعات عربية تستطيع تقبل اختلافات البشر، لكن ربما أيضًا يجدر بنا محاولة خلق مساحات قبول من خلال تعبير لغوي أقل ذكورية في مجتمعاتنا التي تدحض الاختلاف عما ألفناه. علَّنا نصل يومًا ما بذلك التعبير اللغوي الشمولي لبناء قدرات أكبر وفتح مساحات أوسع لدى أجيال جديدة بشأن قبول أنفسهن/م ومن يختلف عنهن/م.