المتحدث باسم الرئاسة- فيسبوك
الرئيس السيسي خلال المؤتمر الصحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتز

مصر من رفض التدخل إلى قبول التثبت الخارجي

منشور الأربعاء 20 يوليو 2022 - آخر تحديث الثلاثاء 20 ديسمبر 2022

رغم الإحباط الذي عبرت عنه حتى وسائل الإعلام الأمريكية تجاه نتائج زيارة بايدن للسعودية وتنازلاته عن موقفه المبدئي السابق ضد قبول الاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان، ودون حتى الحصول على التزام علني بضخ البترول السعودي بما يكفي السوق العالمي، فإن التعهدات التي حصل عليها الرئيس الأمريكي في الجلسات المغلقة بعيدًا عن الرأي العام العربي، ربما حتى لا يُشمت في ليونة أباطرته، توحي بأن هناك تغيّرًا ولو في الأسلوب في تعامل بعض حُكامه مع ملف حقوق الإنسان!

بالطبع، لا يمكن لعاقل أن يزعم أنه تغيّر كبير أو تحول يصل حد فتح أبواب السجون على مصراعيها والانفتاح السياسي وإعطاء الحريات، بما يشكل انتحارًا سلطويًا، ولكنه قبول من أنظمة كانت ترفض مجرد إثارة ملف حقوق الإنسان معها، وتنتفض وتتشنج باعتبار ذلك تدخلًا في شؤونها الداخلية، فأصبحت تقدم تعهدات في بيان مشترك بأن يتابع الرئيسان "عن كثب" مدى الالتزام بتلك الحقوق والحريات.

وهو ما لاحظناه بالمثل يوم الاثنين في برلين خلال رد الرئيس المصري على سؤال الصحفي الألماني عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر، لا بالرفض والتشنج ولكن بعرض الزيارة لمصر للتأكد والتثبت، ولا نقول التفتيش!

قبل أن نناقش تفاصيل هذا التغير ولو في الأسلوب، يجب أن نفرق، كما ذكرت في المقال السابق قبل القمة، بين قدرة الطرف الأمريكي على الضغط بشكل أكبر على الموقف المصري الذي يواجه أزمة مالية واقتصادية ويحتاج دعم واشنطن له عند صندوق النقد والبنك الدوليين من جهة، والموقف السعودي الذي لديه من الأوراق ومفتاح مضخة البترول ما يسمح له بإنكار ما حدث وراء الأبواب بين بايدن وابن سلمان، وكذلك الرد على انتقادات الأمريكيين بتذكيرهم بما فعلوه في العراق وأفغانستان من انتهاكات لحقوق الإنسان.

يصل أسلوب الإنكار السعودي لحد القول بأن التطبيع لم يتم، بينما هم فتحوا أجواءهم ومطاراتهم للطائرات الإسرائيلية، ووافقوا على المشاركة في ترتيبات عسكرية بحرية ودفاعية تحت مظلة القيادة العسكرية الوسطى (المركزية) الأمريكية بالمنطقة، والتي أصبحت إسرائيل جزءًا منها.

وحتى أسعار البترول التي بدأت في الهبوط قبل أن تهبط طائرة بايدن إلى جدة ومن خلفها طائرات الركاب من إسرائيل، تم التفاوض بشأنها سرًا، كتنازلات، دون تقديم تعهد علني، حتى يتأكد للعالم في اجتماع أوبك مطلع الشهر المقبل؛ وكلها تصرفات تسير في اتجاه الحرص السعودي على تصدير صورة أن بايدن خضع لنا بينما نحن الأشاوس لم نقدم تنازلات مقابل الحصول على الشرعية الدولية للحاكم الفعلي الجديد!

إنها صورة وافق الأمريكيون والإسرائيليون على أن يتركوا الحاكم السعودي يصدّرها لمحكوميه!

الموقف المصري في تعامله مع الرئيس الأمريكي لم يلجأ، على الأقل رسميًا، إلى إنكار أن لديه مشكلة ملف حقوق إنسان من حق دولة أجنبية أن تناقشه فيها دون أن يرد عليهم، خلافًا لما فعله السعوديون بردهم على الأمريكيين: ماذا عنكم أنتم وما فعلتموه في العراق وأفغانستان؟!

ربما يعود عدم استخدام المسؤولين المصريين نفس لهجة الرد السعودي إلى أن نفس المؤسسات الأمنية المصرية، في عهد مبارك، شاركت مع الأمريكيين في بعض هذه الانتهاكات نفسها؛ كإرسال أمريكا بعض المطلوبين التي اعتقلتهم ليتم نزع اعترافاتهم وعصرهم تحت التعذيب في مصر قبل إعادتهم إلى المعتقلات الأمريكية كسجن جوانتانامو، وبذلك لايقوم الجنود الأمريكيون بهذا العمل الشائن بأيديهم!

كما أن الجانب المصري لم يرفع أيضًا البطاقة الحمراء للأمريكيين محتجًا بأن حقوق الإنسان شأن داخلي، فقد ناقشها في الاجتماع الأول بين الرئيسين في جدة، وحرص الرئيس السيسي في بداية الاجتماع على إمساك يد الرئيس بايدن بيديه لمصافحته، بدلًا من الاكتفاء بملامسة قبضتي اليد، مثلما فعل فعل بايدن مع ابن سلمان. ولم يتضايق الرئيس المصري المنضبط في جلسته من طريقة جلوس بايدن وهو يحدثه واضعًا "رجلا على رجل"!

ولكنَّ المتحدث باسم رئاسة الجمهورية في مصر أصدر بيانًا على صفحته بما ورد في البيان المشترك والقضايا التي نوقشت وأوردها كلها باستثناء واحدة. لقد أغفل فقرة كاملة بعنوان "تعزيز حقوق الإنسان" والتي جاء في البيان المشترك على موقع البيت الأبيض فيها ما يلي:

"أكد الرئيس بايدن والرئيس السيسي التزامهما المتبادل بإجراء حوار بناء حول حقوق الإنسان، التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من الشراكة القوية بين الولايات المتحدة ومصر. 

وقرّرا مواصلة التشاور عن كثب بشأن ضمان تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في المجالات السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وأعاد الزعيمان التأكيد على الدور المهم الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني في هذه المجالات".

إذن هناك التزامات مصرية ربطها الأمريكيون بما سيقدمونه، وأقصى ما يمكن للجانب المصري إزاء ذلك هو إبقاء مظاهر وجود انفتاح سياسي وحوار وطني

في المقابل يقدم الجانب الأمريكي للمصري الدعم المطلوب مع صندوق النقد والبنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية، وهو الأهم، إلى جانب الدعم الاقتصادي الأمريكي المحدود.

إذن هناك التزامات مصرية ربطها الأمريكيون بما سيقدمونه، وأقصى ما يمكن للجانب المصري إزاء ذلك هو إبقاء مظاهر وجود انفتاح سياسي وحوار وطني أمام العالم الغربي حتى تمر أزمته الراهنة، بافتراض أنها عابرة، أو ينشغل العالم بمصالحه الذاتية الأهم عنها، بل ولو بشراء الوقت حتى يتغير صانع القرار الأمريكي في الكونجرس عاجلًا وفي البيت الأبيض آجلًا، وهو رهان غير مضمون العواقب حتى لو عاد ترامب نفسه للبيت الأبيض.

التغير في الرد الرسمي المصري على من يثير معه خارجيًا ملف حقوق الإنسان، وجدناه أيضًا في التعامل مع المؤتمر الصحفي ببرلين للرئيس السيسي والمستشار الالماني أولاف شولتز. وهو أسلوب حاول فيه القائمون على إعلامنا الحجب والإخفاء بينما  كان الجانب الرسمي صريحًا ممثلًا في الرئيس المصري بنفسه:

أولا، أخذ بنفسه المبادرة في كلمته المُعَدُة للمؤتمر، بالتأكيد على أنه "من الشفافية" مناقشة ملف حقوق الإنسان، أي أنه لم يعد شأنًا داخليًا يرفض مناقشة الدول الأخرى له. ويقول الرئيس المصري عن هذا الجانب من مباحثاته:

"واعتزازا من مصر بشراكتها مع ألمانيا، والحوار الشفاف حول كافة اهتماماتنا فقد حرصت خلال لقائي بالمستشار شولتز على إطلاعه على التطورات المهمة التي يشهدها محور أساسي، من محاور عملنا الوطنى في الشهور الأخيرة، وهو ملف حقوق الإنسان في إطار المقاربة الشاملة التي تتبناها الدولة المصرية في هذا الصدد انطلاقًا من أن حق الإنسان في الحياة الكريمة والتنمية، وفي مجتمع يتمتع بالحقوق والحريات السياسية، التي كفلها الدستور المصرى والتي تلتزم الدولة بصونها وحمايتها…".

ويعدد الرئيس السيسي ما يعتبره إنجازات في هذا المجال كاستراتيجية حقوق الإنسان وقرار إنهاء حالة الطوارئ والحوار الوطني!

ثانيًا، لم يحتج الرئيس على سؤال الصحفي الألماني له عن ملف حقوق الإنسان أو يعطيه درسًا في أهمية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو القيم الدينية عن السياسة أو البشرية، كما فعل قبل عامين مثلًا بمؤتمر صحفي مع الرئيس الفرنسي، لكنه ترك سؤالي الصحفي الآخرين عن إمداد مصر أوروبا بالغاز المسال وعن الخلاف مع أنانيا بشأن إعادة إعمار ليبيا، وقال للصحفي الألماني بشكل غير متوقع:

"إسمح لي أدعوك وأدعو معك كل من يهتم بهذا الأمر، ييجي يزورنا في مصر، وإحنا هنتيح له فرصة أن يلتقي بالجميع ويتحدث معهم. وأتصور أن ما يراه سينقله هنا للرأي العام في ألمانيا، لأن أنا شهادتي في هذا الأمر هتبقى مجروحة زي ما بيقولوا عندنا في بلادنا، تعالى شوف الحقوق الدينية وحرية المرأة في مصر عاملة إزاي، شوف حياة الإنسان وحياة كريمة في مصر عاملة إزاي…. وعن حرية التعبير احضر جلسات الحوار الوطني الموجودة في مصر وشوف هي أخبارها إيه، واللي تشوفه بأطلب منك تنقله نقل حقيقي فقط إلى الرأي العام في ألمانيا، هل فعلاً في مصر فيه حرص شديد على الحريات ولا لأ؟ يمكن تكون الصورة مش واضحة لكم هنا، ولازم تزوروا مصر".

أما الجانب الثاني في التعامل المصري مع الأزمة، فلم يكن القائمون عليه قد لحقوا بأسلوب التعامل الجديد أو لم تصلهم التعليمات الجديدة، فحاولوا أسلوب الحجب والإخفاء وفشل.

وتَمثّل ذلك في منع القائم على القنوات التليفزيونية المصرية المترجمين للمؤتمر الصحفي على الهواء من ترجمة أي سؤال عن حقوق الإنسان! وبالتالي، لم نسمع من المترجم للقنوات الناطقة بالعربية مثل قناة صدى البلد أو المترجمة بالإنجليزية لقناة النيل Nile TV سوى ترجمة من الألمانية لسؤال واحد من ثلاثة لنفس الصحفي، وهو المتعلق فقط بتوصيل الغاز من مصر إلى أوروبا.

ولولا قول الرئيس بالعربية "أنا حابب أبدأ بآخر نقطة إنت ذكرتها عن ملف حقوق الإنسان.." ما كنا سنعرف أن الرقابة على ما يسمعه ويشاهده المواطن المصري قد وصلت في تعتيمها إلى هذه القتامة والندامة!

لكن أخيرًا، مهم ألا نسمح لمن يريدون أن نستسلم ويصيبنا الإحباط، بحجب أي معلومة عن المواطن المصري، أن ينجحوا في محاولاتهم او إدعاءاتهم ردّاحيه بالانتصار، ويجب أن يدرك القارئ أن هناك تغييرًا وتراجعًا عن محاولات إنكار حقوقه الإنسانية المشروعة، وأن رد فعله وثبات مطالبه سيُفشِلان عمليات التجميل ومنتديات الحوار من أجل صور الحوار التي قد تكون أشبه بفاترينة بازار في الموسكي يحاول صاحبه، لو كان جشعًا، إقناع سائح أجنبي بأصالة معروضاته.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.